اطبع هذه الصفحة


تذكرة بحقوق ولاة الأمور

د.عبدالقادر بن محمد الغامدي


الحمد لله الواحد الأحد , شرع لنا دينا قويما , نطقت الألسن وأيقنت القلوب بالوحدانية حين معرفتها ببعض حكمه البالغة , وأنه ما من أمر جاءت به الشريعة ولا نهي نهت عنه إلا وكانت فيه الحكمة البالغة التي تندهش لها عقول الألباء وتستسلم بالعبودية لمنزلها من غير شريك , وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين الذي لم يطرق العالم مثل الشريعة التي جاء بها في شمولها وكمالها وجمالها وموافقتها للفطر المستقيمة والعقول السليمة , وملائمتها لكل زمان وكل مكان بعده إلى يوم القيامة , وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد ؛

فمما اتفقت عقول أهل العقول الراجحة من كل ملة ونحلة ومذهب على ضرورة تنصيب إمام للناس , وإلا حصلت الفوضى وظهر الفساد , وغار القوي على الضعيف , وسفكت الدماء واغتصبت الأعراض , وهجم اللصوص على الناس , وأصبح الناس أحياء كلا أحياء , وليسوا بأموات , فاتفقت هذه العقول على ضرورة تنصيب إمام عليهم يقيم عقوبات ويهابه المجرمون , ويحصل للناس الأمن , ويعيشوا حياة كريمة , فتنصيب الإمام مما تستحسنه العقول السليمة , لذلك جاء الإسلام بوجوبه فقد عُلم بالضرورة من دين الإِسلام أنه لا دين إلاَّ بجماعة، ولا جماعة إلاَّ بإمامة ، ولا إمامة إلاَّ بسمع وطاعة , وفي الحكمة : ستون سنة بإمام فاجر خير من ليلة بلا سلطان .

ودين الإسلام ما من مصلحة محضة أو راجحة إلا وحث عليها وأمر بها , وما من مفسدة محضة أو راجحة إلا ونهى عنها , وبقدر المصلحة يكون الثواب , وبقدر المفسدة يكون العقاب , لذلك جاء الإسلام في عقيدة أهل السنة والجماعة بوجوب تنصيب الإمام, ولو على كل قطر إمام , أو ثلاثة في سفر , وجعل من لم يخضع لطاعة الإمام من أهل الجاهلية , وجعلت موته إن مات على ذلك ميتة جاهلية , لكن جاء بما لم يأت به أحد , وما لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه في تفصيلات حول الإمام , فتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط , فجعل الدين الإسلامي لهذا الإمام حقوقاً وعليه حقوقاً , فلم يجعله إلهاً أو نبياً يطاع الطاعة المطلقة , بل يطاع بالمعروف وفي غير معصية الله , وإذا حاد عن الطريق الشرعي أوجب نصيحته لكن بالطرق التي تجلب المصلحة الراجحة وتدرأ المفسدة الراجحة أو المساوية للمصلحة , فتوسط أهل السنة في نصيحة الإمام بين من يداهنون الإمام ويطيعونة الطاعة المطلقة , وبين من يخرجون عليه لبعض المعاصي وهو مسلم وينزعون اليد من طاعته , ويخلعون بيعته , ويسقطون هيبته حتى يتسلط اللصوص ويتجرأ المجرمون , وتزول المصلحة والحكمة من تنصيبه , ورأوا ألا تعارض بين عدم مداخلته وعدم قبول عطيته إذا ترتب عليها ترك الحق , وبين نصيحته والدعاء له وعدم الخروج عليه , وفي ضل هذه الظروف الراهنة تكاد حقوق ولي الأمر تنسى أو تزال , ويكاد هذا الأصل وهو طاعته بالمعروف وكثرة الدعاء له وعدم غيبته وإسقاط هيبته ينسى , خاصة مع وجود بعض الظلم من بعض المسئولين , وتجاوز أحكام الشريعة , لذلك كان هذا المقال للتذكير بهذه الحقوق لولي الأمر المسلم نصيحة له وللمسلمين .

الحق الأول : السمع والطاعة في المعروف , ولو جار ولو استأثر بالأموال , مالم يقع منه الكفر البواح الذي عندنا من الله فيه برهان , مع الاستطاعة على ترك طاعته والخروج عليه فيجب ذلك , وأما مع عدم الاستطاعة فلا يجوز الخروج عليه لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة وشرور مستطيرة منها سفك الدماء واغتصاب الأعراض وزوال الأمن وتسلط الكفار وغير ذلك , أما إذا كان مسلماً لكن فاجراً ظالماً كالحجاج الثقفي يقتل العلماء أو يمنع الناس حقوقهم من بيت المال , أو يشرب الخمر ويزني ونحو ذلك , لكن الشريعة قائمة والحدود ماضية فيجب الصبر عليه وعدم الخروج عليه هكذا مضت السنة . ولم يخالف في هذا إلا الخوارج والمعتزلة , كان فيه خلاف بسبب عدم وصول الأدلة لبعض العلماء ثم استقر إجماع أهل السنة على المنع من الخروج عليه بعد وصول السنن ومعرفة المفاسد الحاصلة بالخروج .

الحق الثاني :
الدعاء له بالصلاح والمعافاة , بل قال الفضيل : لو كان لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان , فيلح أهل السنة في أوقات الإجابة في الدعاء له بالهداية والصلاح والمعافاة .

الحق الثالث : ترك غيبته , وترك إسقاط هيبته التي تجر إلى الخروج عليه , بل يُربى الناس على الدعاء له والصبر على جوره وظلمه , وعلى النصيحة له بالطرق الصحيحة , ويخبرونهم أن ظلمه بسبب ذنوب العباد فليشتغلوا مع نصيحته بإصلاح نفوسهم , ولا يشتغلوا بسب السلاطين وفي الأثر المعروف الذي يذكره أهل السنة في عقيدتهم في هذه المسألة لموافقة معناه للنصوص يقول الله عز وجل : أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة , ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك , وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم .

الحق الرابع : نصيحته , والأصل أن يكون ذلك سراً , وما جاء عن بعض السلف من الإغلاظ فحين تكون النصيحة سراً لا فائدة منها , ولا يصلح السلطان إلا بذلك , ويكون ظالماً وهذه يراعيها العلماء ويصدعون بالحق المر ولا تأخذهم في الله لومة لائم .

الحق الخامس :
التعاون معه على البر والتقوى , ومشاركته في الخير كالحج والجهاد والجماعة ونحو ذلك كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم مع الحجاج .

الحق السادس : الصبر على جوره وظلمه , وإن جلد ظهرك وأخذ مالك , وسجنك بغير حق , وهذه السنة تكاد تنسى عند كثير من الفضلاء ممن تعرض لشيء من الظلم , فيخرجوا إلى البدعة وربما أحبطوا أعمالهم السابقة , ولم يتذكروا مسألة الإيمان بالقدر , وأن هذا ابتلاء لهم واختبار ليعرف صبرهم ولتكفر سيئاتهم , مع أن الظالم سيلقة جزاءه العادل , فيجب معرفة ونهج السلف مع مثل هذه المسائل كإمام أهل السنة أحمد بن حنبل مع ما حصل له من السجن والضرب العظيم , فصبر ولم يدعو عليهم وقال : من دعا عليهم ما صبر , ولم ينزع يداً من طاعة , ولم يخرج عليهم , وهذا هو الناسك حقاً رحمه الله الذي يتبع السنة في العسر واليسر , والمنشط والمكرة .

وهذه بعض الأدلة والآثار القليلة لكن المباركة التي تدل على بعض ما سبق :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء:58] .
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلاَّ أن يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة) .
وفي صحيح مسلم عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال : سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال: يا نبي لله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا ؟ فأعرض عنه، ثم سأله ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة ؟ فجذبه الأشعث بن قيس ، وقال : ( اسمعوا وأطيعوا ، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم ) .
وفي صحيح مسلم - كتاب الإمارة - أنّ عبد الله بن عمر جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية ، فقال عبد الله بن مطيع : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال : أني لم أتاك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً، سمعت رسول الله صلى يقول: (من خلع يداً من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعه ، مات ميتة جاهلية ) .
يقول الحسن البصري - رحمه الله تعالى – في الأمراء: (هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلاَّ بهم، وإن جاروا وظلموا. والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأن فرقتهم لكفر)
يقول – حنبل - رحمه الله تعالى -: (اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله - يعني: الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى-، وقالوا له: أن الأمر قد تفاقم وفشا - يعنون (إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك) ولا نرضى بإمارته، ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر ويُستراح من فاجر . وقال : ليس هذا - يعني: نزع أيديهم من طاعته - صواباً، وهذا خلاف الآثار) .
وقال الإمام الحسن بن علي البربهاري - رحمه الله تعالى - : ( إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فأعلم أنه صاحب هوى . وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سنّة إن شاء الله تعالى ).
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ( وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً) .
هذه بعض حقوق ولاة الأمور وبعض الأدلة , ذكرتها موجزة للتذكير , وقد بسطها الكثير من العلماء وطلبة العلم , وإنما أردت التذكير بها في هذه الفتن العصيبة , والله تعالى أسأل أن يجنبنا الفتن , وأن يوفق ولاة أمورنا لكل خير , وأن يصلح بطانتهم , ويقيهم شر بطانة السوء , ويوفقنا وإياهم للأقوال والأعمال التي ترضيه , إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .


د.عبدالقادر بن محمد الغامدي
20/6/1432هـ

 

وقفه مع الأحداث
  • بيانات
  • مقالات
  • شبهات وردود
  • أحكام التكفير
  • حقوق الوالي
  • كتب وبحوث
  • مبادرة العفو
  • الصفحة الرئيسية