اطبع هذه الصفحة


التأويل .. طريق الفتنة وإراقة الدماء " !!

دكتور استفهام

 
عندما تريد ان تسير على الطريقة التي يسير عليها بعض المتجرئين على الحرمات وخاصة " الدماء " التي حرم سفكها في شريعة الاسلام إلا بحقها تجد أنك بــ " التأويل " تستطيع ان تمتهن بسهولة الفتك والقتل والتقطيع لكل من خالفك ، وهذه هي عادة من ولغ في الفتن ، او تهاون في التأويل المؤدي الى سفك الدماء بغير حق .

إن " الفتك " الذي نشاهده في الساحة اليوم ، من تفجير للمباني ، والفنادق ، والتجمعات بحجة " مجاهدة الكفار وأعوانهم " لهو باب من أبواب التأول المذموم الذي جر على الامة الويلات ، فذاك مخالف في العقيدة ، وهذا مجمع للاستخبارات والاعداء ، وهذا عون للمحتل ، وذاك مخذل عن الجهاد ، وذاك جاسوس ، وهلم جرا من باب التأول الذي يستبيح الانسان معه قتل " المسلم " ، الذي تظافرت نصوص الشريعة على حماية كل ما يضيره في دينه وعقله ونفسه وماله وعرضه ، ثم ينتقل البعض من هذا الأصل الأصيل والركن المكين ، ليستحلوا دمه متأولين بتأويلات هي اوهي من بيت العنكبوت ..!

إن المشكلة الآن ليست فيمن يباشر " القتل " بتأول بارد غير سائغ ، بل المشكلة الآن في الطابور العريض الذي يقف خلف القاتل حاشدين عشرات التأويلات والتخريجات لفعله ، مبررين جرما شهدت نصوص الوحيين ببشاعته والتحذير منه ، وما هذا إلا قلة في الورع عن التخوض في الدماء المحرمة ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري من حديث ابن عمر " لا يزال المسلم في فسحة من دينه مالم يصب دما حراما " ، ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى في تنزيه الإنسان نفسه عن التخوض في الدماء ، والتبرؤ من كل عمل فيه فتك بمسلم يشهد ألا اله إلا الله وان محمد رسول الله ..!

إن " التأويل " داء أفسد على الأمة تصورها وفكرها ، وسلوكها وحركتها عبر التاريخ ، وما أجمل ما قاله العالم الرباني ، وشيخ الاسلام الثاني ابن القيم رحمه الله في التأول والتأويل حيث يقول :

(وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعلية والنصيرية من باب التأويل، فما امتحن الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن يسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعللوا بالأباطيل. فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وتبرأ إلى الله من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضى الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل. وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلما وعدوانا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟ وماالذي سفك دم علي رضى الله عنه وابنه الحسين وأهل بيته رضى الله تعالى عنهم غير التأويل؟ وماالذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقا من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟ ) . ( إعلام الموقعين 4/ 251 ) .

فإذا كان التأويل والتأول مفسدا لتصور الانسان وعقيدته ، فانه كذلك مفسد لسلوكه وطريقته - حتى في جهاده- ، ولذلك كانت الافعال التي تبرأ منها النبي صلى الله عليه وسلم والتي حدثت من بعض الصحابة الكرام من باب التأول في الدماء ، والتي أوجبت غضبه عليه الصلاة والسلام والبراءة منها واعلان ذلك أمام الملأ الى يوم الدين لخطورة الامر وعظم شأنه .

إن الرجل العاقل الحصيف لا ينتقل من الأمر القطعي اليقيني وهو حرمة ازهاق الارواح بلا حق ، إلى أمر يقدم عليه وهو لم يتيقن صحته ، معتمدا في ذلك على تسويغات لا يوافقه عليها جمهور الناس ، فإن فعل هذا فقد أحدث في الأرض الفساد ، فان الله يكره إزهاق الارواح بلا حق ، حيث كانت اول خطيئة ارتكبها البشر على وجه الأرض هي " القتل " الذي تضافرت شرائع الانبياء على انكاره والتحذير منه إلا بحقه ، واذا ما انتقل الناس من القطعي اليقيني الى الظني فإن هذا يعني وجود الخبال والفساد والفتن ، ولكل شخص ان يقتل مخالفه متأولا ، فيعظم الفساد في الأرض ، وتزهق أرواح الابرياء بتأول المتأولين وعجلة الطائشين .

إن جهاد الكفار المحتل ، وقتال المعتدي الظالم حق مكفول للانسان ، لا يعيبه أحد على من فعله ، وهو القدر المتفق عليه ، والمتفق على صحة فعله ، حتى وان اختلفت الناس في تقدير مصلحه فعله من عدمها ، واذا ما انتقل الناس من القدر المتفق عليه الى القدر المختلف عليه ، ووقعوا في التأول والتأويل في القتال ، وخاصة فيمن اصله الاسلام فان هذا هو الذي يحدث تأخر النصر ، وفتك العدو ، وتسلطه ، وتشويه صورة الجهاد ، وايجاد المبررات للنكاية بالمخالف بحجج يقدمها البعض على طبق من ذهب للأعداء ، لأن الفتك والقتل من التظالم الذي يوجب سخط الله ، وتأخر نصره ، وتسليط الأعداء ، واهلاك الامم ، سواء وقع هذا الظلم بيد عدو كافر مكشر عن أنيابه ، او بيد متأول يبطش بالناس ، ويخرج على الأمة فيضرب برها وفاجرها بلا تردد او تقوى او خشية من الله .

إن بعض من يتجرأ على الدماء يقول بأننا لو كنا نستهدف المسلمين لاستهدفنا تجمعاتهم ، وبيوتهم ، ولكننا نستهدف الاعداء حتى لو كانوا بين المسلمين ، فيقال : بأن الصورة الأولى صورة ظالمة تتفق العقول والشرائع على تحريمها ، ومحصلتها النهائية هي قتل النفس بغير حق ، وفيها تتنزل الايات الكثيرة في عقوبة من فعل هذا عمدا " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجراؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما " ، وتحريم القتل العمد لا يختلف كثيرا عن تحريم " التأول " في الدماء ، وان كانت صورة التأول تعطي الانسان نوع تبرير لفعله ، وإلا فالمحصلة واحدة : قتل المسلم بلا ذنب وبلا وجه حق ، ولو كان " التأول " في الدماء يعفي المسلم من تبعة ذلك في الآخرة لما اعلن النبي صلى الله عليه وسلم البراءة من هذا الفعل، ولكان فعل الخوارج سائغا لأنهم يكفرون المسلم وهم متأولون التأول الذي يدرأ عنهم الكفر ...

إن المسألة خطيرة ، والأمر جلل وفي ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... والله اعلم !

 

وقفه مع الأحداث
  • بيانات
  • مقالات
  • شبهات وردود
  • أحكام التكفير
  • حقوق الوالي
  • كتب وبحوث
  • مبادرة العفو
  • الصفحة الرئيسية