اطبع هذه الصفحة


أنا وصديقي والفنار

 
أخذتني شمس الظهيرة بين ذراعيها ، قبلتني بأنفاسها الحارة ، أسرعت نحو سيارتي الفارهة ، كدت أضغط جهاز التكييف قبل أن أشغل السيارة . كان الحر لا يطاق ، تبخـّر من ذهني الحديث الذي كان بيني وبين صديقي محمد قبل قليل .
آه.. نسيت إنكم لا تعرفون محمد ، اسمحوا لي أن أعرفكم به إذن...

هو صديقي منذ الطفولة ، عشنا معا أكثر مراحل عمرنا السعيد ، لنا نفس الإهتمامات والرغبات . يشغلنا معاً هم الإسلام والمسلمين ، نتحدث في نفس المواضيع ، نكاد نتفق في معظم الآراء . إلا أن بيننا فرق جوهري كبير ، إنه يعمل لما يتحمس لأجله ، ويفني عمره من أجل قضية يؤمن بها ، أما أنا فالتحسر والتذمر هو أقصى ما كنت أقدمه .

كنت كما يقول عني دائما ؛ " ظاهرة صوتية "...، وبرغم ذلك لاتزال صداقتنا حتى بعد أن فرقت بيننا المشاغل والأيام .

اليوم على غير المعتاد رن الهاتف بمكتبي ، رفعته لأجد محمد على الخط الآخر يدعوني لأمر مهم ، حاولت التأجيل والتسويف كالعادة ، إلا أن إصراره قطع علي كل طريق ، بعد ذلك بساعة كنت أصافحه وأنا أفكر أي مشروع في هذا الرأس يا ترى ؟! .
لم يتمادى في السؤال عن الأحوال كثيرا بل دخل بي في صلب الموضوع مباشرة :

- أنت تعرف يا فهد أنني أدير هذه المؤسسة الخيرية ، وإنني متى مارجوت الله بعملي نلت أجريّ الدنيا والآخرة .
لم أعلق على كلامه فلم أر َ فيه مايخصني ، بيد أنه استطرد :
- وأنت تعرف أن هذه المؤسسة توزع كل شهر إعانات يجود بها المحسنون على بعض الأسر في الأحياء الفقيرة .

ظننت أنه يريد مني التبرع ، فحمدت الله أن الأمر اقتصر على ذلك، هممت لأخرج حافظة نقودي إلا أنه أكمل دون أن يلحظ شيئا :
- وقد تجمعت إعانات هذا الشهر وحان موعد توصيلها ، إلا أن السيارة المخصصة لذلك أصابها عطل ويستلزم إصلاحها ! عدة أيام .
أخيراً ، وجدت لساني لأهتف : وما موقعي أنا من هذا كله؟!

أجاب بابتسامة هادئة :
- أنت ترى أن سيارتك الجديدة كبيرة بما فيه الكفاية ، لتحتسب أنت الأجر وتذهب فتوزع هذه الإعانات إلى الأسر المحتاجة .

حدقت فيه غير مصدق :

- محمد هل تمزح؟!

تجهّـم وجهه وهو يجيب :
- أنت تعرف أني لا أحب المزاح ..

- كيف تطلب مني أن أذهب إلى هذه الأحياء المشبوهة؟! وكيف أقود سيارتي الجديدة في تلك الطرق الترابية الضيقة؟! أنت تعلم أن هذا الأمر مستحيل تماما ، وغير قابل للمناقشة !..

حاول محمد أن يثنيني ، بالترغيب بالأجر تارة والعطف على أولئك المساكين تارة ، إلا أن ذلك لم يؤثر في موقفي ، وأخيرا خرجت من المكتب وبيننا حاجز غير مرئي من التكلف وعدم الرضا .

استرجعت كل ذلك وأنا أقود السيارة إلى منزلي ، ولم يكن ليساورني أي ندم على موقفي السلبي ، فالموضوع برأيي أوضح من أن أناقش فيه أو أجادل .

وقفت عند الإشارة القريبة من المنزل، وهناك أبصرت به ؛ براءته الطافحة من عينيه دفعتني إليه ، رأيت الكثير مثله من قبل؛ لكن لم يلفت نظري أي منهم كهذا الواقف غير بعيد، أنزلت زجاج النافذة ، أشرت له بيدي فاقبل نحوي يحمل بضاعته الزهيدة، رفع وجهه المشرق وابتدرني : السلام عليكم !.. شعرت أن خلف هذا الإشراق إشراقا أجل وأسمى ، أجبته بحنو لم أشعر به منذ زمن : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
- كم علبة تريد؟

- هات واحدة..

إمتدت يده الصغيرة بعلبة المناديل ، وبالمقابل أخرجت ريالا دفعته إليه ، فأخذه ليخفيه بجيبه ، لم يبد حراكا ، فالتفت ناحيته لأرى يده تعبث بجيبه الممتلي ، أخرجها تحمل شريطاً قدمه لي مشفوعا بابتسامة بريئة خجولة، نظرت إلى الشريط فإذا به شريط إسلامي ؛ لم أرغب بشرائه فهو موجود بحوزتي .. مجاملة له سألته عن الثمن ، أجاب بابتسامته البريئة : إنه هديه....

صكت العبارة مسامعي ، وتردد صداها في خاطري " إنه هدية "..

لحظات خلتها دهوراً وأنا تنتابني مشاعر شتى ... يا لله طفل لا يتجاوز العاشرة من عمره ، أخرجه ضيق ذات اليد ليبيع المناديل عند الإشارات ، وهو مع ذلك يعمل للإسلام ، ويحمل هم الدعوة في قلبه الغض ،
وأنا ..... آه من حالنا ..
مددت يدي لآخذ الشريط منه، ثم التفت إليه لأرى هامته تعلو في الفضاء، وتجاوز! الجوزاء .
أصبحت كقبطان ٍ تائه ٍ ببحر ٍ هائج ٍ يقف أخيراً أمام فنار ، ُيلقي بسناه إلى المدى البعيد .
سألته بصوت مخنوق : من أين تأتي بثمن الأشرطة ؟
أجاب وقد ومضت عيناه بالمحبة : إنه أستاذنا ، يحثنا دائما على العمل للإسلام ، وعندما أخبرته أني أريد أن أوزع الأشرطة الإسلامية النافعة تعهد بأن يزودني بها كل يوم .

سألته باهتمام : وهل تعطي الأشرطة لمن يشتري منك فقط ؟
أجهز على ماتبقي من أعصابي بإجابته : أعطي من يشتري ومن لا يشتري .

ستارٌ من الدمع ِ ُأسدل على عيني ، فلم أرَ الإشارة َ وهي تضيء للعبور . تعالى هديرُ السيارات من جانبي . وحينما التفتُ لمحدثي لم أجده !
فانطلقت وقد تعالت أبواق السيارات من خلفي ، وبلا تردد امتدت يدي إلى جانبي لأحمل هاتفي الجوال واضغط أزراره . تعالى الرنين على الجانب الآخر ثم أتاني الرد :
- السلام عليكم
- وعليكم السلام ورحمة الله .. ماذا لديك يا فهد؟
- محمد ، إنتظرني بمكتبك ، سأحضر إليك الآن لأقوم بالعمل الذي رفضته قبل قليل .. ( انتهت )

بقلم : الفنار
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية