اطبع هذه الصفحة


نحو فقه واع . . سد الذريعة

مهذب أبو أحمد

 
إنّ الناظر للواقع المزري الذي تعيشه الأمة اليوم في باب تعدد الفتوى في النازلة ، واعتداء بعض على بعض بالثلب والتجهيل والتفسيق والتبديع .
أمر يفتّ الفؤاد ألماً ؛ إذ يتنازع الناس ويتفنون في ضرب القرآن بعضه ببعض - إلا من رحم ربك وقليل ماهم - ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
وما ذاك إلا من قلّة الفقه في الدين ، ومن عدم تعظيم نصوص الوحي استدلالا ومنهجاً وسلوكاً .
حتى لقد صرت ترى من آثار هذا التخبط أن أصبح كل ذي لسان يتحدّث في أمور العامة تصنيفاً وتبديعاً وتفسيقاً وشجباً وإدانة واستنكاراً !
فلا تستغرب في هذا الزمن أن تجد :
صحفياً . .
أو مراسلاً . .
أو لاعباً
أو فناناً . .
أو بطل مسلسل . . .
يتحدث في أمور العامة ، ويُلقي بالأحكام وتصنيف الناس جزافاً . وما تلك إلا من الفتنة واتباع سبيل الشيطان التي أخبر الله تعالى عنها بقوله : " وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً " (النساء:83) .
وإن مما عمّ الجهل به علماً وفقهاً وسلوكاً قاعدة ( سد الذرائع ) والتي صرت - اليوم - تجد كثيراً من الخلط الواقع فيها بين شدّة التضييق بحجة ( سد الذريعة ) وفجوة التمييع بحجة ( فتح الذريعة ) .
الأمر الذي يحتّم على أهل العلم والبصيرة ، الغيورين على دينهم وأمتهم وضع تصوّر منهجي يخفف - على أقل تقدير - من حدّة ما تعانيه الأمة في موجهيها وأهل الحل والعقد منهم ، الذين حمّلهم الله أمانة العلم والصدق في تبليغه للناس : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ " (آل عمران:187) .
" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" (البقرة:159) .

وإن كنت لا أزعم أني صاحب السبق في طرح هذا التصور المنهجي ، لكني أتمنى أن أكون قد فتحت باباً لأهل الاختصاص في هذا المجال أن يعيدوا النظر في أطروحاتهم فيما يتعلق بمثل هذه القواعد الشرعية ، التي لا زالت تدرّس على أنها تراث - للمعلومات فقط - بعيدا عن الواقع والنظرة الواعية للعصر وما يجدّ فيه من أمور ، مما يفتح باباً وذريعة لتعالم طائفة من الناس جُعلت في مواطن التوجيه - ظلماً - !

وقد أحرص في هذه الأطروحة أن تكون على نقاط وخطوط عريضة بعيداً عن تنزيل الأحكام وتحقيق مناطها على حادثة أو واقعة أو نازلة ، إذ الخوض في هذا من مثلي جناية وتعالم - ورحم الله امرء عرف قدر نفسه - !

التعريف اللغوي:
القاعدة مكونة من كلمتين : ( سد الذرائع ) .
السد :
الحائل وإغلاق الخلل . ومن ذلك قوله : " قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً " (الكهف:94) .
وقوله : " وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" (يّـس:9) .
الذريعة :
قال في لسان العرب : الذَّرِيعة: الوسيلة المفضية إلى الشّيء ، وقد تَذَرَّع فلان بذَريعةٍ أَي توسَّل، والجمع الذرائعُ.
يقال : فلان ذريعتي إليك أي سببي وَصِلَتي الّذي أتسبّب به إليك . والذّريعة السّبب إلى الشّيء ، وأصله أنّ الذّريعة في كلامهم جَمَلٌ يُخْتَلُ به الصّيد يمشي الصّيّاد إلى جنبه فيستتر ويرمي الصّيد إذا أمكنه ، وذلك الجمل يُسَيَّبٌ أوّلاً مع الوحش حتّى تألفه .
ويمكن القول أن في الذريعة معنى التحايل والمخاتلة .

التعريف الإصطلاحي :
بالنظر إلى التعريف اللغوي للذريعة يتبين أن بين الوسيلة والذريعة اتفاق من جهة المعنى العام ، وهي ما يتوصل به إلى الشيء .
سواء كان هذاالشيء مصلحة أو مفسدة .
وهذا هو المعنى العام للذريعة .
لكن اصطلح الفقهاء على أن الذرائع هي : الطرق المفضية إلى المفاسد - خاصة - .أو هي : الأشياء الّتي ظاهرها الإباحة ويتوصّل بها إلى فعل محظور .
قال القرطبى:..[ عند بيان الآية 104 من سورة البقرة] والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع....
ومعنى سدّ الذّريعة : حسم مادّة وسائل الفساد دفعاً لها إذا كان الفعل السّالم من المفسدة وسيلةً إلى مفسدة - وإن لم يُقصد بها المفسدة - .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والذريعة : ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء ، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم - ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة - ولهذا قيل : الذريعة : الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم أ.هـ - الفتاوىالكبرى 6 / 172

دليل اعتبارها .
قاعدة سدّ الذرائع هي من القواعد المختلف فيها بين أهل العلم من جهة اعتبار كونها دليلاً شرعياً يصحّ بها التحليل والتحريم .
فمن خالف إنما خالف في اعتبارها على استقلال ، ويقولون في شرط اعتبارها : لا بدّ من فضل خاصّ يقتضي اعتبارها أو إلغاءها .
وقد ساق الإمام ابن القيم رحمه الله تسعة وتسعين دليلاً على اعتبارها ( أعلام الموقعين 3 / 177 - 205 )
وساق الإمام الشاطبي رحمه الله اتفاق السلف على أصل سد الذريعة . ( الموافقات 3 / 193 ) والخلاف بينهم إنما هو في تحقيق مناط هذه القاعدة في بعض الجزئيات ( نظرية المصلحة ص 266 )
وقد عُلم بالاستقراء أن موارد التّحريم في الكتاب والسّنّة يظهر أنّ المحرّمات منها ما هو محرّم تحريم المقاصد ، كتحريم الشّرك والزّنى وشرب الخمر والقتل العدوان ، ومنها ما هو تحريم للوسائل والذّرائع الموصّلة لذلك والمسهّلة له .
قال الله تعالى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، قالوا : نهى تبارك وتعالى عن سبّ آلهة الكفّار لئلاّ يكون ذلك ذريعةً إلى سبّ اللّه تعالى ، ونهى اللّه سبحانه عن كلمة ( راعنا ) بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } لئلاّ يكون ذلك ذريعةً لليهود إلى سبّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّ كلمة " راعنا " في لغتهم سبّ للمخاطب .
وقال صلى الله عليه وسلم : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » .
وقوله صلى الله عليه وسلم : « الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشبّهات لا يعلمها كثير من النّاس ، فمن اتّقى المشبّهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في المشبّهات كان كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه . ألا وإنّ لكلّ ملك حمًى ، ألا وإنّ حمى اللّه في أرضه محارمه » .
وقال ابن رشد : إنّ أبواب الذّرائع في الكتاب والسّنّة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها .

قيود منع الذريعة :
1 - أن يؤدي الفعل المأذون فيه إلى مفسدة قطعاً .
2 - أن تكون تلك المفسدة راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه .
3 - أن يكون أداء الفعل المأذون فيه حيلة إلى المفسدة غالباً .

ماهي المفسدة التي تُسدّ ذريعتها ؟
المفسدة ضد المصلحة .
وهي كل ما عُلم مفسدتها بطريق الشرع .
ومن المعلوم أن أن الدين جاء ليحفظ ضرورياته الخمس :
( الدين ، النفس ، العقل ، المال ، النسب - أو النسل ) . فكل ما أفسد هذه الضروريات أو أحد منها باعتبار الشرع فهو مفسدة .
وليس لأحد أن يحدد مصلحة أو مفسدة لأمر ما بمجرد عقله وهواه ، إذ أن ذلك من خصوصيات الشرع ، ومعلوم عند كل عاقل أن العقل السليم يوافق النقل الصحيح .

الخلاصة :
نخلص من ذلك إلى أمور :
- الذرائع : لها معنيان : عام وخاص .
- الذرائع : فيها معنى التحايل والمخاتلة .
- الذرائع : صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم .
- لا يلزم من منع الذريعة أن يُقصد بها المحرم .
- أن الذريعة في الأصل أمر مباح في الشرع .
- المقصود من سد الذرائع : حسم مادّة وسائل الفساد وإبطال الحيل .
- الأخذ بالعزائم ضمانة حقيقية لسد الذرائع، بينما يؤدي تتبع الرخص إلى التهاون أحياناً في بعض شرائع الدين.
- كما أن الشريعة جاءت بسدّ الذرائع فقد جاءت بفتحها ( فتح الذرائع ) وتسمى ( الوسائل ) .
- ( فتح الذرائع ) متوقف على اعتبار أن المصلحة المتوسل إليها مصلحة شرعية لا مصلحة الهوى والتشهّي .
- المصلحة والمفسدة لا يمكن للعقل أن يدركهما على استقلال إلا باعتبار الشرع لهما ، فما اعتبره الشرع مصلحة فهو مصلحة ، وما اعتبره مفسدة فهو مفسدة على ضوء الأدلة الشرعية .

أسأل الله أن يوفقني وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح ، وأن يصلح قلوبنا ، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه . . إنه ولي ذلك والقادر عليه .

والحمد لله رب العالمين .

وكتبه أخوكم : مهذب أبو أحمد
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية