اطبع هذه الصفحة


نظرات في أحداث بقيق الأخيرة

فتى الادغال

 
أيّاً كان المنفذ لعملية بقيق الأخيرة – وأنا من أشدِّ المنكرينَ لها -، إلا أنَّ هذه العمليّةَ لا يمكن قبولها أو إقرارها تحت أي ذريعة، وقد عانينا في المملكة لفترة ليستْ باليسيرةِ من أولئك الذين خرجوا على الجماعةِ وفجّروا، وكانتْ عاقبةُ تلكَ التفجيراتِ وبالاً على الجميعِ، وهو ما دعانا حينها إلى القولِ بضرورةِ تحكيمِ العقلِ ومراجعةِ النفسِ وإعلانِ التوبةِ، فالعاقلُ يعتبرُ بمصارعِ من هلكَ، ويبحثُ عن السلامةِ والنّجاةِ، لاسيّما إن تعلّقَ الأمرُ بفسادِ الدينِ والدّنيا.
تكمن المشكلة في نظري أنَّ هناكَ أناساً لا يدركونَ خطورةَ الأعمالِ الفرديّةِ وجنايتها على الأمّةِ جميعاً، والنزعةُ الفرديّةُ قد تكونُ داءً قاتلاً فيما لو كانَ صاحبهُ على الحقِّ، فكيفَ لو كانَ يسلكُ طريقهُ منحرفاً عن سواءِ السبيلِ؟.

تعتبرُ منطقتُنا الآن البؤرةَ المناسبةَ لتمريرِ المخطّطاتِ وتنفيذِ الأجنّدةِ الغربيةِ، وأي حدث يحصلُ فيها سوف يكونُ صالحاً وقابلاً للإفادة منهُ بما يعودُ علينا وعلى المنطقةِ بالضررِ البالغِ، وإذا نظرنا إلى احتلالِ العراقِ فإننا نرى كيف قرّرت أمريكا غزوها رغم عدم وجود المسوغات الكافية، بل اعترفت لاحقا أنها احتلت العراق بمبررات مكذوبة، أي أن هناك عدوا متربصا بنا ينتظر الثغرات المناسبة للوثوب.

النظرةُ الفاحصةُ للأجواءِ المتوترةِ في المنطقةِ، توحي بأنَّ عملياتِ التفجيرِ والعنفِ في البلدانِ الإسلاميّةِ، تعني المزيدَ من التكريسِ للقوى الخارجيّةِ، فبحسب المشاهد نرى أنَّ الضغوطاتِ تزيدُ على البلدان الإسلاميّةِ فورَ حدوثِ أعمالِ العنفِ، مع أنَّ هذه الدولَ تنبذُ كافّةَ أشكالِ العنفِ، وتتأذى منهُ شخصيّاً، إلا أنَّ الهيمنةَ والنفوذَ القويَّ للدولِ الإمبرياليّةِ تجعلها تتحكّمُ وتُحدّدُ المسارَ الملائمَ لتوظيفِ هذه الأحداثِ.

هذا فضلاً عن الحديثِ في الفراغِ الأمني الذي تبحثُ عنه أمريكا، الأمرُ الذي يبرّرُ تواجدها في المنطقةِ، ويُبرر تدخلها في شئونِ الدولِ، وقد يتعدّى الأمرُ أحياناً إلى التلويحِ بالخيارِ العسكريِّ، وإنَّ من نافلةِ القولِ التذكيرَ بتصريحِ الرئيسِ جورجِ بوش في هذا اليومِ، عندما أعلنَ أنَّ إيران هي الدولةُ الأولى الراعيةُ للإرهابِ في العالمِ، وهذا تصريحٌ لهُ ما بعدهُ، خاصّةً إذا علمنا أن أمريكا في الفترةِ الأخيرةِ فقدتِ الصوابَ في القدرةِ على التركيزِ، فأصبحتْ ترمي بنفسِها وقوّتها في بؤرِ التوتّرِ دون أن تحسبَ حسابَ ذلكَ.

تلوحُ في الأفقِ نذرُ سوء، تنبئُ بوجودِ فراغٍ أمنيٍّ هائلٍ في المنطقةِ، وهو أمرٌ كانتْ تبحثُ عنهُ أمريكا، لأنّهُ سوفَ يُفيدها في تبريرِ وجودِها واستمرارهِ، كما أنّهُ مفيدٌ من النّاحيةِ الإعلاميّةِ، إذ ستنقلُ نقطةُ التركيزِ من حيّزها الصحيحِ إلى جهةٍ أخرى، فهو سوف يؤدّي إلى تشاغلِ الرأي العامِّ بمثلِ هذه القضايا، بينما تتفرّغُ إسرائيلُ في تصفيةِ الحركاتِ المقاومةِ في فلسطينَ، وقد لاحظنا مؤخرا كيف خفت وهجُ القضيّةِ الفلسطينيّةِ، بسببِ انشغالِ الناسِ بمتابعةِ أحداثِ العراقِ، كما أنَّ توجيهَ الرأي العامِّ إلى مثلِ هذه الحوادثِ سوف يغطي فشلَ أمريكا في حربِها على العراقِ، فهي تتلقى هناك ضرباتٍ موجعةً، ومشروعها صارَ يتحرّكُ ببطءٍ شديدٍ.

وإذا عدنا بالذاكرةِ إلى الوراء قليلاً، فسنرى أن أمريكا برّرت حربها على العراقِ بوجودِ أسلحةِ دمارٍ شاملٍ، وبتبريرٍ آخرَ ساذجٍ وسطحيٍّ إلا وهو وجودُ تعاونٍ بين العراقِ وتنظيمِ القاعدةِ، وبعد الحربِ وانتهائها وثبوتِ الكذبِ الصريحِ لأمريكا، لجئت إلى تبريرٍ جديدٍ ألا وهو نشرُ الديمقراطيّةِ وقيَمِ الحرّيّةِ واستئصالِ الأنظمةِ القمعيّةِ – وهي التي غرستْ تلك الأنظمةَ وتحالفتْ معها سابقاً -، وذلك تغطيةً منها لكذبها، وتذرّعا لأعمالٍ مشابهةٍ قد تحدثُ منها مستقبلاً، وهذا يعني أنَّ الدولَ القويّةَ التي تمتلكُ قاعدةً إعلاميّةً صلبةً، بإمكانها تحويلُ الهزيمةِ إلى نصرٍ ظاهرٍ.

وما أحداث العراقِ الأخيرةِ عنّا ببعيدٍ، فالتناحرُ الداخليُّ بين السنّةِ والشيعةِ – وهو بلا شك تناحرٌ مفتعلٌ – سوف يُفرّغُ الجيشَ الأمريكيَّ لمواصلةِ خططهِ التوسّعيةِ، كما في قاعدةِ " فرّق تسد "، وهي قاعدةٌ قديمةٌ كانت قوى الاستعمارِ تعملُ بموجبِها، وهذا لا يعني التهاونَ مع الشيعةِ أو التقليلَ من خطرهم، فنحنُ نعلمُ ماذا فعلوا بالسنّةِ وكيف أباحوا أرضَ العراقِ للمُحتلِّ الأجنبيِّ، إلا أنَّ الأعداءَ يتفاوتونَ في المنزلةِ، وقد يكونُ دفعُ بعضِهم أولى من دفعِ البعضِ الآخرِ.

إنَّ طموحات المحافظين الجدد في أمريكا لا تنتهي، وحلمهم بالسيطرةِ على أماكنِ القوّةِ والاقتصادِ في العالمِ لا يزالُ قائماً، ورأينا في أحداثِ العراقِ كيف وضعوا يدهم على النفطِ وآبارهِ، وتركوا الأمنَ في باقي العراقِ تحتَ رحمةِ الجزارينَ من فيلق بدر وبقيّة ميليشيا الشيعة، وتفرّغوا هم لتقاسم حصتهم من كعكة العراقِ، ولا زالوا يُمنّون أنفسهم بالإجهازِ على إيرانَ، وتجفيفِ العملِ الخيريِّ في دولِ الخليجِ، وتصفيّةِ النفوذِ الخارجيِّ لأي دولةٍ إسلاميّةٍ ذاتِ تأثيرٍ، وفرضٍ أنماطٍ إصلاحيّةٍ تواكبُ المنهجَ الغربيَّ، وهو ما سوف يدعمهم فيهِ أولئكَ الذين يستهدفونَ بلادَ المسلمينَ بالتفجيرِ، سواءً شعروا بذلك أم لو يشعروا.

كما لا ننسى أنَّ هاجسَ العالمِ الأوّلَ الآن هو الاقتصادُ، وهجماتٌ مثلُ ضربةِ بقيقٍ لو قُدّرَ لها – لا سمحَ اللهُ – أن تتمَّ ، فإنّها سوفَ تؤثّرُ على الاقتصادِ في البلادِ، وقد تتسبّبُ في كوارثَ كبيرةٍ.

ثُمَّ ما ذنبُ عامّةِ النّاسِ تُستباحُ أموالُهم وأنفسُهم ودماءهم ؟ ولماذا صارَ البترولُ وهو ملكٌ للشعبِ كلّهِ هدفاً لتفجيرهِ وتدميرِ عصبِ الحياةِ في البلادِ؟، ثمَّ لماذا صارَ وقودُ هذه العمليّاتِ شبابٌ صغارٌ في السنِّ، ليسَ لهم تجربةٌ سابقةٌ أو خلفيّةٌ علميّةٌ؟!.

هذا الذي جرى ويجري هو جريمةٌ منكرةٌ بكلِّ المقاييسِ والأعرافِ، لا يمكنُ قبولهُ، أو تبريرهُ، أو السكوتُ عنهُ.

نحن الآن في حاجةٍ ماسّةٍ ملحّةٍ إلى كشفِ الخللِ العلميِّ والواقعيِّ لهذه الجماعاتِ التي تبني خطابها على المصادمةِ والعنفِ، فهي لا تُدركُ خطرَ ما تسعى إليهِ، وتعتقدُ أنَّ بإمكانها تغييرَ الحالِ، بينما الواقعُ يؤكّدُ عكسّ ذلكَ، فالطغيانُ الغربيُّ يزدادُ، والمؤشراتُ لصعودِ الليبراليينَ وبزوغِ نجمهم أخذت تتصاعدُ، وراحتْ أمريكا تمّدهم بمئاتِ الملايينِ من الدولاراتِ، بينما نرى الطبقاتِ المحافظةِ أصبحتْ تُحاصرُ وتُهاجمُ من قِبلِ أمريكا.

ولو تأمّلنا لوجدنا ضموراً واضحاً للوعْي السياسيِّ والشرعيِّ في هذه الهجماتِ، فهي تعتمدُ على أسلوبِ التشفّي والنكايةِ، ممّا يعني غيابَ البُعدِ الدينيِّ الذي كانتْ تنتهجه الجماعةُ قديماً، فلمّا انفرطَ عقدُ الأحداثِ صارَ الأمرُ فوضى لا يتحكّمُ فيهِ إلا الهوى.

هذه المجموعاتُ يجبُ التصدّي لها، فهي لا تُدمّرُ بلدانها فحسب، بل سوفَ تؤثّرُ على العالمِ الإسلاميِّ كلّهِ، وما بناهُ المخلصونَ من رجالِ العلمِ والخيرِ والإصلاحِ أخذُ ينهارُ يوماً بعدَ يومٍ، بسببِ تواصلِ هذه الأعمالِ التخريبيّةِ، وإذا فتّشنا عن المسئولينَ عن هذه الأحداثِ فإنّنا نجدهم قد قضوا نحبهم أو سُجنوا، أيَّ أنَّ الأحداثَ خاليةٌ من التأثيرِ الإيجابيِّ بالنسبةِ لهم، ومع ذلك تتمادى البقيّةُ الباقيةُ في ذاتِ الطريقِ، مع أنّها مُجرّدُ أدواتٍ فاعلةٍ ولا تمتلكُ القدرةَ على التأثيرِ أو الإقناعِ.

ختاماً أسألُ اللهَ أن يحميَ بلادَ الحرمينِ من خطرِ المفسدينَ، وأن يردَّ كيدَ العدوُّ في نحرهِ، وأن يجمعَ قلوبنا على الخيرِ والهُدى والصلاحِ، كما أسألهُ سُبحانهُ وتعالى أن يهديَ ضالَّ المسلمينَ ويردّهم إليهِ رداً جميلاً.

دمتم بخيرٍ .

 

وقفه مع الأحداث
  • بيانات
  • مقالات
  • شبهات وردود
  • أحكام التكفير
  • حقوق الوالي
  • كتب وبحوث
  • مبادرة العفو
  • الصفحة الرئيسية