صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







نسَماتُ الأمل .. (( أحداثٌ واقعية لا تُنسى )) !!

 
[ حتى إذا استيأس الرسلُ.. وظنوا أنهم قد كُذِبوا.. جاءهم نصرُنا... ]

كثيرًا ما نشعر باليأس يُحاصرنا.. ويورثنا وهنًا يكاد يقضي على ما بقي من همةٍ وحماس.. فيمكث أحدُنا يُناجي نفسَه :

* هل من جدوى لما نقوم به..؟! ..
* أتُرى هذه الجهود الذي تُبذل تأتي بنفع؟! ..
* هل ستثمر غراسنا وقد اجتاحنا الطوفان؟!..

أسئلة لا تكاد تنقضي.. ولا يزيدها الواقع المر إلا إلحاحًا وإصرارًا.. ولربما كان ورودها المتكرر سببًا من أسباب القعود والخمول والدعة.. أو - يا للضعف - سببًا من أسباب الانتكاس والارتكاس..!

يأتي الشيطان ليقول لأحدنا [ ... لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..] كلمة حقٍ أُريد بها باطل.. لكن النفس قد تُخدع بها إذا قيلت والواقع يجعل الحليم حيرانًا..!

وتتكرر الأسئلة..

وتُدركنا رحمة الله.. فيأتي الجواب بظلال اليقين..

يأتي في حالة خشوعٍ وتأمل في آية من كتاب الله، أو حديثٍ من سنة رسول الله..
أو يأتي على شكل موقفٍ عابر.. أو قصةٍ واقعية.. أو حدثٍ مُشاهد..
وييسر الله – بمنته وكرمه – للقلوب الواجفة ما يُسكنها ويمدها بماء الأمل الذي لا ينضب ولا يغور..!

فتثوب النفس القلقة إلى مثابة اليقين والاطمئنان بموعود الله .. وتستحضر الحقيقة التي قد تتوارى خلف ركام اليأس : أن الدين منصورٌ لا محالة.. وأن علينا بذل الجهد وغرس البذور؛ أما قطف الثمرة اليانعة فهي بيد علام الغيوب..!

هكذا هو الإسلام بروعته وعظمته.. يتأبى على السُبات.. ويستعصي على البيات.. ويكمنُ في الفطر السوية؛ حتى إذا ما قيض الله له مَن يُزيح عنه الغبار؛ انتفض حيًا يتنفس..!

هو باقٍ إلى قيام الساعة.. لا خوف عليه من الفناء.. وإنما الخوف علينا من الركون إلى الدعة أو الإخلاد إلى الأرض..

وإنما الشرف - كل الشرف - لمن يستمسك بالدين ويحمل مشاعل الهداية..!

(( نسمات الأمل )) ..

سلسلةٌ من بعض المواقف والقصص الواقعية.. التي مررتُ بها في هذه الحياة.. أو وقفتُ عليها من ثقات.. وأنا أسوقها للإخوة والأخوات تثبيتًا لهم وتذكيرًا..

(( نسمات الأمل )) ..

هي للمستيقن.. حتى يزداد يقينًا..
ولليائس.. حتى يعلم أن اليأس لا يصنع شيئًا..
وللجميع.. حتى يعلموا أن مع العُسر يُسرًا..


" وقد يفلق الصخرَ .. قطرُ الدعاء..! "

ما عادت تُطيق العيش معه..!

سنة كاملة مرت عليها كأنها – لفرط نكدها – عُمرٌ من الشقاء والتعاسة.. لقد يأستْ من كل شئ.. ولم تعد تريد منه شيئًا أكثر من أن يؤدي الصلاة في المسجد القريب.. أو في المنزل حتى..!

آاااه.. المنزل..؟! .. بل هو القبر في ظلمته ووحشته.. هو جحيمٌ أحطابه البعد عن الله.. وتركُ الصلاة.. وقسوةُ القلب..

كانت تتمناهُ عش حب وهداية.. تُغرد فيه أطيار السعادة والهناء والنور.. لكن أحلامها تبخرت بأشعة الواقع..!

هي تُحبه.. لكن حبها لله أقوى وأبقى وأولى.. فلم يعد في قلبها له مكان؛ إلا كما تبقى الأطلال بعد العمار..!

نسمع بأمورٍ كثيرة ونحسبُ أننا نعلمها حقًا.. لكننا حين نذوقها على حقيقتها نُدرك أن الواقع يختلف كثيرًا عما نظنه ونتخيله.. كذلك كانتْ هي واليأس.. لما جربته فعرفتْ مرارتَه..!

ما بقي لها إلا الدعاء واللجوء إلى كنف الرحمن الرحيم.. عّله أن يلطف بها فيجعل الحياة زيادة لها في الخير.. أو يُعجل بالموت الذي يُريحها من الشر.. كل الشر..!

* * * * * * * *

قامتْ إلى صومعتها ( كما يحلو لزوجها أن يُسميها ) .. وانطرحت بين يدي مولاها وخالقها الرحمن الرحيم داعيةً متضرعة.. أن يحبب الله إليه الإيمان ويُزينه في قلبه.. ويُكره إليه الكفر والفسوق والعصيان.. ويجعلَه من الراشدين..

** " أين أنتِ أيتها الراهبة.. ؟! .."

إنه هو ..!! عجلتْ ( س ) بأداء صلاتها.. ثم مضت إليه.. وهي تجر قدميها كأنهما مثقلتان بالأغلال..!

** " ألا تملين من كثرة الصلاة.. إن ربي غنيٌ عنكِ وعن صلاتك.. هيّا.. أريدُ بعض الماء فقد جف حلقي من (( الشيشة )) .. هيّا..! "

ذهبت لتُحضر كوب الماءَ.. وأذان الفجر ينساب في الأفق ليعطر الكون بروعته وجلاله..

ياااا الله..!
كم هو جميلٌ ذاك الأذان.. حين ينزل على القلب القانط كما تنزل قطرات المطر على الأرض اليباب فتهتز وتُزهر..

ولكنْ..!

لقد فقدتْ صوت مؤذن المسجد القريب..!!

" الحمد لله " .. قالتها ( س ) وابتسامةٌ متفائلةٌ تتراقص على شفتيها..!

* * * * * * * * *

** " هل نضج الخروف..؟! .. إنه كوب ماء فقط " .. هكذا صرخ ( ت ) بزوجته.. فعادت إليه وهي تحمل الكأس بيدها.. وعقلُها مشغولٌ بالفكرة التي خطرتْ لها..

مدت إليه بكوب الماء والابتسامة لم تفارق شفتيها.. فرمقها ( ت ) بنظرة متهكمة وقال :
** ماهذا التبسم؟! .. مشوارٌ جديد.. أم نصيحةٌ معتادة..؟!

** ليس هذا ولا ذاك.. إنما هو طلبٌ يسيرٌ .. لو فعلتَه فلن أطلب منك شيئًا آخر مدة أسبوع..!!

** ( ؟!!! )

** صدقني ..!

** لا لا لا لا .. لا أكاد أصدق.. ( س ) الملحاحة لا تطلب مني شيئًا مدة أسبوع..؟! .. هاتي إذن..

قالت وهي تزدرد ريقها بتردد :
** ال .. ال .. المؤذن في مسجدنا لم يؤذن لصلاة الفجر.. ما رأ.. ما رأيك أن تؤذن بدلاً عنه..!

** (؟؟!!!!!!!)

** أرجوك يا ( ت ) .. أرجوك.. أحب أن أسمع صوتك وهي يملأ الكون بنداء الرحمة.. أرجوك يا حبيبي.. إنها أمنيةٌ طالما حلمت بها.. أرجوك ..!

** اممممممممم .. ولا تطلبين شيئًا آخر مدة أسبوع..؟!

** نعم .. نعم.. بل أسبوعان إن شئت..

** طيب طيب.. ولكني سأخرج بعد الأذان مباشرة.. لأن جماعة المسجد لن يستوعبوا منظر ( ت ) وهو يقيم لصلاة الفجر.. وهو الذي لم يدخل المسجد منذ جاورهم..!

فقالتْ.. واليأس ينسج خيوطَه حولها من جديد :
** افعل ما بدا لك.. ولكن أسرع قبل أن يسبقك أحد..!

* * * *

وارتفع صوت الحق من شفتي ( ت ) :

( الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ) .. ( أشهد ألا إله إلا الله .. أشهد ألا إله إلا الله ) .. ( أشهد أن محمدًا رسول الله .. أشهد أن محم............) وبدأ صوت ( ت ) يتقطع..!

لم يقوَ ( ت ) على إكمال الأذان إلا بصعوبة.. فالمشاعر التي انتابته كانت أقوى من احتماله..

" يا إلهي.. أين كانت هذه السكينة والطمأنينة ؟! .. أي ضنك كان يُحيط بي ؟!.. أي شقوةٍ كنتُ أتردى فيها..؟! .. أي حرمان..؟! رحماك يا ربي.. رحماك..! "

وظلت تلك الخواطر تجلجل في عقله فلا يُظهرها إلا الدموع..!

* * * *

في مسجد ( .......) في شمال الرياض.. يصدح رجلٌ بالأذان خمس مراتٍ في اليوم والليلة.. رجلٌ يحفظ القرآن كاملاً عن ظهر قلب.. وشرع في حفظ الصحيحين.. ويُلازم الدروس في جامع ( .....).. ويُكنى بأبي معاذ..

إنه أخونا ( ت ) ...!!


لو التزمَ جدارُ آل ( م ) لما التزمَ ( ر . م ) !!

في قاعة المحاضرات بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.. كان الجمعُ يرقبُ بإعجابٍ وقائع مناقشة رسالة الماجستير في أصول الفقه.. الذي تقدم بها المُعيد بكلية الشريعة ( ر . م ) ..

ومن بين أولئك الحاضرين كانت هناك عينان تُغالبان غشاوةً من الدموع التي أغرقت حدقتاه.. وحُق لـ ( ع . ع ) ذلك.. فما يُشاهده الآن هو حلقةٌ من مسلسلٍ بدأت فصوله في عام 1410 تقريبًا.. هناك بين جنبات المركز الصيفي بالمعهد العلمي بحي الشفا في الرياض.. يومَ دخل شابٌ في بوابة المركز وكأنه يَدخل باب بيتهم..!!

بدأت مشاكل ( ر . م ) من أول لحظةٍ دخل فيها إلى المركز.. تشاجر مع حراس الباب.. وحُمل إلى غرفة مدير المركز بدلاً من الذهاب إلى غرفة التسجيل..!

وهناك كان أول لقاءٍ بينهما.. بين الشاب المتفتق فتوةً وعنفوانًا (ر . م ) وبين المربي المتألق حكمةً وبذلاً ( ع . ع ).. وكانت حادثة الشجار فرصةً لا تفوت على مربٍ كـ ( ع . ع ) .. لأنه لمح في عيني ( ر . م ) بريق التميز والنبوغ.. ولأن وراء كل مكروهٍ ظلالاً من الخير لا يُبصرها إلا المتفائلون.. !

لم يكن فارق السنوات بينهما كبيرًا.. فانعقدتُ بينهما خيوط المودة على اختلاف الطباع.. فذاك قطبٌ 0 في ظاهره - سالب.. والآخر قطبٌ موجب.. ومع ذلك ينجذبُ أحدهما إلى الآخر .. كما ينجذبُ قُطبا المغناطيس..!

وتعاقبت الأيام.. ومشاكل ( ر . م ) في المركز تزداد ظهورًا.. وقناعة المربي وتفاؤله بمتستقبل واعدٍ له تزداد رسوخًا..!

وفي كل مرةٍ يتناقش فيها المشرفون في مشاكل ( ر . م ) ويفكرون في طرده.، وهم يرددون ( لو التزم جدارُ بيت أهله.. لما التزم هو..! ) .. في كل مرةٍ يحدث ذلك؛ . كان ( ع . ع ) يقف في صفه ويُقنع الإخوة بأنها أيامٌ قلائل.. وأن من حق الشباب أصحابِ المشاكل الصبرَ عليهم ومراعاةَ طيشهم.. مادام ذلك في الإمكان..!

وانقضتْ أيام المركز الصيفي..

وفي الحفل الختامي أهدى ( ع .ع ) لـ ( ر . م ) دعوةً للمشاركة في رحلة إلى أبها .. والأصل أنه لا يخرج فيها إلا المتميزون في النشاط والأخلاق.. لا في الشجار والإزعاج..!

ولم يكد يُصدق ( ر . م ) نفسَه.. وهو يمتطي مع الشباب الحافلة مُتجهين إلى أبها.. وهناك تفتقت مواهبُه عن إبداعٍ في المقالب.. وفي التهرب من الدروس.. وفي التملص من كل برنامجٍ.. إلا البرنامج الرياضي.. وبرنامج تسلق الجبال..

وانقضت الرحلة أيضًا.. وبقي في الصيف بعض وقت..

لم يكن ( ر . م ) يفكر يومًا من الأيام في أن ينضم إلى حلقة تحفيظ للقرآن الكريم.. كيف وهو الذي يتهكم بعيال الحارة حين يتركون مباريات الحواري ليجلسوا بين أربعة جدران ..!

لم بكن يُفكر في ذلك.. حتى جاءه صاحبُ القلب الكبير.. ودعاه إلى التفكير في التسجيل بإحدى الحلقات القريبة من بيتهم..

** " ... ولكني أستغل وقت العصر في المذاكرة وحل الواجبات .." ( !!! ) .. هكذا كانت إجابته الأولى..

فابتسم ( ع . ع ) وقال غامزًا :
** وهل هناك مُذاكرة وحل واجبات في الصيف ..؟!

** ........

** ثم إنه لا تعارض بينهما لمن كان حريصًا مثلك..

** ولكن.. ولكن المسجد بعيدٌ عن بيتنا.. وأنا أخاف على نفسي من المشي في الشارع.. فالشوارع كما تعرف مكان الشباب ( الخربانين ) !! ..

** لا مشكلة .. سأمر بك بسيارتي كل يوم.. هاه.. ما رأيك..؟!

** " تستهبل ؟! .. أنا أسكن في حي ......... وأنا أسكن في حي ........ !!

** لا عليك.. سأمر بك يوم السبت الذي يعقب عودتنا من أبها.. اتفقنا..؟!

** " اتفقنا.." .. قالها وهو يمط شفتيه بامتعاض خفي.. :hh:

* * * * *

ومن ذاك السبت بدأت فصول روايةُ صبرٍ وفألٍ تتصاغر أمامه كل عوائق السآمة وكل علائق اليأس المُقعد..!

روايةٌ كل صفحة فيها ملأى بالتهرب والتملص والمتاعب.. وكم تأخر فيها ( ر . م ) على ( ع . ع ) فما تضجر.. وكم ضرب بمواعيده عرض الحائط فما تشكى.. وكم كذب عليه وهو يعلم فما عنّف.. وكم حاول إملالَه بكل سبيلٍ فلم يفلح..!

إن قلوب الناس - في الغالب - ملأى بالخير.. لكن الران الذي يكاد يعلوها.. وتسويلَ الشيطان.. والنفسَ الأمارة.. كل أولئك يحتاج إلى انتفاضةٍ تطردها.. كما يطرد أريج الفأل فلول القنوط..

والمتميزون بخاصة.. يحتاجون لفنٍ في التعامل معهم.. لأنهم - في الغالب أيضا - يجحدون ونفوسهم مستيقنة..!

وهذا ما كان من ( ر . م )..

فالمعروف لا يضيع سدى.. والفطرة الطيبة تثوب إلى نقائها ولو بعد حين.. ولذا؛ تكشفت الأيامُ عن شابٍ متميز في كل شئ.. فخيار الناس في الخير هم الذين كانوا خيارَهم في غيره.. إذا التزموا.. وإذا وجدوا صدرًا يحتملهم ويصبر عليهم.. ويملأ جوانحه الفألُ والاستشار..!

* * * * *

قطع ( ع . ع ) شريط ذكرياته.. على صوت لجنة المُناقشة وهي تُعلن قرارَها بمنح ( ر . م ) درجة الماجستير.. مع مرتبة الشرف الأولى..

وسكتت أنفاس الحاضرين وهو يرقبون ( ر . م ) يتجه صوب الصف الأول من الكراسي.. ليطبع قبلةً على جبين ( ع . ع ) ..

قُبلة شكرٍ..

وقُبلة وفاء..

قبلةً لخصت على قصرها دروسًا لا تُنسى :

~~ أن الجميل سيُثمر.. ولو بعد حين..!
~~ وأن الفأل لا يأتي إلا بخير..
~~ وأن الوفاء من شيم النُبلاء.. الذين لا تُنسيهم الأيام جميلَ من كان وراءهم..
.
.
.


فطرةٌ .. فهداية ..!

كان يحبها.. بل يهيم بها..!

خداها المتوردان..

عيناها الناعستان..

مبسمها الساحر..

بل هي الجمالُ.. لو جُسد الجمال بشرًا..!

كيف.. وقد زادتها البراءةُ حسنًا وجمالاً.. وألقت عليها فطرتُها الصافيةُ بظلال السماحة والبِشْر.. وأضفى عليها إيمانها العميقُ من النور نورًا..

ما كان ينظر إليها بشهوةٍ وسُعار.. فهي ما تزال طفلة ذات ثمان سنوات.. وإنما كان مشدوهًا ببراءتها وصدقها.. وشقاوتها أيضًا..

كان مقصرًا مذنبًا مسرفًا على نفسه.. ولربما كان حالُه هذا دافعًا له إلا الإعجاب بها أكثر وأكثر.. فالنفس قد تميل إلى الذي تجد لديه ما تفقده.. خاصة إن كانت تعلم في قرارتها أنها على خطأ.. وأن الخير كل الخير هناك.. في الحال التي عليها مَن يُحب..!

وكذلك كان ( ف . ف ) .. يجحد ظاهرُه.. لكن داخلَه مستيقنٌ بالحق والخير..!

* * * * *

في صغره كان قائدَ عيال الحارة في كل شئ.. هو كابتن الفريق.. وهو العمدة.. وهو الآمر الناهي.. وطوته الأيام ليُصبح شابًا كبرت معه صفات طفولته.. فكان متصدرًا لرفقائه.. الذين كانوا معه كالجنود مع ضابطٍ صلد..!

وكان قائدًا لهم في تتبع الشهوات والنزوات.. ولا يسمع بواحدٍ منهم يفكر مجرد تفكير بالالتزام إلا وقف أمامه بلسانه السليط وشخصيته القوية هازئًا متهكمًا.. حتى يُعيده إلى الحظيرة.. أو يجعله عبرةً للمعتبرين..!

وأيسَِ أهلُه من صلاحه.. وماعادتوا يرجون منه سوى أن يكف عنهم شرَّه..!

حتى أتى اليوم الموعود..
كان أهلُه يريدون من الذهاب بهم إلى جنوب المملكة مع خالتهم ليصطافوا.. فوافق بشرطٍ : أن تكون ابنةُ خالته وحبيبةُ قلبه ( غ . ت ) معهم في السيارة..!

* * * * *

حُزمت الحقائب.. وشُدت الرحال.. واجتمعت العائلتان.. وابتهج ( ف . ف ) بالطفلة الأمورة التي سترافقه كل الطريق..!

كانت والدته على مقعد الراكب الأمامي.. و ( غ . ت ) بينهما.. وهي على عادتها.. تُمازح خالتها.. وتلعب هنا وهناك.. قد ملأت المكان بالشقاوة وعبث الأطفال..!

أخرج ( ف .ف ) من سيارته شريط مطربه المفضل.. فأدخله في المسجل.. وبدأ ت مزامير الشيطان تجلجل في جنبات السيارة وهي تشق الطريق شقًا..

وفجأة.. سكنتْ ( غ . ت ) في مكانها هادئة وادعة..!

حاول أن يستثيرها فلم يُفلح.. استفزها فما نفع.. توقف في عند محل التموين فاشترى بعض الحلوى.. فما أجدت الرشوة..!

وساد المكانَ جوٌ من الهدوء.. عدا تلك النغمات العابثة التي ينهق بها المطربُ المأفون..

قطع الصمت صوتُها وهي تهمهم وتتنهد.. وكأنها تحدث نفسها :
** " ... والله إنها مشكلة ..!! " ..

التفتَ إليها مستعجبًا.. وقال :
** مشكلة..؟! "

لم تُجبه.. بل يبدو أنها لم تسمعه.. فقد سرحت بخيالها بعيدًا.. وهي مطرقةٌ لا يكاد يُسمع لها نفَس..!

وساد المكانَ الصمتُ مرةً أخرى..

ثم بدأ صوت بكائها يتعالى.. بل كان نشيجًا يهز صدرها الصغير هزًا..!!

قال لها بسرعة :
** " .. ما بكِ يا بنت..؟! "

** ............... " ..!

** " .. تكلمي.. وإلا أنزلتكِ هُنا.. هيا تكلمي..!! "

** " .. لقد.. لقد كنتُ أفكر في أمرٍ مخيف.. فأمي تقول لي إن ربي لا يُحب الأغاني.. وأنا أخشى أن ينفجر إطار السيارة فتنقلب.. فأموتُ والأغاني تصدح حولي.. فماذا سأقول لربي حينها ..؟! "

* * * * *

على طريق الجنوب.. توقفت سيارةٌ بشكل مُفاجئ.. ونزل منها شابٌ يحمل معه كيسًا بلاستيكيًا ممتلئًا.. أخذ يهوي بما فيه على الأرض.. ويطؤه بقدميه بانفعال.. ثم توقف..

ورفع رأسه إلى السماء.. وعيناه تُسبلان دمعًا سخينًا يغسل به أدران الماضي البئيس المقيت.. ثم هوى على الأرض ساجدًا..

وفي الخلف وقفتُ خلفه طفلةٌ صغيرةٌ كأنها فلقةُ قمر.. وهي تُناديه وتُصفق بيديها باستغراب :

" هل تُصلي التراويح في النهار..؟! .. هيا بنا.. فقد تأخرنا..!! "


منارة صدق.. على شواطئ ( مارسيليا ) ..
 

شيخٌ فانٍ.. قدمٌ في الدنيا، والأخرى في القبر..!

هكذا بدا لي حين رأيتُه البارحة.. وهذا ما تنطق به الأخاديدُ التي شقتها سنواتُ عمره التسعون على صفحات وجهه، وهي الصورةُ التي يختصرُها بياض عارضيه..

لكن الزمان والمكان يفقدان أبعادهما في قاموس ( الهمة العالية ) .. وتزول كل حواجزهما أمام تدفق الحماس، النابع من ( عقيدة ) لا يوهنُها كبرٌ ، ولا يعوقها مكان..

وبعد العشاء.. دعا الشيخُ الكبيرُ ( عبدالرحمن الماص ) بعصاه وكرسيه.. فجلس، وأحاط به أحفادُه وبعضُ الحاضرين.. كما يحيطُ الغمام بقمةٍ شامخة.. هي للغمام ملاذ، وهو للقمةٍ جمال..!

ثم طفق النصحُ والتوجيه ينساب من بين شفتيه انسيابَ الماء من فم السِقاء..
تارةً يجعله على هيئة قصة، وتارةً يُلبسه ثوبَ دُعابة.. وهو في ذلك كله يحدثنا بحروفٍ يكاد الصدق والحب يُطل من بين أصواتها..!

حتى أتى الحديثُ على موضوع الصدق مع الله، وإخلاص القصد له – جل جلاله - .. فاستحالت تلك الحروفُ إلى نورٍ مُجللٍ بأطياف الهيبة والإخبات والخشوع..!

* * * * * *

قال الشيخ ( عبدالرحمن الماص ) بعد مقدمة من التأصيل والاستدلال :

كُنّا عشرة رجال.. ما فيهم عربيٌ إلا أنا.. سافرنا إلى فرنسا يومَ لم يكن في فرنسا مسجدٌ واحد.. فذُهلنا من انكفاء المسلمين على أنفسهم، وعجزهم – على كثرتهم - عن أداء الصلاة جماعةً، فضلا عن الدعوة إلى الإسلام..

ولأن أغلب المسلمين هُناك من العرب، من المغرب العربي، ومن بلاد الشام.. فكان لزامًا عليّ أن أتولى البيان والكلام أمام المسلمين هُناك.. لكننا توقفنا أمام عقبةٍ كؤود : كيف نجمع أكبر عددٍ من المسلمين في مكانٍ واحد..؟!

وبدا الحل في ظاهره ميسورًا : إنها المساجد..
ولكن المساجد معدومةٌ تمامًا.. ووالله لقد طُفنا في أرجاء باريس، باحثين عن مسجدٍ مُقام لنقوم بواجب التذكير؛ فلم نجد..!

فاستعنّا بالله.. وقلتُ للإخوة بعد أن وصلنا إلى (مارسيليا) :
لا بد أن نبني هُنا مسجدًا..!

فما طال جدالُنا ولا نقاشنا..
بل اخترنا المكان، هناك على ربوةٍ جميلة، بالقربُ من مجمع المصانع المُحاذي للميناء.. لأن أغلب المسلمين هناك من عمال المصانع..

وبدأنا العمل، فاستخرجنا رخصة من البلدية.. وكنا نبني بأيدينا، وبأيدي الإخوة المسلمين، الذين كان بعضُهم يأتينا ليلاً بعد انتهاء دوامه في المصنع، فيواصل عملَ الليل بعمل النهار..!

كانت أيامًا معدودات.. هي في جمالها ولذتها كنسائم السحر في صحارى نجد..
فيها تكشفتْ الشدةُ عن النفوس المُحبة للخير وهي تتلألأ بعد نفض الغبار عنها.. وفيها الإيمان الكامن في الأعماق، يبقى كامنًا حتى تنزل عليه بضع قطراتٍ من التذكير، فيهتز، ويشق الركام كما تشقها الكمأةُ بعد المطر..!

* * * * * *

وذات صبحٍ..
أتاني أخٌ ( أذكر أنه من بلاد اليمن ) ، يشكو إلي أمرَه مع الصلاة.. وكيف أنه يعجز عن أداء صلاة الظهر وصلاة العصر وصلاة المغرب في أوقاتها.. لأن نظام المصنع يُجبره على البقاء أمام الآلة لئلا تتعطل أو تقف.. إلا في حال قضاء الحاجة، ولدقائق يسيرة.. ووقت الغداء قصيرٌ جدًا.. لا يكاد يكفي للطعام..!
وهو بهذا مُجبرٌ على جمع الصلوات كلها مع صلاة العشاء..!

فقلتُ له :
** " .. يا أخي.. من صدق اللهَ؛ صدقه اللهُ – سبحانه - .. فإذا أتى الغد، فاحمل دواتك وفيها ماء الوضوء.. فإذا زالت الشمسُ، فقم وتوضأ، ثم أذن بالصلاة وارفع صوتك بالإقامة.. ثم صلِّ الظهر.. وافعل ذلك في باقي الصلوات.. ولا تخشَ شيئًا مادمتُ صادقًا مع من له الخلقُ والأمر.. "

فشرح الله صدرَ الأخ السائل لما قلتُ له، وقام من عندي وبريقُ العزم والإصرار يلوح على عينيه..

* * * * * *

وبعد أيام..

جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "

** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."

وبعد أيام..

جاءني الأخ السائلُ نفسه.. وأمارات البِشر والرضا باديةٌ على محيّاه.. وهو يهتفُ من بعيد :
** " .... أبشر يا شيخ.. أبشر..؟! "

** " ... بشرك الله بالجنة.. ما وراءك..؟! ..."

قال، وعبرتُه تسبق كلماته :
** " .... أرأيتَ ما قلتَ لي تلك الليلة.. لقد استعنت بالله، وعقدتُ العزم على فعل ما اقترحتَ عليّ..

فذهبتُ باكرًا ومعي لوازم الوضوء وسجادةُ الصلاة.. فلما حان وقتُ الظهر.. توضأتُ، ثم أذنت بالصلاة، ويممت وجهي صوب القبلة، فكبرت.. وما كدتُ أفعل حتى كان مأمور تلك الوردية على رأسي ينتهرني ويُهددني..

فما شعرتُ والله له بهيبةٍ ولا برهبة.. بل مضيت في صلاتي أؤديها بخشوعٍ وراحةٍ ما أحسستُ بها من قبل أبدًا.. ولما قُضيت الصلاة؛ قلتُ له بلهجة الواثق : إن هذا أمرُ ربي الذي خلقني وخلقم وخلق صاحب المصنع، وجعل لصلاة المسلمين زمانًا موقوتًا.. وأنا أمتثل أمرَه.. فافعل ما بدا لك..!

فأخذ وهو يزبد ويرعد.. ويتوعدني بأن يرفع أمري إلى صاحب المصنع ليوقفني عند حدي.. فما رأيته قد أكثر من الهذر، قلتُ له :

(إن تتطردوني؛ فسيعوضني الله خيرًا مما عندكم في الدنيا.. وأما الآخرة ففيها الرجاءُ بالأجر والرفعة.. والآخرة خيرٌ وأبقى..!)

وما ألقيتُ لتهديده ولا لوعيده بالاً.. بل فعلتُ في العصر والمغرب كفعلي في الظهر.. والعمال المسلمون ينظرون إليّ ما بين مستنكرٍ ومُشفق.. ومتعاطفٌ..!

فلما كان من الغد.. وحان وقتُ الظهر.. ذهبتُ لأتهيأ للصلاة..
فلما كبرتُ فوجئتُ وفوجئ العمالُ بصفير التوقف عن العمل يدوي في المكان.. ثم ما كدتُ أنتهي من الصلاة إلا والمأمور واقفٌ يخبرني بأن هذه أوامرُ صاحب المصنع حين أخبره بما جرى بالأمس.. وأنه قال له بالحرف الواحد :

(... أبناء المسلمين هم أغلب عمال المصنع.. وهم مستمسكون بدينهم في الوقت الذي ضاع فيه أبناؤنا بين الحانات والمواخير.. فإذا ما طردناهم فمن الذي سيعمل لدينا..؟! ، فالحل في نظري أن تتركوهم وشأنهم، وإذا رأيتم ذاك [ يقصدني ] قام يُصلي، فأطلقوا صافرات التوقف، واجعلوها استراحة لعموم الموظفين..! )

وجاءت صلاة العصر، فصلى معي أربعةٌ من العمال المسلمين.. وفي المغرب عشرة..

وازداد العدد من غدٍ.. واليوم أتيتُك وما في العمال المسلمين واحدٌ إلا وهو يُصلي معنا.. في صفٍ واحدٍ كالبنيان المرصوص..! .... "

ثم أطرق الشيخ برأسه.. والعبراتُ تكاد تهز صدره العامر بالنور – نحسبه كذلك – هزًا..!
والحاضرون صامتون كأن على رؤوسهم الطير.. حتى رفع الشيخ رأسه.. وقال وهو يتبسم :

أتدرون.. أن في فرنسا اليوم خمسةَ آلاف مسجد..؟! .. "

* * * * * *

هذا حديثُ من جاوز التسعين..!
وتلك هي همتُه وهمُّه.. شاب فوداه ومازال قلبه شابًا بحب الخير للغير.. وبدلالة الناس إلى الهُدى.. ينطق بذلك حالُه، وتجهر بذلك أحاديثُه وحكاياتُه، ومزحُه ودعابتُه.. وهو يجتهد في أن تكون كل حركةٍ وسكنةٍ لله، عبادةً.. ونصحًا..!

وهي تجربة من رأى العمل والبذل خيرًا من الجدال والمراء..
فالشيخ ممن يُنسبون إلى جماعة ( التبليغ ) التي سيمت بألوانٍ من التشنيع الهادم والنقد الجارح.. وكان أهلُها غرضًا لبعض سهام أولئك الذين اكتفوا بالقيل والقال.. فلا هم كفّوا ألسنتهم عن أعراض إخوانهم العاملين للدين، ولا هم عدّلوا ( بالعمل ) ما يرونه من اعوجاجٍ لا يسلم منه بشر، ولا هم سدوا الثغور التي كُفيت بأمثال الباذلين الصادقين..!

[ فأما الزبدُ فيذهب جُفاءً.. وأما ما ينفعُ الناس فيمكث في الأرض..]


ذاتُ الحجاب.. حين يغلب الأريجُ العفن..!

في بنايةٍ شامخة تُطل على شارعٍ من شوارع العاصمة التي ذاع صيتها في الفساد والإفساد.. وفي مجتمعٍ شهيقُه الفُحش وزفيرُه الخنا.. هناك التقى بها..!

ما كان يخطر بباله أنه سيجد هناك ما تقر به العينُ وينشرح له الصدر.. فكل ما حوله ينطق بما يسوء الناظرين.. وهو على كثرة تجواله في بقاع الأرض لا يذكر أن هناك بلدًا تفوق هذه البلاد في انتشار مظاهر الفساد والعُهر..

لكن الله ساقه إلى ذلك الشارع المتفرع عن الطريق الرئيس ليرى بعينه ما لم يكن يحتسب.. وليوقن أن النور ينبتُ حيث يشتد الظلام.. وأن النفوس المؤمنة الصابرة هي التي تصمدُ حينَ تهتز القلوب المترددة.. وأن الثبات وقتَ الفتن أمارةُ القلوب اللاجئة إلى ركن ربها الشديد..!

هناك وقعت عيناه على لوحةٍ تتلألأ بين ركام الباطل الزهوق.. منقوشٌ عليها بحروف كأنما هي عرائس من نور : [ مدرسة....... لتعليم القرآن الكريم..]

أتراه يحلم..؟! ..
أخذ يفرك عينيه ليستيقن من أنها تبصر ما رأى.. وأعاد قراءة المسطور على اللوحة.. فارتد إليه البصرُ هانئًا وهو سعيد..!

لم تكن قدماه بحاجة لأمر ينتقل عبر السيالات العصبية إليها لتتجه صوب مدخل البناية.. بل انطلقت من فورها تسابق البصر.. لينتشي بأريج الخير يتسلل إليه وسط العفن الذي ملأ المكان هناك..

وعند المدخل توقف قبالة لوحة إعلانات منصوبة يمين الداخل.. مكتوبٌ عليها نبذة عن المدرسة.. اسمُها.. وتاريخ إنشائها.. وعدد طلابها.. ومشاريعها القائمة.. فما زاده المكتوبُ إلا إسراعًا في الدخول..

* * * * * * *

على المكتب الصغير الأنيق جلس شابٌ من أهل تلك البلاد.. قام إليه فصافحه ورحب به.. ووجهه مستنير بأنوار الطاعة التي تنعكس عليه من وهج الإيمان، كما يعكس البدرُ ضوء الشمس..!

فدار بينهما حديثُ الروح للأرواح، يسري.. ثم سأله عن قصة هذه المدرسة.. فنهض الشاب وقال وهو يهمّ بالخروج :
** دعها تحدثك عنها..!

لم يكد يمض وقتٍ وجيز حتى عاد الشاب ومعه فتاةٌ تمشي على استحياء.. وكانت محتشمة متنقبة.. لا يُرى منها شئٌ أبدًا.. فجلست على أريكة بعيدة عنه.. والشاب يُشير إليها ويقول :
** هذه زوجتي أم عبدالعزيز.. هي صاحبة الفكرة.. وهي المشرفة على قسم الفتيات في المدرسة..! "

وانطلقت الفتاةُ تتحدث بحماسٍ عن المدرسة.. كيف بدأت الفكرة.. وما الدافع إليها.. ومتى أحست بجدواها..!

وأخذت تحكي قصة هدايتها التي أراد الله لها.. لتصبح مشرفةً على المدرسة بعد أن كانت مجرد ( رقم ) في عِداد الفتيات اللاهثات وراء مظهرٍ أجوف أو زينةٍ لا تكاد تنقضي..

إنها النفوس التي أراد الله بها خيرًا.. فكشف عنها حُجب الأهواء والتسويل.. فأضحت تبصر بعين البصيرة حقيقةَ الحياة :
عبادةٌ لله..
وصبرٌ على طاعته.. وعن معصيته..
وتواصٍ بالحق وبالصبر..
يعقبُ ذلك كلَّه سعادةُ الدنيا.. ونعيمُ الآخرة..!

كان تُحدثه بصوتٍ لا خضوع فيه ولا تكسر.. وهي تؤكد على أن الواجب على المصلحين يتعاظمُ بتعاظم الشر والفساد.. وأن الناس يستوون وقت الرخاء.. لكنهم يتمايزون عند الشدائد..

يتمايزون بإيمانهم وثباتهم.. ويتمايزون بعملهم ونشاطهم.. ويتمايزون باستعلائهم على المُحيط الذي يغرق في حمأة الارتكاس اللاهث وراء سراب سعادةٍ.. تجري خلفه الأوهام؛ فإذا ما جاءته لم تجده شيئًا.. سوى الألم والشقاء..!

لم يكن صاحبُنا يدرك كم من الوقت مضى.. فقد حلّق خياله في التفكير والتساؤل :

ألم يكن من السهل عليها - إن لم تنجرف مع المنجرفين – أن تلزم بيتَها، وتُغلق الباب دونها ودون زوجها وولدها..؟!

أَوَ لم تعذرْ نفسَها بعنفوان الشباب ونشوة الصِبا.. وتتكئ على حجج الواهمين الداحضة؛ حين يبررون كل نزوةٍ بطيش المراهقة..؟!

رحماك ياربي..!
ما أسهل أن نعذر نفوسَنا..!

وما أيسر الأمر على الضعيف الواهن المهزوم؛ أن يكيل اللوم على من حوله.. أو ( ما ) حوله.. خاصةً إن ابتُلي الهارب بمحيطٍ ( قد ) يُبرر له التساهل أو الانجراف وراء ريح الأمر الواقع..!

وسيكون الشيطان حاضرًا ليمد النفس المتهوكة بالأعذار والمبررات.. فلا أحد أمهرٌ منه في في البحث عن مداخل يلجُ منها إلى القلوب الطيبة..

وإنما هي ( خطواتٌ ) تبدأ بالتبرير والتحجج.. ولربما انتهتْ بالانتكاس والارتكاس..!

ويوم يقوم الأشهاد.. يعلم العاذرُ نفسه بأعذار الأوهام أنه هو الخاسرُ الأول.. وأن الحصن إذا انهزم حراسُه وهُدمت أسواره؛ فإن العدو سيجتاز العقبة الأخيرة بيسرٍ.. فيتمكن من أغلى ما يملك الإنسان : دينه وإيمانه..!

* * * * * * *

نسخةٌ مع التحية والدعاء :
## للقابضين على الجمر والقابضات.. ليثبتوا.. ويزداوا يقينًا بتأييد الله لمن استمسك بحبل الله..
## ولليائسين من الواقع.. ليتفاءلوا.. وليعلموا أن اليأس لا يصنع شيئًا..!
## وللأخوات المؤمنات.. ليعملن.. وليُدركن أن في أيديهن الكثير..!


همةٌ + فهم + تفاؤل + تخطيط + عمل = 18 ألف بيتٍ.. يلهج بالدعاء..!

الآمال كالورود..
تُزهر بمياه الأمل.. وتذوي بجفاف اليأس والقنوط..!

والنفوس المتفائلة وحدها هي التي تمضي نحو مرادها بثباتٍ ويقين.. وهدوء.. ، وهي التي يأنس من حولها بها، ويميلون إليها حين ادلهام الأفق بما لا يسر في ظاهره..

وبتلك القناعة المشرقة كانت نواةُ [ مستودع المدينة الخيري ].. كانت بخيمةٍ ذات عمود واحد.. وبهمة شخص واحد.. وبنشاط مقصورٍ على تفطير بعض الصائمين..!

* * * * *

البداية تبدو عادية مكرورة.. فما أكثر خيام التفطير وهي تنتشر في أماكن كثيرة من بلاد المسلمين.. لكن الفرق في الطموح المتفائل الذي كان يحمله الشيخ الدكتور يحيى اليحيى.. الطموح الذي يجعل الآمال تجاوز حيز الأحلام إلى العمل المتدرج الواقعي..!

وهو الفهم الواعي.. الذي جعل تلك الخيمة ذات العمود الواحد تتمدد بمساحتها لتصبح مستوعاتٍ ضخمة جدًا.. موزعة على 11 فرعًا وثمانية مندوبيات، تقدم خدماتها لأكثر من 18 ألف عائلة.. كل عائلة مكونة من عدد من الأفراد..!

إنه العمل الجاد المتدرج المدروس.. الذي يحوطه الأملُ من بداية التخطيط على الورق، ويُصاحبه التفاؤل أثناء الانتقال إلى العمل الجاد..

فخلال سنوات قلائل.. صارت تلك الخيمة الصغيرة مجرد قطعةٍ في إحدى مستودعات المشروع.. لكن المعاصرين لبدايات المشروع يعلمون أنها خيمةٌ مميزة.. خرج من رواقها المشروع كله..!

واليوم.. صار الشيخ الدكتور يحيى اليحيى يشرف على هذا المشروع.. ويلمس بنفسه حصادَ الجهد والجد اللذين بذلهما من أجله.. ويأنس بعاجل بشرى المؤمن.. الذي يُكرمه الله بجني ما رعى من زروع وخمائل حتى صارت أشجارا ذات ظلال ورافة.. يستظل بأفيائها آلاف المسلمين..!

* * * * *

وبشعار ( الفقير.. نعرفه ولا يعرفنا.. ونأتيه ولا يأتينا..!) ما عاد نشاط المستودع الخيري محصورًا في مجرد المساعدة المادية فحسب.. وإنما تجاوز ذلك إلى التأثير الدعوي التربوي في الناس الذين ينعمون بخدماته.. وصار نشاطه موزعًا على أبواب كثيرة :

بلغت فروع المستودع في المحافظات 6 فروع قائمة و5 فروع تحت الإنشاء بالإضافة إلى 8 مندوبية.
وعدد الموظفين العاملين في المستودع 18 موظـف.
وعدد العمال والفنيين 52 عاملاً.
و518 باحثاً اجتماعياً.
عدد المتعاونات في القسم النسوي: 11 متعاونة.
و 17,900 أسرة مستفيدة من المستودع في المدينة المنورة والمحافظات والقرى من الأيتـام ، والأرامـل ، والمطلقات ، عوائل السجناء ، والمرضى والفقراء والمساكين .
و 300 أسرة تـم تأهيلها وقد تحسن مستواها المعيشي .
و795 شاحنة أثاث تم صرفه للأسر المستفيدة:580 شاحنة منها للمدينة المنورة ، و215 شاحنة للمحافظات والقرى .
و 3,411 أسرة مستفيدة من صالة الكسوة في المدينة .
و 8.450 أسرة مستفيدة من الكسوة في المحافظات القرى والهجر .
و 1.790.000 وجبة قدمت لضيوف الرحمن في عام 1421ه‍ .
و 6,551,679 وجبة قدمت لضيوف الرحمن حتى الآن.
و 140.000 وجبة إفطار قدمت للصائمين في رمضان عام 1421ه‍ .
و 4,256,501 وجبة إفطار قدمت للصائمين في رمضان حتى الآن.
و 2.487 أسرة مستفيدة من المواد الغذائية شهرياً داخل المدينة المنورة .
و 15.425 أسرة مستفيدة من المواد الغذائية موسمياً في المحافظات والقرى .
و 8,500 حقيبة مدرسية تـم توزيعها حتى الآن .
و 22,731 بطانية جديدة تـم توزيعها على الأسر المستفيدة .
و 600 جهاز جديد من الأفران والغسالات والمكيفات تم توزيعها حتى الآن .
و 800 شاب من أبناء الأسر المستفيدة استفادوا من مركزين صيفيين حتى عام1422ه‍ .

[ وكل هذه أرقام قديمة نوعًا ما.. ! ]

* * * * *

أرأيتم.. كيف يتحول الحلم إلى واقع جميل مشرق.. بإخلاصٍ يعمر القلب.. وبشئ من التفاؤل.. وبكثيرٍ من التخطيط ثم العمل..؟!

انظروا هنا :  http://www.alkhairi.com/


حبٌ لا يموت..!


قال الراوي.. ودمع الذكريات يتلألأ في ناظريه :

** سأحدثكم عن صاحبي الذي رحل.. وبقيت ذكراه كما يبقى الندى على كفوف الورد بعد فجرٍ ضحوك..!

عرفتُه.. فعرفت أن للحق رجالاً لا يهابون إلا الله..
وأن أمتنا كالغيث.. لا يُدرى خيره في أوله أم في آخره..
وأن للبطولة شبابًا.. هم كأزاهير الأمل بين حقول اليأس..!

وأيقنت أن الجهاد مدرسةٌ.. معلموها أبطال أشاوس.. وكراريسها ميدان وقتال.. وأقلامها سلاح ورصاص..!

* * * * *

في تلك القرية التي تنام على سفح جبل أشم.. كانت أول مرةٍ التقينا فيها.. وفي تلك الليلة التي نقشت ذكرياتها في القلب كانت بداية حكايتي مع صاحبي..

كان المجاهدون ينتظرون الإشارة بالتحرك في المسيرة التي ستستمر ساعاتٍ طويلة.. والوقت يزحف ببطء كما تزحف كل لحظات الارتقاب.. والكل لا يريد أن ينام.. علّ الفجر أن يُعجل بقدومه لتبدأ المسيرة نحو المكان الذي يُنسى كل شئ ولا يُنسى طيفه وذكراه..!

** " أأنت عربي..؟! " .. قالها ( س . أ ) وتلك الابتسامة الساحرة ترتسم على شفتيه..

** " نعم.. ومن بلاد الحرمين..؟!"

** " الله أكبر.. إذن أنت تعرف الشيخ سعد الغامدي..؟!" ..

** " سبحان الله.. وهل تعرف الشيخ ؟! ".. قلتها مستعجبًا أن يصل ذكر قرائنا إلى تلك الجبال التي لا يكاد يُسمع فيها إلا دوي القنابل وأزيز ( السوخوي ) وعزف الرصاص..!

فأخرج من جيبه شريط كاسيت.. وقال لي مبتسمًا :
** " هذا هو الشيخ سعد.. عفوًا : أقصد صوت الشيخ سعد الغامدي "..

ثم نهض من عندي.. وذهب ليسامر أحد الإخوة..!

كان كالنحلة.. يطير من مكانٍ إلى مكان.. يُمازح هذا.. ويُداعب ذاك.. ويتعرف إلى ثالث.. حتى غفت العيون وهجعت الأجساد.. ونام كل الإخوة..

ظللت في مهجعي أستجدي النوم أن يأتي.. فلا يستجيب.. حاولت الخروج من البيت الصغير الذي كنا فيه.. فتذكرت أمر الأمير بعدم الخروج إطلاقًا إلا لأمرٍ مهمٍ.. وباحتياطات مشددة.. لأن المنطقة غير آمنة.. والوشاة كثيرون..

التفتُ إلى فِراش ( س . أ ) فلم ألمحه هناك.. أين ذهب يا تُرى..؟! .. لا أظنه سيعصي الأمير وهو ساعده الأيمن..!

** " ... اللهم إني أسألك الشهادة.. اللهم احشرني من حواصل الطير وأفئدة السباع.. اللهم ...."!! .. تناهت إلى سمعي هذه الكلمات الهامسة المتضرعة الصادقة.. فالتفتُ صوبها.. لأرى طيفَ أحد الإخوة واقفًا يُصلي والناس نيام..!

دفعني الفضول إلى الذهاب إليه بعد انقضائه من الصلاة.. سألته.. ( كتو تام ) .. أي : من هناك..؟!
فأجابني صوتٌ تكرر على سمعي تلك الليلة كثيرا :
** " .. أهو أنت؟! .. أصلحك الله..!! " ..
لقد كان صوته هو.. صوت أخي ( س . أ ) ..!

ثم قال لي معاتبًا :
" .. نم .. نم يا ( ...... ) فإن أمامك مسيرة طويلة.. وتعبًا ناصبًا.. واترك عنك الفضول.. أما أنا؛ فسأنام الآن.. لأني قضيت وقتًا طويلاً في الخلاء بعد وجبة العشاء التي طبخها ( ....... ) !! "

علمتُ حينها أن ( س . أ ) نسيج وحده.. لا يطرب لثناء.. ولا ينتشي لمديح.. ولا يفرح أن يُحمد بما يفعل.. فضلا عما لم يفعل..!

** " حسنًا .. سأذهب ولكن لا تزعجني بذهابك إلى الخلاء مرة أخرى ..!! "..

وعدتُ إلى الفراش.. وغلبت عيني سنةٌ من النوم..

* * * * *

" ...بوم .. بوم .. بوم .. بوم .. " !!

.يا إلهي .. ما هذا..؟! .. هببت من فراشي مذعورًا.. كان دوي القنابل يصم الآذان.. والنوافذ تهتز من قوة الصوت.. وما بقي أحدٌ من الإخوة إلا استيقظ..

** " ... لا تخافوا.. إنها تبعد عنا كيلومترات كثيرة !! " .. قالها ( س . أ ) بكل هدوء وثبات..

وغشا المكان غلالةٌ من الصمت.. لا يقطعه غير دوي قصفٍ يتكرر بين لحظاتٍ وأخرى.. والإخوة قد اجتمعوا حول النافذة يقلبون وجوههم في السماء ليروا الطائرات التي تقصف.. فلا يرون سوى سوادٍ وعتمةٍ تغطي الكون..!

همستُ في أذنه :
** " .. على أي مكانٍ بالضبط تنزل تلك القذائف.. ؟! " ..

فابتسم وقال :
** " .. على أي مكان..؟! .. على الكتيبة التي سنسير إليها غدًا إن شاء الله ..! "

** " .......... "

** " لقد نفذت الكتيبةُ عملية فجر اليوم.. وكالعادة؛ جُن جنون الروس.. وبدأو في القصف العشوائي.. لكن لا عليك.. كلها قذيفةٌ أو قذيفتان.. وجريحٌ أو جريحان.. وشهيدٌ أو شهيدان..!"

** " كان الله في عونهم..؟! " ..

فغمزني باسمًا .. وقال :
** " .. بل قل كان الله في عوننا.. لأننا سنكون معهم غدًا إن شاء الله .. "

* * * * *

وتنفس الصبحُ عن يومٍ لا يُنسى..

وبدأت المسيرة..

وبدأت معها صفحةٌ خالدة من رواية الأمل الباسم

هي ليست مجرد ذكريات.. بل هي نسماتُ الأمل التي تستروح النفس في أفيائها حين الهجير..

وهي بعض ما يعيش عليه الخاطرُ المكدود لئلا يقضي عليه الأسى..!

وهي..

هي أمشاجٌ من القلبِ.. وكفى..!

* * * * *

وسكت الراوي.. بعد وعدٍ منه أن يُكمل الحديث عن صاحبه وعن تلك الأيام..
وعن الحب الذي لا يموت ..!

[ والعهدة على الرواي.. ]

* * * * *

قال الراوي :

. .. وانطلقنا من القرية إلى المسيرة..

وكان حظي أن أكون مع المجموعة التي فيها ( س . أ ).. وكانت السيارة التي تقلنا تنهب الأرض نحو سفح الجيل الذي سنرتقي قمتَه نحو الكتيبة..

جلس هو في مقعد الراكب الأمامي.. وأنا خلف السائق.. فالتفتَ إلي وقال :
** " ... اسمع.. إن بدأ إطلاق النار فاتبعني..؟! "

** " .. إطلاق نار.. أي إطلاق وأي نار يا أخي.. نحن لم نصل إلى الكتيبة بعد..؟! "

فابتسم.. وقال :
** .. الجواب ما ترى لا ما تسمع ..! "

وفعلاً.. رأيت الجواب بأم عيني..! كان الطريق قبل وصولِنا إلى سفج الجبل محفوفًا بدبابات العدو وآلياته.. وآلياتهم تتناثر يمنة ويسرة.. وأولئك الأوغاد يشربون أقداح ( الفودكا ) وهم يعتلونها.. فكان لزامًا علينا أن نتأهب للمواجهة في أي لحظة.. وإن كنتُ أكاد أوقن أن الله قد جعل حينها من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا.. فأغشاهم فهم لا يُبصرون..!

* * * * *

ووصلنا إلى السفح..

وكانت مجموعتنا في المقدمة.. الدليل.. ثم أحد الإخوة .. ثم أنا.. ثم صاحبي ( س . أ ).. ثم بقية الإخوة.. وبين كل واحدٍ وأخيه عشرة أمتار تقريبًا..

التعليمات كانت واضحة صارمة : ألا نُصدر أي صوتٍ مهما كان.. إلا حين نتوقف للراحة ونقترب من بعضنا البعض.. فكان صاحبي يشاكسني بين حين وآخر.. فيرمي علي حجرًا أو غصن شجرة.. وهو يُلوح بعلامة النصر.. ويتبسم..!

لم نكد نقطع بعض الطريق حتى تناهي إلينا صوتُ خطواتٍ سريعةٍ حولنا.. فتوقفنا.. وأشار إلينا صاحبي أن نجلس على الأرض.. وذهب هو ليستقصي الأمر..

كنتُ قلقًا عليه.. فأشرت إليه لأذهب معه.. فأبى.. ومضى وحده صوب الصوت.. وهو ممتشقٌ سلاحه الذي لا يُفارقه..

مرت دقيقتان أو ثلاث كأنها دهرٌ ترقبًا وتوجسًا.. ثم أقبل صاحبي وثغره يفتر عن ابتسامة وضيئة.. ويداه تشيران : ألا تقلقوا.. إنما هي خنازيرُ وحشية.. وكانت تملأ الجبال هُناك..!

وعُدنا إلى المسير.. وفلول الليل تلوح لنا من بعيد.. ونحن نسابق خيط الشمس قبل أن يتوارى خلف تلك القمم المكللة بالثلوج..

* * * * *

أعترف بأني كنتُ متعبًا وخائفًا.. فتلك أول مرةٍ أقطع فيها مثل تلك الجبال وفي مثل تلك الظروف.. لكنك حين تلمحُ عزم الإخوة وثباتهم فإنك تعود إلى نفسك وتتصاغرها أمام العزائم التي لا تنحني ولا تخور..!

حتى وصلنا إلى الكتيبة.. فتعالى التكبيرُ من الإخوة المرابطين على حراسة الكتيبة.. فرد عليهم الإخوة في المسيرة بالتسبيح.. ولاحت لنا خيام الإخوة ونيرانهم على ضفاف الجدول أسفل التبة العالية.. وحينها بحثت عن عيني صاحبي ( س . أ ) لأرى فيها ما كنتُ أتوقع منها في مثل هذه المواقف.. فما خاب ظني.. فقد رأيتُ دموعه تترقرق وهو يُعانق الإخوة في الكتيبة.. ويغالب العبرة التي تهز صدره هزًا..!

ألقينا عن كواهلنا الحقائب التي كانت مملوءة بأمتعتنا وببعض الرشاشات والذخائر وبشئٍ من الطعام والمعلبات التي تحتاجها الكتيبة.. والتعبُ قد بلغ من مبلغه..

ثم جمعنا الأميرُ.. ووزع الإخوة إلى سرايا.. فكان صاحبي في سرية وأنا في أخرى..!

* * * * *

صلينا المغرب والعشاء جمع تقديم.. وأثناء الصلاة كان حس نشيج خاشعٍ يتعالى وصاحبه يحاول كتمانه قدر جهده.. ووالله إن حسَّه كان يُسمع من وراء الصفوف..!
لم أكن بحاجةٍ لأن أُكثر التفكير في معرفة صاحب البكاء.. فقد التفتُ صوب الصوت بعد انقضاء الصلاة فرأيت ما كنت أتوقع.. رأيت صاحبي ( س . أ )..

يا إلهي.. أي خشية تملك تملأ قلبه - أحسبه كذلك - .. وأي رقةٍ يحملها فؤاده الذي ينقلب صلدًا قويًا حين يُلاقي أعداء الله.. بل أي روحٍ تلك التي تمر عليها - فيما يظهر - كل فصول النفسيات في يوم واحد : رقةٌ .. فقوةٌ .. فرحمةٌ..
فشدة..؟!

* * * * *

قام الأمير بعد الصلاة ليُخبرنا بأن توزيع الحراسة الليلية من اختصاص مسؤولي السرايا.. ثم تفرق جمع الإخوة كلٌ يمضي إلى مخدعه..

وما كدتُ أضع رأسي على فراشي.. حتى جاءني مسؤول سريتنا ليخبرني أن دوري في الحراسة يكون بعد ساعتين..!

ولا تسل حينها عن شعور متعبٍ مكدودٍ في ظلامٍ دامس وبردٍ شديد.. وهو يتمنى لو دفع كل ما يملك مقابل ألا يتولى الحراسة في تلك الليلة بالذات..!

أما صاحبي فكان يمر على بعض الشباب.. يُذكر بقيام الليل.. ويُوصي بقراءة الورد.. ويُمازح ويُشاكس.. حتى جاء إلي.. فقال بعد فاصلٍ من المزاح والتلطيف :

** " ... متى دورك في الحراسة ..؟! "

** " .. بعد ساعتين ..!! " ..

** " أعانك الله .." ..

* * * * *

قال الراوي :

" ... وحل الظلامُ سريعًا.. وأحاط الكونَ برداءٍ من الهيبة والسكون.. واستسلمتُ لنومٍ عميق.. حتى أتى من يوقظني للحراسة الليلية..

يااااااالله.. ما أعجب الإنسان..!

كم هو سهلٌ على النفس أن تبني قصورا من الخيال والأحلام.. وتُمضي وقتًا في الأماني والتطلعات.. وتحلق في آفاق الآمال الوردية..!

وما أيسر أن يتخيل الإنسان نفسَه حيثُ يحب.. ثم يمضي في تخيلاته وهو يدعو الله أن يُعجل باليوم الذي يكون فيه الخيال حقيقةً مُعاشة..!

فإذا ما تحقق الخيالُ ونيلت الأماني ودنا المأمول.. تكشف الأمرُ عن حقيقةٍ راسخة : أن الواقع مختلف عن المثال.. وأن أعباء الطموح شاقةٌ..

كانت هذه الخواطر تمر علي وأنا أخطو بتثاقل نحو مكان الحراسة الليلية.. وفي ذهني تلك الآمال التي كنتٌ أرسمها لعالم الجهاد والرباط، وأدعو الله أن يذيقني لذتها.. فمالنفسي تهاب وتخاف وهي تعيش أولى ليالي الأماني..؟!

لكنه الجهاد والرباط..!
ليس نشيدًا نترنم به ونحن مستلقون على فرشنا.. ولا شريطًا مرئيًا نقلب النظر فيه ونحن متكئون على الأرائك.. ولا أمنيةً يحلو للنفس العيش في أجوائها وهي متنعمة بين الأهل والأحباب..!

بل الأمر عزيزٌ.. وشديد..!
بردٌ وظلام.. وخوفٌ وجوع.. ومشقة ونصب.. فمن كان يظن أنه سيجاهد بلا ضريبة من تلك الضرائب فليقعد في بيت أهله.. وليملأ وسادته تحت رأسه..!

هذا هو الجهاد.. وذاك هو الرباط.. كالشهد لا يناله طالبُه من منبعه إلا بوخزاتٍ من الإبر المؤلمة..!

أما الشهادة.. فهي الاصطفاء الرباني.. وهي المنحةُ التي لا ينالها إلا الموفقون الصادقون..!

* * * * *

لا أدري كم مضى من الوقت وأنا في الحراسة الليلية متكئ على سلاحي.. وأنا لا أكاد أرى شيئًا.. ولا أسمع إلا حفيف الأوراق التي تعبث بها الريحُ الباردة.. حتى خُيل إلي أن هناك من يخطو قريبًا مني..

اللهم اجعله طارق خير..!
فككت تأمين الرشاش – كما هي التعليمات – ووجهته صوب القادم.. وهو يقترب مني رويدًا رويدًا.. حتى إذا ما ألقيت عليه كلمة السر وأنا متأهب لإطلاق الرصاص جاءني صوت صاحبي هادئًا واثقًا.. ينطق كلمة السر بهدوء واطمئنان..!

قلتُ له هامسًا :
** " .. عفا الله عنك.. كدتُ أن أفرغ في جسدك هذا المشط كله ...!! "

فحاول كبت ضحكته وهو يقول :
** " .. مرة واحدة..؟! .. أنت شجاع جدًا ..! "

** " .. بل خائف والله.. ما كنتُ أحسبُ أن الحراسة الليلية هكذا مهابة..! "

** " .. لا عليك.. ستعتادُ صدقني.. كلنا كنا هكذا.. ثم أصبحت الحراسة أهون علينا من تنظيف (البيكا )..!.. المهم أن تكون منتبهًا ومتيقظًا.. لئلا يؤتى المجاهدون من قبلك.. وإياك والنوم أو النعاس.. ثم عليك بقراءة القرآن الكريم في سرِّك فإنه خير أنيس....! "

ومضى صاحبي ( س . أ ) في نصائحه وهمساته وحديثه.. حتى مضى من ساعة الحراسة نصفها.. ثم نهض من عندي وهو يقول لي :

** " .. عليك بالصبر واليقين.. أراك على خير ..! "

* * * * *

وفعلاً.. رأيته بعد أقل من ربع ساعة على خيرٍ – كما أحسب - ..!

إذ لم يكد يغادر من عندي إلى سريته.. حتى حلقت فوق المخيم مروحية عسكرية استكشافية.. ثم عادت بعد أربع دقائق وهي تنخفض إلى مستوى أقل من المرة الأولى..

هممت أن أوقظ الأمير ليأمر بما يُناسب.. فقد يكون إنزالاً.. وقد يكون ترصدًا.. لكن القصف سبقني.. وبدأ ( الحفل ) كما يحلو لصاحبي أن يسميه..!

كان قصفًا شديدًا جدًا.. فهبّ المجاهدون من فرشهم.. وصوت الأمير يجلجل في المكان : ( انتشااااااااار..! ).. وتجمع أكثر الإخوة في الخنادق.. وتسمرتُ في مكاني حائرًا..!

لم أكن أعرف المكان جيدًا بعد.. ولا أكاد أبصر شيئًا حولي.. والإخوة مشغولون بأنفسهم.. فاستلقيت على الأرض في مكاني.. ووجهي مدفونٌ بين ذراعي لئلا تصيبني الشظايا..!

حتى أحسست بكف تُمسك بكتفي وتهزني بعنف.. فرفعت رأسي على صوت صاحبي ( س . أ ) وهو يهتف :
** " .. أخي.. هيا بنا.. هيّا.. "

فأمسك بيدي وهو يجري نحو الخندق حتى وصلنا إليه.. فدفعني إلى داخله ثم لحق بي..

لا أدري حقيقة كم استمر القصف تلك الليلة .. لكني أدري أنه كان عنيفًا ومُرهبًا.. فذُهلت عن من حولي وأنا منكفئ على نفسي أدعو الله بما تبقى في ذاكرتي من أدعية وأوراد..!

أما صاحبي فقد كان مشغولاً بأمرٍ عجيب..!
كان ممسكًا بجهاز التسجيل الصغير.. وهو يُخرجه بيده من الخندق..!!

* * * * *

وبعد انتهاء ( الحفل ) وعودة الأمور إلى الهدوء والسكون.. تبعتُ صاحبي لأسأله عما كان يفعل.. فوجدته مشغولا بتفقد الإخوة والجرحى.. حتى انتهى فقلتُ له :

** " ... أخي.. هل لي أن أسألك عما كنتُ تفعل بجهاز التسجيل والقنابل تنزل علينا كالمطر..؟! "

قال وهو يُشير بيديه بغير المبالاة :
** " .. وهل يهمك الأمر ..؟! "

** " .. بالتأكيد.. ! "

** " .. كنتُ أسجل صوت القصف والقنابل.. حتى إذا ما جاء الشتاء أنستُ بتلك الأصوات والذكريات ..!! " ..

** " .......... "

* * * * *

ما كان صاحبي بحديث عهدٍ بجراح ولا بآلام..!

فذات شجاعة..
كان الأمير ينتقي من الكتيبة مجموعةً للترصد.. فاختار خمسةً منهم صاحبي ( س .أ ) .. فمضت المجموعة باكرًا تسابق خيوط الشمس.. وسرنا معهم نودعهم كما هي العادة في كل عملية.. بل في كل ليلة.. حين يسلم الإخوة بعضهم على بعض سلام مودع.. فقد تكون آخر العهد بالصحاب..!

وتوارت المجموعة خلف تلك التبة الصغيرة جهة الشمال..

وبعد قرابة الساعتين تناهي إلى سمعنا صوت زخاتٍ من الرصاص.. وكان منها صوت سلاح لا يملك الإخوة في مجموعة الترصد مثله..!

وبدا القلقُ على وجه الأمير من انقطاع المخابرة بيننا وبينهم.. ودوي الرصاص يتعالى ويستمر.. حتى استحال إلى طلقاتٍ متقطعة.. ثم خفت الصوت تمامًا..!

وبعد قرابة الدقيقتين اتصل قائد المجموعة يطلب إمدادًا من الكتيبة.. فذهب الأميرُ ومعه نخبةٌ من الكوادر المتمرسة..

وطال غيابهم..!

ثم أبصرناهم يمشون إلينا.. وعيوننا تسابق خطاهم لنطمئن عليهم.. فإذ بالخمسة يأتون كلهم عدا واحد.. لكنه ليس كأي " واحد " .. إنه صاحبي ( س . أ ) ..!

انطلقتُ إلى الأمير أستفسر منه عن الخبر.. فأخبرني أن المجموعة وقعت في كمين.. وأن أخانا صاحبي ( س . أ ) قد أُصيب بعيارات نارية، أصاب واحدٌ منها صدره من الجهة اليسرى، وخرج من ظهره..!

قلتُ بانفعال :
** " .. وهل استشهد..؟! "

فقال الأمير وهو يلتقط أنفاسه :
** " .... حتى الآن.. لا ..!

** " ..........

** .. وإن حدث ذلك فهي أمنيته فلا تأسَ عليه.. فهو على الأقل قد صرع اثنين من الروس..
المهم لدينا الآن أن نغير مكان المخيم في أسرع وقت لئلا يُباغتنا الروس..! " ..


وبقيتُ أصارع حزني بغيابه.. ونحن نيمم وجوهنا شطر المكان الجديد.. ومع مسيرة جديدة..!

* * * * *

وبعد أقل من أسبوع..
كان أخي وصاحبي ( س . أ ) يتصل بالمخابرة ليستئذن الأمير في الإياب.. فهو – كما يقول – قد تماثل للشفاء..!

الله أكبر..!
ما أقوى عزمك يا صاحبي وما أشد بأسك.. غيرك يعذر نفسه بأوهام، وأنت تَعدُّ جرحًا غائرًا أعلى قلبك من الجراح اليسيرة..!

وما أروع الدرس ( العملي ) الذي علمته لنا، وأنت تستجدي الأمير أن يأذن لك وأنت جريح، في الوقت الذي نستسلم فيه للإخلاد إلى الأرض والركون إلى الدنيا ونحن أصحاء أقوياء..!

وما أجمل الأمل الذي نستلهمه منك ومن أمثالك.. حين تدهمنا فلول اليأس الموهن..!

* * * * *

ومرت الأيام.. وفارقتُ صاحبي إجبارًا لا اختيارًا.. لكن أرواحنا لم تفترق.. أسأل عنه ويسأل عني.. وأدعو له ويدعو لي.. فليست الإخوةُ مجرد علاقة فحسب.. بل هي علاقة روحية راقية.. تسمو بنا إلى درجاتٍ من الصفاء والحب لا يبلغها إلا من ذاق طعم الأخوة.. واستظل بأفيائها..

وفي رمضان من هذا العام 1424 ، بلغني خبرُ استشهاد صاحبي - أحسبه شهيدًا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدًا - ..

كان صائمًا مرابطًا مجاهدًا.. حتى أتاه ما يتمنى.. في قرية صغيرة.. وبعد معركة ضارية مع قوات الأمون الروسية جندل فيها كافرًا وأصاب آخر.. حتى نالوا منه ما كان يهون عليه في ذات الله : روحه الطاهرة..!

فرحمة الله عليك أخي ( س . أ ).. فقد كنتَ زهرةَ من أزاهير الأمل.. تتعالى وسط حقول اليأس..!

وتقبلك الله في عداد الشهداء..

وألحقني - وألحق كل من يسمع بأمرك - بك وبالشهداء.. مقبلين غير مدبرين..!


[ إلى ذكرى أخي أبي معاذ.. وفاءً لدمائك التي سالت، لتسقي جدب عزائمنا، وقحط أخوتنا ..!]

ثمة صورةٌ تخيلية - أحسبها - مكرورة عند كثير من شباب الصحوة الحيارى، وهم يُبصرون ( الفصام ) النكد الزائف بين التربية وأهلها، والجهادِ وأهله :

أتخيل أحدَنا يُمسك حيرانَ، بوردة مجتزةٍ من غصنها..
ويشرع في قطع خمائلها.. واحدةً.. واحدة.. واحدة :

دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..

آخر خميلة :
دعوة و تربية..

هكذا إذن ..!
فالدعوة و التربية أولى وأحرى..!!

ويُمسك حيرانُ آخر بوردة أخرى، فينتهي قطع الخمائل على خميلة : الإعداد والجهاد..
ليقول لنفسه : فالإعداد والجهاد أجدر وأولى..!

هاته هي الصورة المؤلمة المكرورة..
وهذا هو ( الفِصام ) الزائف، الذي يُخيل إلينا من نزغ الشيطان أنه حقيقة واقعة، وأن الجهاد والتربية سيفان لا يجتمعان في غمد، وقلبان لا يلتقيان في جوف..!

* * * * * * *

لو سألنا ( نظريًا ) أيًا ممن يتبنى أحد الرأيين، وقلنا له :
يا أخي.. أليس الجهاد والتربية وجهين لعملة واحدة..؟!

سيكون الجواب جزمًا :
بلى ..

لكن ( بلى ) هذه، تظل - غالبًا – مجرد ثلاثة أحرف تطير في الجو، أو تُسطر على الورق..
وتبقى – على قصرها – بعيدةً عن طرائق التربية العملية..
وغائبةً عن طرح شباب الجهاد الملموس..

وعندما رحلتَ أخي أبا معاذ..
ما كنتُ تبصر تهوينًا من شأن الدعوة والتربية، ولا وصمًا لكل مُنشغلٍ بها بالقعود والتخذيل و ( الانبطاح )..!

وما كنتُ تسمع تمييعًا لمفهوم الجهاد، ولا صرفًا لنصوص الجهاد والقتال إلى جهاد النفس، وجهاد الكلمة، وجهاد الرأي..

بل أدركت الصحوة وهي بفطرتها ونقائها وصفائها، وقادتُها يربّون فينا الحقيقة التي عليها نشأتَ أنت وأمثالك.. الحقيقة التي شعارها :

~~ أن الجهاد من أعظم طرائق التربية، ومن أكبر وسائل الدعوة..؟!

~~ وأن التربيةَ هي المحضن الذي يُنبت لنا قادةَ الجهاد الواعين الأبطال، والدعوةَ هي المنجم الذي يُخرج للأمة خيار " معادن " المجاهدين..؟!

* * * * * * *

لقد كان ذاك هو الفهمَ البدهي البدائي السائد في أوساط الصحوة، وهو الذي خرَّجك يا أخي أبا معاذ..!

نعم..
كان هُناك اختلافٌ في وجهات النظر بين الفريقين، لكنه اختلافُ تنوع، لا اختلاف تضاد..
وكل فريقٍ يدعو لأخيه ويذكره بالخير، ويذب عن عرضه..!

وكان الذين ربّوك يقولون : لقد رحل ( المُجاهد ).. ولنعم الراحل هو..!

وكان الشباب في الثغور يقولون : هكذا تكون ( محاضن التربية، وحلقات تحفيظ القرآن، والمراكز الصيفية )، منابتَ ينمو فيها العلماء والمربون والمجاهدون..!

كان يا ما كان..!
كان يا ما كان..!

وكأنها أسطورةٌ من التراث، يرويها شيخٌ كبيرٌ لأحفاده ليتسلوا بها، ويُحلقوا معها في جو الخيال..!

* * * * * * *

أبا معاذ..

ليست هذه سيرةً أُسجل فيها تفاصيل حياتك، وقصة رحيلك، ويوم استشهادك..
لأن سيرتك الحقيقة هي التي تبقى في القلوب، وترفع الهمم، ويقتدي بها المُقتدون.. وإن لم تُكتب..!

ولا هي حروفًا.. أبكي فيها أطلالَ ذكرياتٍ، لم تندرس معالمُها بعدُ..
وهل ييكى الأطلالَ من كان يعيش في أرجائها..؟!

ولا هي سطورًا.. أرثي فيها أيام الصحوة الخوالي..
وهل يُرثى من كان حيًا يتنفس..؟!

ولا هي " لومًا " لهؤلاء، ولا " تقريعًا " لأولئك..
فما هم إلا إخوانٌ لي وأحبةٌ لقلبي :
" وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ .......... جاءت محاسنه بألف شفيعٍ ! "

ولا هي - فيما أبصر وأرى - مُبالغةً ولا تهويلاً..
لأن الواقع ناطقٌ بما أقولُ، وإن أطلت بعض الاستثناءات هُنا وهناك..!

إنما هي ..
هي.....

لستُ أدري والله ما هي..!

قد تكون محاولة لنفض بعض الغبار عن ( الأخوة ) التي لن تنفصم عُراها، وإن شابها ما يشوب الإخوة الخُلطاء .. ورغبةٌ خجلى في لفت الأنظار إلى بصيص ( الأمل ) الذي يبزغ من خلف الركام..

لكن الشئ الذي أعرفه يقينًا.. أنها" خطراتٌ " ظلت حبيسةَ الذهن أمدًا..
حتى إذا ما أتى خبرُ استشهادك - أحسبُك كذلك - قبل البارحة؛ انسابتْ هاته الخطراتُ وتحدرت..

فقد التقى الهمُّ على أمرٍ قد قُدر..

أبا معاذ :

البارحة..
في بيت العزاء..
كانت كل زاويةٍ ناطقةً بذكراك..!

النخلةُ المائلة التي طالما استلقيت في ظلها، وأنت تترنم بآيات الله..
والملحقُ الخارجي الذي كان صومعةً تفر إليها من وعثاء الحياة اللاهثة..
والفناء الذي ذرعته في طفولتك ذهابًا وإيابًا..!
مكتبتُك..
دفاترُك..!

أكاد ألمح طيفك البسّامَ عند عتبة الباب، وأنت تنتظرني لنصطحب سويًا إلى حلقة تحفيظ القرآن الكريم..
حلقة تحفيظ القرآن.. أتذكرها.. ؟!!

إنها ما زالت تذكر أيامَك ونشاطك..
ومازالت تلك السارية التي تهواها تتوق إلى اتكاءة ظهرك النحيل..
ومصحفك الأخضر لم يبرح سيارتي من يوم رحيلك.. أناجي حروف اسمك المنقوشة على طرَّته..
وبواكير الصباح تُذكرني قدومك ماشيًا إلى المسجد، لنجلس معًا نتذاكر كتاب الله..!

* * * * * * *

البارحة.. في بيت العزاء..
تذكرتُ – والذكرى مؤرقةٌ – يومَ رحيلك..!

حينما هاتفتني تطلب مني اللقاء.. فأتيتُك وقلبي يُحدثني أنك فاعلٌ ما عزمتَ عليه لا محالة.. وأنك مُحققٌ مناك الذي كبرت وكبر معك : أن ترحل إلى أرض الجهاد في الشيشان..

يومها..
حاولتُ اصطناع التجلد والاصطبار..
وحبستُ الدمع في المآقي؛ لئلا أخذلك وأنت قد شددت الرحال..
ففضحتني حمرةُ العين، ورعشةُ الشفاه، ووجيبُ القلب..!

لم أشأ أن أطفئ جذوة حماسك بتخذيلك أو ردك عن مقصدك.. ولا رأيتُ أن أسدي لك الكلمات التي يحسبها المربون ستصد المتعلق بالجهاد.. وهي – على الحقيقة – تزيد الجذوة ضرامًا..!

فقد تناقشنا قبلُ حول أمر ذهابك للجهاد كثيرًا..
وعلمتُ أن مثلَك سيرحل ولو حبوًا..
فما كان يليقُ بي – وأنا الذي أزعم أني أسهمتُ في تربيتك يومًا – أن أقف أمامك، أو أوهن عزمك..

وإنما حاولتُ إعطاءك ما أحسب أنه سيفيدك ويُفيد الإخوة هُناك، وشددتُ من أزرك، وحمَّلتُك أمانة إيصال زكاة علمك وتربيتك لأهل الثغور..
دينًا أدين الله به.. ورأيًا أراه هو الصواب..

وهل تحجب السيلَ الهادرَ سدودٌ من ورق..؟!

* * * * * * *

أبا معاذ..

أتراك تردد في غيابك هذا البيت :

" لأعرفنّك بعد الموت تندبني................. وفي حياتيَ ما زودتني زادي.."

أتُراك تتمثل هذا البيت، وأنت راحلٌ إلى مُرادك.. وقد بلغك ما تنضح به ساحات الصحوة من اضطرابٍ وانقلاب موازين..؟!

لا يهمني – صدقني – ما سمعتَ من " بعض " قادة صحوتنا وهم يُميعون قضية الجهاد والإعداد، ويصمون من تتوق نفسه إليه بالتهور والتعجل والافتيات على الأمة..!
لأنك قد تكون سمعتَ من " بعض " قادة الجهاد من يسوم أهل التربية والدعوة سوءَ الظن، ويرميهم بالقعود والتخذيل والركون إلى الدنيا..!

وقد نزغ الشيطان بين الفريقين، ولبَّس عليهم الأمور، فخُيل إليهم أن الورمَ هو المرض، وما علموا أنه مجرد " ظاهرة " للمرض الساري في الجسد منذ أمد، فجاءت الأحداث الأخيرة لتكون الشوكة التي نكأت الورم، فانبجس منه قيحُ الفتنة وصديدُ الفُرقة..!

لا يهمني أبا معاذ شيئًا من ذلك، لأني ألمح خلف ركام الشتات والاختلاف بصيصًا من أملٍ واعد، واجتماعٍ مُحبب..

ولأن العواصف ستهدأ حتمًا، والزوابعَ ستسكن يومًا.. وسيذهب الزبد جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس..

لذا؛ لا يهمني ذلك كله، كما يُهمني ألا تتمثل هذا البيت وأنت تتصور حالي معك..!

إن مجرد تخيل رحيلك وأنت تحمل في قلبك عتابًا علي، يُحيل نبضات قلبي إلى سهامٍ ترمي الفؤاد، لا ترحمُ ولا تني..!
فعُذرًا – لو أجدى العذرُ – عُذرًا.. إن كنتُ قد قصرتُ في حقك وأنت بين يدي..

وعُذرًا – أيها الراحل - عن مخاصمتي إياك في أمرٍ لا يستحق الخصامَ ولا اللدد، لو تمعَّنتُ فيه لبكيتُ ألمًا، وشر البلية ما يُبكي..!

وعُذرًا- أيها الحبيبُ - .. إن كنتُ قد هجرتُك إثر موقفٍ تافهٍ، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما التفتُ إليه..!

لو..؟!
لو..؟!

وهل تفتح ( لو ) إلا عمل الشيطان..؟!

* * * * * * *

يا صاحبي الذي مضى..

هذه آفةٌ ( أخوية ) مستشرية :
نتجادل ونتخاصم ونتهاجرُ في أمورٍ هي من سفاسف الأمور..
حتى إذا ما رحل أخي، أو غاب، أو مات.. عُدتُ إلى نفسي؛ أبكي على ما سلفَ منّي وبدر..!

وأشعر نحو أخٍ لي بمشاعر الحب الصادق في الله، فتظل تلك المشاعرُ حبيسةَ الأضلاع، أحسبها " ميوعةٌ " لا تليق بالرجال..!
حتى إذا ما رُزئتُ بفقد أخي.. ظللتُ أردد : ليت أني أراه لحظةً واحدة، لأبوح له بحبي وودي وإخائي..!

فكيف بي والأخ الذي ضننت عليه بأخوتي هو أنت..؟!
وكيف بالأعذار وهي ترتد إلي كليلة حسيرة، وتقول لي : ليت أنك بكرّت قليلا، فقد رحل من تعتذر إليه..!

" ( ليتَ ).. وهل تنفع شيئًا ليتُ ..؟! "

* * * * * * *

سقى الله سفوح ( فيدنو ) التي طالما حرثت أرضها جهادًا وبطولةً وفداءً..

ورحمك الله أبا معاذ.. وتقبلك في الشهداء.. وأكثر من أمثالك الناثرين بذور الأمل في حقول اليأس

وألحقنا بك وبالشهداء مقبلين غير مُدبرين..

اللهم - يا رحمن يا رحيم - اجبر مصاب والديك وأحبابك.
واربط على قلبي الموعوك..!

ياااارب..

وكتبه الباتك
شبكة الفوائد الإسلامية

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية