اطبع هذه الصفحة


البسـمة الغـاليـة

د. عبد المجيد البيانوني

 
في حفلة بهيجة أقيمت في منزل أبي منصور ، فرحا بحفظ ولده منصور للقرآن ، ذلك الشاب الأنيق الظريف ، الوسيم اللطيف ، الذي لم يتجاوز الخامسة عشر من العمر ، والذي عرف بين إخوانه وأصحابه برهافة الحس ، ورفعة الذوق ، وحسن العلاقة مع كل من يعرفه ..

كان كل من في البيت في ذلك اليوم يهتز بهجة وسرورا ، ونشوة وطربا ، وكانت أم منصور لا تكاد تملك دمعتها ، فلا تشعر بين الحين والآخر ، إلا وتتساقط حبات الدمع على وجنتيها ، وكأنها دمعة الشوق عند ذكر الحبيب ، أو مطر السماء إذ يعناق خضرة الربيع ..

وكان والد منصور لا يهدأ عل الأرض من شدة فرحه ، فلا يكاد يجلس إلا ليقوم أو يذهب إلا ليجيء ، الابتسامة لا تغادر محياه ، وبهجته لا يوازيها شيء في هذه الحياة ..

لقد كان في فرحة أشد من طرب النفس بفرحة العرس ، إنه يعيش فرحة الانتصار على جبهة من جبهات الصراع الكثيرة في هذه الحياة ..

وحضر رفاق منصور ، وفي يد كل منهم هدية معبرة ، ابتهاجا بأخيهم ، الذي طالما قدم لهم الهدايا بمناسبة وغير مناسبة ..

واستقر المجلس بأهله ، وافتُتِح الحفل بتلاوة للقرآن الكريم ، وتكلم والد منصور ، فشكر الحضور ، وأثنى عليهم بكل خير ، وعبر عن فرحته الغالية بهذا اليوم ، الي لا توصف ولا تقدر ..

وخص بالشكر أساتذة منصور ، الذين كان لهم أثر كبير في نشأة منصور واستقامته ، ومثابرته على حفظ القرآن الكريم حتى أتمّه ، وكيف صبروا على متابعته بكل حب ورغبة ، وتحمل لحركاته التي لم تكن بعيدة العهد فتنسى ، ولا قليلة فيغض الطرف عنها ، أو يتجاوز أمرها ، وليس لهم من جزاء إلا فضل الله تعالى وحسن تكريمه لأهل القرآن ، وخواص حملته ..

وتكلم بعض الأساتذة الحاضرين وهنأ والد منصور بولده ، وعبر عن فرحة الجميع به .. ثم طلب من منصور أن يتكلم بهذه المناسبة ، وأن يعرف إخوانه والحاضرين : كيف بدأت مسيرته مع القرآن الكريم ، وما أهم الأمور التي جرت معه ، وما المواقف التي مرّت به مما لا ينسى ، وفيه عبرة لإخوانه ..؟ وماذا يقدم لإخوانه من نصائح تعينهم على إتمام مسيرتهم مع القرآن الكريم ، حتى يتموا حفظه بإذن الله تعالى على أكمل وجه ، وبأقرب وقتٍ ..؟

فتكلم منصور ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم أثنى على والديه ، اللذَين لهما عليه اليد الطولى ، والفضل الذي لا ينسى ، ولا يمكن الوفاء بحقهما من التقدير البر ، مهما ضحى في سبيلهما أو بذل ..

ثم رحب بالحاضرين ، وشكرهم على تلبية الدعوة ، ومشاركة أهله بهذه الفرحة ، ثم قال :
لقد كنت أتوقع أن يطلب مني الكلام ، مما حضرت سابقا من مثل هذه الاحتفالات ، وأنا لا أحسن الارتجال .. فأحب أن أسمعكم كلمة كتبتها وأعددتها منذ شهر لهذه المناسبة ..

" أيها الأحبة في الله ..! لقد أرغمني والدي أول الأمر على ارتياد المسجد ، وأقول بكل صراحة : لقد كان أسلوبه معي - جزاه الله خيرا - شديدا ، لم أجد معه بدا من الطاعة ، ولكن بغير رضا ولا ارتياح .. ولم يكن حظي مع الأساتذة الذين كانوا في المسجد ، بأحسن حالا من معاملة أبي .. لقد رأيت من بعضهم تعبيسا وغلظة ، وقسوة في بعض الأحيان تصل بي إلى درجة التنفير ، ومحاولة التهرب من التحفيظ بانتحال شتى المعاذير ..

ومضت علي شهر كنت فيها أُجَرُّ إلى التحفيظ جرا .. فكنت لا أملك أمام ذلك سوى الإهمال والمعاندة ، وادّعاء أنني أحفظ وأنسى ، فليس لي في الأمر حيلة ..!

فكم من مرة جلست في الحلقة ، والمصحف بيدي ، وأنا ساهر النظر ، شارد الفكر ، وربما كنت أحيانا أتصنّع أمام مدرّسي أنني أقرأ وأنا لا أقرأ أيّ شيء ..!

ثم جاءنا أستاذ جديد ، هو أستاذي فلان - وأشار إلى أستاذه - ومعذرة منه إن تكلمت عنه في حضرته .. فهذا كلام حقّ أربد منه العبرة والفائدة فبدافع من المشاكسة وحب التغيير معا ، طلبت الانتقال إلى حلقته .

فقيل لي يومها : ولماذا تطلب الانتقال من حلقتك ؟
فقلت لهم : لا لشيء إلا لتجديد النشاط ..!

وقوبل طلبي بالتجاهل والمماطلة فترة من الوقت ، ثم قلت لوالدي : أنا غير مسرور مع أستاذي في الحلقة ، فإما أن تطلب منهم أن يغيروا لي الحلقة ، وإما ألا أحضر إلى المسجد ، فطلب والدي ذلك ، فانتقلت إلى حلقة الأستاذ الجديد ، وفوجئت أن هذه الأستاذ يختلف عن غيره من الأساتذة الذين تعرفت عليهم ..

تعرّف عليّ أستاذي الجديد باهتمام عجيب ، فشعرت لأول مرة في حياتي بقيمتي وكياني .. وسألني بتقدير واحترام : " كم تحفظ من القرآن الكريم ؟ وكم مضى عليك في التحفيظ ؟ وكم تستطيع أن تحفظ كل يوم ؟ وسألني عن علاقتي مع والدي ، وعن عدد إخوتي .. وألقى عليّ سيلا من الأسئلة لم أجد بعضها من أحد قبله ، وكلها كانت مفعمة بالحب والاهتمام " ومع أنني شعرت منه بالتكريم والاحترام .. ولكني كنت يومها مستغربا لأسئلته ومتحفّظا بعض الشيء .. لما أني ظننت أن التقدير الذي رأيته كان زائدا عن حدّه ، وربما كان ذلك لأنني لم أره من أحد قبله ، فلا عجب أن أراه مستغربا ، لأنه غير مألوف ..!

وختم حواره معي بقوله : " إنني أرى فيك يا منصور طاقة كبيرة ، وذكاء نادرا ، وحيوية قلّ مثلها ، فما أحسن أن توجه طاقتك وذكاءك إلى الجد في حفظ القرآن ، وتحرص على أن تكون سبّاقا لكل هؤلاء الشباب .! "

قال لي هذه الكلمات منذ أوّل لقاء ،
والبسمة الحنون تملأ وجهه ، فأحسست من أعماقي أن نورا من قلبه يشع على قلبي ، فيقع كلامه منه موقع الماء العذب من الظمآن ، أو موقع الدواء من العليل اللهفان ، وصحوت على نفسي لأجد أنني كنت في طيش الأطفال ، وأنا في سن الشباب ..!
وكنت في عبث أسمّيه : " الاشتراك في التحفيظ " ، وما أنا إلا في لهو لن يأتي من ورائه شيء ..!

إنني أيها الأحبة .! لا أكتمكم أنني لا أزال أفكر في تلك البسمة الحانية ، التي استقبلني بها أستاذي ، ورأيتها منه ، منذ اليوم الأول ، ولا أزال أراها لا تفارق محيّاه ، معي ومع غيري من إخواني في التحفيظ .. فأي تأثير كان لتلك البسمة في نفسي .؟! وأي مفعول سحري كان لها في شخصيتي وكياني ؟! وأسائل نفسي بين الحين والآخر : ما الذي حوّل اهتمامي مما كنت عليه إلى الجديّة في حفظ القرآن ، والرغبة الصادقة في الحضور إلى الحلقة ، والحرص عليها ..؟! فلا أجد جواباً لذلك إلا تلك البسمة الكريمة الحانية ، التي استقبلني بها أستاذي منذ أول يوم رأيته فيه .!

لقد رأيت في هذه الابتسامة الكريمة معاني كثيرة كبيرة :
رأيت فيها الإخلاص والحب .. ورأيت فيها النصح والشفقة .. ورأيت فيها الحرص علي وعلى كل الشباب .. ورأيت فيها التقدير والاحترام ..!

وكنت أذكرها في كل موقف ، وأزاها تتابعني في كل عمل ، فأفهم منها الاستحسان عندما أفعل ما يستحسن .. والاستهجان عندما أقع فيما يُستهجن .. والتذكير عندما أغفل عن واجباتي.. والتأنيب عندما أقصر في عملي ..

ولا أظن أيها السادة أنني أشتط في الفهم أو أغلو ، فقد قرأت أن العرب لم يفهموا التبسم على وجه واحد .. أو اتجاه واحد من الرضا والاستحسان .. وإنما فهموه في لغتهم وآدابهم واسعا شاملا على حسب قرائن الأحوال .. وعلى قدر رهافة أذواق الرجال ..!

فكم قيل عن الزعيم الكبير : تبسَّمَ تبسُّمَ المغضب ، إذ كان لا يليق بالشريف الكريم إلا التبسم .. ولكن شتان بين تبسم وتبسم ..!

لقد أعطاني أستاذي بسمة غالية .. فكان ثمنها مني أن تحولت حياتي إلى اتجاه آخر ، وأن حفظت القرآن الكريم في أقل من سنتين ..!

فما أثمنها من سلعة سهلة ميسورة ..! وما أعظمه من ثمن .!

فهل نستطيع أيها السادة في كل حياتنا أن نكون مثل هذا الاستاذ ؟! وهل تستطيعون أيها الأساتذة الكرام ! ألا تحرموا أبناءكم من بسمة حانية صادقة ، تفعل في القلوب ما لا تفعله الكلمات المنمقة ، ولا الهدايا المجمعة .؟!

إنني عندما أذكر بسمة أستاذي الغالية ، أذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق "

وقوله صلى الله عليه وسلم :
" إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، ولكن ليسعهم منكم : بسط الوجه وحسن الخلق "

فأقول : ورُبّ صدقة كانت سببا في مغفرة ونجاة ورضوان ..!

فاللهم اغفر لي ، ولوالديّ ، ولأستاذي ، وللحاضرين ، ولكل من كان له فضل عليّ ، واجزهم عني كل خير ..!
آمين آمين ..

وأشكركم أيها الإخوة الأحبة .! على حضوركم ، ومشاركتكم ، وفرحتكم ، وحسن استماعكم ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
" .

المصدر شبكة أنا المسلم ( نقلا عن إباء )
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية