اطبع هذه الصفحة


روح المؤمن .. في مواطن الشدة والبلاء والألم

عائض الدوسري

 
يحكى أن حكيماً كان متضلعاً في الحكمة والمعرفة الروحية، وكان يرسل تلاميذه نحو البلدان والقرى الصغيرة كي يعلموا الناس تعاليم الحكمة والمعرفة.

لكنَّ هذا الحكيم كان يحمل هماً كبيراً تجاه قلعة كبيرة في جبلٍ تقع خلف قريته الصغيرة؛ وكان أهلها برابرة ومن المتوحشين، ولذلك لم يجد من تلاميذه من يجرؤ على دعوتهم أو تبليغ تعاليمه لهم!

لم يبق هناك من أمل إلا في أقرب تلاميذه له؛ وأحبهم إليه، إنه تلميذه المخلص الذي تربى في حجره، وتذوق الحكمة والمعرفة على يديه منذ نعومة أظفاره.

وقبل أن يبعثه إلى هناك أراد أن يختبره ويمحصه ويجربه، حتى يتأكد تماماً من أنه صالح للمهمة التي أنتدبها له أستاذة.


قال
المعلم : يا تلميذي الحبيب.. إنك مرسل إلى شعبٍ غضوبٍ قاسٍ متوحشٍ، نتوقع منهم أن يفعلوا بك كل شيء، فماذا أنت صانع؟

التلميذ: أكون كما تريد يا معلمي.

المعلم: افترض أنهم بادروك بالسب واللعن فماذا يكون رأيك فيهم؟

التلميذ: أرى أنهم أناس طيبون لأنهم شتموني، ولم يضربوني بيدٍ ولا بحجر!

المعلم: فإن ضربوك باليد أو الحجر؟

التلميذ: أرى أنهم أناس طيبون لأنهم ضربوني باليد أو الحجر، ولم يضربوني بعصاً ولا بسيف!

المعلم: فإن ضربوك بالعصا أو بالسيف؟

التلميذ: أرى أنهم أناس طيبون لأنهم ضربوني بالعصا أو السيف، ولم يقضوا على حياتي!

المعلم: فإن قضوا على حياتك؟

التلميذ: أرى أنهم أناس طيبون لأنهم أسدوا إليّ يداً بيضاء، لأنهم منحوني شرف الشهادة في سبيل إيماني الذي أتشرف أن أموت من أجله.

المعلم: هذا حسن يا بني.. إنك لخير من يستطيع أن يحمل تعاليمي إلى تلك الشعوب البربرية، اذهب يا ولدي فأنت المعلم فعلم غيرك، وأنت الحكيم فعلم غيرك الحكمة، وليكن لك من الزاد ما يعينك على وحدتك، وإن خير الزاد إيمانك يا بني، واصبر على البلاء فإنه ما ازداد عليك إلا لأنه قد اقتربت نهايته، كما يزداد الليل ظلمة إذا قرب الفجر.. سر يا بني والله معك.

قصة ..

مجرد قصة..

لكن إن تعمقنا فيها وجدنا الكثير من المعاني القيمة!

كم نتعرض في حياتنا اليومية لوخز الألم، ذلك الألم الذي ينبعث من موقف البعض منا، فأحياناً نصادف بعض المواقف المؤلمة حينما تصدر كلمة من إنسان تجاهنا، كلمة شتمٍ أو سبٍ أو لمزٍ، تجرحنا تلك الكلمات، وتتفاوت في عمقها من شخصٍ لآخر.

فمثلاً.. الفتاة المؤمنة التي تتعرض لمثل ذلك الموقف المؤلم تجدها –أحياناً- أشد تأثراً من الرجل، بسبب حساسية روحها، وشفافية مشاعرها، ورقة أحاسيسها.

إنها تبذل كلمة الخير.. في مجلس ما، في منتدى ما، وفي مدرسة ما، لكن هذه الكلمة الطيبة والخيرة قد تجلب لها بعض الإحراج، بعض الألم، لأنه ليس كل الناس يقدَّرون كلمة الخير.

مشاعر الإنسان في غاية الرقة والإحساس، إن أحاسيسنا تجري في دمنا، كما يجري الماء في عروق الوردة، لمسة بسيطة ممكن أن تخدش هذه الوردة وتجرحها أو تكسرها!

لكن .. لأنها "وردة" فإنها تبذل لمن آذاها الرائحة الطيبة، إنه يا سادة يكسرها أو يقطفها، ومع ذلك لم تحرمه رائحتها العبقة، وعبيرها الشذيّ، ولأنها "وردة" فأنت ترى الجميع يخطبون ودها، وهكذا حال الإنسان الذي يحمل الكلمة الطيبة، قد يؤذونك في البداية لكنهم في النهاية سيجدون عندك الآمان والسعادة، ولذلك سيفرحون بك وسيعودون إليك.

كيف يمكننا أن نتجاوز نزواتنا الشخصية، ونرتقي نحو "روح المؤمن" ونندمج في الفكرة الأساسية التي نحن بها صرنا بشراً ولها خُلقنا؟

ما أسهل أن ترد الشتم بالشتم، واللعن باللعن، الهدم ما أسهله، لكن الصعب هو البناء، مقابلة الإساءة بالإحسان، والشتم بالكلمة الطيبة، والعبوس بالتبسم، والحزن بالفرح.. كما تفعل الوردة التي تهب نفسها لمن يحب رائحتها.

إن الروح –يا سادة- التي بداخلنا لها أعراس وأفراح، قوتها بمدى ارتباطها بالإيمان، ذلك "الإيمان" الذي من أجله يضحي الإنسان بكل شيء.. بنفسه، ماله، وقته، وينزل مع الناس، مع المساكين، والفقراء، واليتامى، لينسى نفسه وكل شيء.

ذلك "الإيمان" الذي ينزع منا رداء الكبرياء والصلف والتعنت والمكابرة، ويجعلنا نجلس مع المساكين لأننا مثلهم مساكين، نحتضن اليتيم، نمسح دموعه، ونحيي أفراحه وأعراس روحه، نحس بالجوع في بطون الفقراء.

ما أجمل أن يحس الطفل اليتيم في قلوبنا نبض الرحمة والحياة، ما أجمل أن نبتل بدموع اليتامى، ليلقوا معاناتهم عندنا ثم يتنهدوا الصعداء، ثم ينطلقون يركضون هنا وهناك بروح جديدة، بابتسامة جديدة.. إنها الميلاد الجديد يا سادة، ليس ميلاد اليتم بل ميلاد أرواحنا.

لندفع بالتي هي أحسن، نصفح، نغفر، نسامح، نعطف، نحب من يبغضنا، نجبر من يكسرنا، ندعو لمن يشتمنا، نثني على من يشوه سمعتنا، نبكي تعاطفاً مع من يكرهنا، نتلمس جراح أعدائنا، نتحسسها، نداويها، ونحن في كل ذلك من بعيد وخلف الستار، ولعل الأيام – من يدري- وفي وقت ما توصل لهم أننا نحن الذين فعلنا ذلك، لأننا نحب من يبغضنا، ونعطف على من يكرهنا.. لأننا نؤمن أن الجميع مسافر وعلى جسر قصير، والمسافر في غربته وسفره؛ يحب أن يجد من يأخذ بيده.

آه.. أمممم

إنها أخلاق مثالية يا سيدي!

إنك يا سيدي تعيش في جزيرة قدسيَّة!

أم أنك تخدع نفسك؟

لا .. يا سادة.

إنه الإنسان الأعظم.

إنه الإنسان الأكمل.. الذي فعلها وجعلها واقعاً.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة -بعد أن آذاه كفار قريش بكافة صنوف الأذى- إلى الطائف، على أمل أن يجد من يقبل بتعاليم السماء. لكنه صادف من أهل الطائفة أشد الأذى والسخرية، بل والرجم بالحجارة!

خرج من الطائف مسرعاً هو وتلميذه النجيب "زيد بن حارثة" واضطرا أن يدخلا مزرعة في طريقهم، يستظلون بها، ويستريحون، ويبتعدون عن أذى سفهاء الطائف الذين أغروا بهم الناس.

كانت أقدام النبي -أعظم إنسان مشى على وجه الأرض- صلى الله عليه وسلم تتصبب دماً، وجبينه يتصبب عرقاً..

لقد أجهدوه..

لقد أتعبوه –بابي هو وأمي..

لقد بالغوا في أذيته..

وهو الذي جاء ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى!

وفي غمرة الإجهاد والتعب، والدماء تنزف، يأتي من بعيد حارس المزرعة الغلام النصراني يشق بحيرة السراب..

لقد أشفق على ذلك الرجل الذي يظهر عليه جلال وضياء أهل الصلاح، ووجه ينبعث منه النور والخير، ويتعجب كيف ُصنع به ذلك؟

يأتي ذلك الغلام بعنقود عنب.. ويتقدم، ويقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، فينظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيتبسم تبسماً فاحت له جميع أزهار البساتين بالعطر والياسمين، فينبهر الغلام من ذلك الرجل الذي مع ما أصابه إلا أنه يتبسم بقوة وإيمان لا نظير له!

يتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع الغلام بحديث لطيفٍ رائعٍ، والغلام يتعجب من هذا الإنسان العظيم!

فيسأله صلى الله عليه وسلم: من أي البلاد أنت؟

الغلام: من نينوى.

النبي صلى الله عليه وسلم: نينوى (!!) إنها بلد الرجل الصالح يونس بن متى.

الغلام – المنبهر- : وكيف تعرفه؟!!

النبي صلى الله عليه وسلم: يونس بن متى هو أخي، هو نبي وأنا نبي.

وهنا يقف الغلام ..!

وهو يفكر!

إلهي، إلهي: أي إنسان أنا أقف معه وأتحدث الآن؟!

إنه نبي آخر الزمان، وأعظم الأنبياء، إنه النبي الذي بشر به إبراهيم، وموسى وداود وسليمان ودانيال وعيسى، لقد بشروا بولادة أعظم إنسان على الإطلاق، بولادة مخلص الإنسانية، بولادة النور والرحمة البشرية، بولادة : أيادوكيا، أو الفارقليط، أو أحمد، أو محمد، الذي قال عنه المسيح ابن مريم: ذلك الإنسان العظيم الذي لا استحق أن أحل رباط حذائه!!

أنا الآن أقف أمام الرجل الذي يتمنى جميع الخلق أن يروه.. يا إلهي!!

وهنا .. يندفع الغلام النصراني (عداس) يبكي ويقبل أرجل النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمسح بها، وهو لا يصدق أنه أمام محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء، وخير الخلق!

فرح النبي صلى الله عليه وسلم بكسب هذا الغلام، فرحلته الطويلة والشاقة والمؤلمة، لم يخرج منها إلا بغلام واحدٍ فقط، ومع ذلك سر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله كتب على يديه أن يرى النور.

الله سبحانه وتعالى يرى ما يفعله نبيه صلى الله عليه وسلم، وما تعرض له من مشاق وبلاء، هكذا هي سنة الأنبياء وكل المصلحين.

وعندما أقترب النبي صلى الله عليه وسلم من دخول مكة، خاطبه رئيس الملائكة وجند السماء (جبريل) يعلمه أن معه ملك الجبال يستأذنه في تدمير كفار قريش، بإطباق الأخشبين عليهم !

النبي صلى الله عليه وسلم يعلم جيداً أن كفار قريش قد آذوه، وقتلوا أصحابه، واغتصبوا أموالهم، وعذبوهم، فهل ينتقم منهم يا ترى؟

هل حانت ساعة الانتقام والتدمير؟

هل ينتقم النبي صلى الله عليه وسلم الآن؟

هل يصفي حساباته مع خصومه؟

كلا .. يا سادة!

فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، ولذلك خاطب جبريل قائلاً: كلا يا جبريل.. فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله!!

الكلمات تتوقف.. والحروف تتبعثر.. لينطق الضمير، وتتألق الروح، وتلهج الألسن بالتسبيح لله، والصلاة على نبيه.

 

حول التفجيرات
  • بيانات
  • مقالات
  • شبهات وردود
  • أحكام التكفير
  • حقوق الوالي
  • كتب وبحوث
  • مبادرة العفو
  • الصفحة الرئيسية