اطبع هذه الصفحة


إنما هو لحم الجدي

إبراهيم الحدادي

 
قال وهب بن منبه رحمه الله :
أتى رجل من أفضل أهل زمانه إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنزير ، فأعظم الناس مكانه ، و هالهم أمره ، فقال له صاحب شرطة الملك - سراً بينه وبينه -: أيها العالم ، اذبح جدياً مما يحل لك أكله ثم ادفعه إلي حتى أصنعه لك على حدته ، فإذا دعا الملك بلحم الخنزير أمرت به فوضع بين يديك ، فتأكل منه حلالاً و يرى الملك و الناس أنك إنماأ كلت لحم الخنزير ، فذبح ذلك العالم جدياً ، ثم دفعه إلى صاحب الشرطة فصنعه له ، و أمر الطباخين إذا أمر الملك بأن يقدم إلى هذا العالم لحم الخنزير ، أن يضعوا بين يديه لحم هذا الجدي و اجتمع الناس ، لينظروا أمر هذا العالم فيه أيأكل أم لا ، وقالوا إن أكل أكلنا و إن امتنع امتنعنا ، فجاء الملك فدعا لهم بلحوم الخنازير فوضت بين أيديهم ، و وضع بين يدي ذلك العالم لحم ذلك الجدي الحلال المذكى ، فألهم الله ذلك العالم فألقى في روعه و فكره ، فقال : هب أني أكلت لحم الجدي الذي أعلم حله أنا ، فماذا أصنع بمن لا يعلم ؟ و الناس إنما ينتظرون أكلي ليقتدوا بي ، و هم لا يعلمون ألا أني إنما أكلت لحم الخنزير فيأكلون ليقتدوا بي ، فأكون ممن يحمل أوزارهم يوم القيامة ، لا أفعل والله و إنقتلت و حرقت بالنار ، و أبى أن يأكل ، فجعل صاحب الشرطة يغمز إليه و يومي إليه ويأمره بأكله ، أي إنما هو لحم الجدي ، فأبى أن يأكل ، ثم أمره الملك أن يأكل فأبى ، فألحوا عليه فأبى ، فأمر الملك صاحب الشرطة بقتله ، فلما ذهبوا به ليقتلوه .
قال له صاحب الشرطة :
ما منعك أن تأكل من اللحم الذي ذكيته أنت و دفعته إلي ؟
أظننت أني أتيتك بغيره وخنتك فيما ائتمنتني عليه ؟
ما كنت لأفعل و الله . فقال له العالم قد علمت أنه هو ، و لكن خفت أن يتأسى الناس بي ، و هم إنما ينتظرون أكلي منه ، و لا يعلمون إلا أني إنما أكلت لحم الخنزير ، و كذلك كل من أريد على أكله فيما يأتي من الزمان يقول : قد أكله فلان ، فأكون فتنة لهم . فقتل رحمه الله .

قال ابن كثير رحمه الله :
فينبغي للعالم أن يحذر المعايب ، و يجتنب المحذورات ، فإن زلته و ناقصته منظورة يقتدي بها الجاهل .
و قال معاذ بن جبل : اتقوا زيغة الحكيم ،
وقال غيره : اتقوا زلة العالم ، فإنه إذا زل زل بزلته عالم كبير . و لا ينبغي له أن يستهين بالزلة وإن صغرت ، و لا يفعل الرخص التي اختلف فيها العلماء ، فإن العالم هو عصاة كل أعمى من العوام ، بها يصول على الحق ليدحضه ، و يقول : رأيت فلاناً العالم ، و فلاناً و فلاناً يفعلون و يفعلون .
وليجتنب العوائد النفسية ، فإنه قد يفعل أشياء على حكم العادة فيظنها الجاهل جائزة أو سنة أو و اجبة ، كما قيل : سل العالم يصدقك و لا تقتد بفعله الغريب ، ولكن سله عنه يصدقك إن كان ذا دين ، و كم أفسد النظر إلى غالب علماء زمانك هذا من خلق ، فما الظن بمخالطتهم و مجالستهم و لكن : " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " .

البداية والنهاية لابن كثير: 6/434
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية