( 1 )
سُمّيَتْ سورةَ النور لأحد سببين أو لكليهما .
فهي أولاً : تحوي قوانين اجتماعية ونظماً تربوية تملأ حياة من التزمها نوراً
وسعادة . وفيها ثانياً : قوله تعالى في الآية الخامسة والثلاثين " الله نور
السماوات والأرض " . وقد جاءت تسميات السور الكريمة حسب ما ورد فيها من أسماء
مميزة كـ " آل عمران ، والأنبياء ، والضحى . " أو ما جاء من قصص صبغت السورة
بصِبغتها كـ " البقرة ، والأحقاف ، وهود . "
ومن المفارقات الذكية أن الشاعر " أبا تمام " مدح الأمير الواثق بالله قبل أن
يرث الخلافة عن أبيه المعتصم بالله ، فكان مما قاله فيه يستعير صفات بعض الرجال
المشهورين :
إقدام عمرو في سماحة حاتمٍ *** في حلم أحنف في ذكاء إياس
وقد كان عمرو بن معدي كرب مشهوراً بالقوة والشجاعة . وحاتم الطائي معروفاً
بالكرم والجود . والأحنف بن قيس علماً في الحلم وسعة الصدر . وإياس القاضي
الذكي الألمعيّ عادلاً تقياً ... فجمع للواثق صفاتهم جميعاً في البيت السابق
.... فقال الحاسدن يبغون الكيد له : الأمير فوق ما ذكرتَ – قاصدين إحراجه
والنيل منه – فلا هو قادر أن ينفي ذلك ، فيجعلهم فوق الأمير- فالمشبه به فوق
المشبه - فيغضبه . وإن أقر لهم بالدونيّة فسوف يُقالُ له : كيف تشبهه بمن هم
دونه ؟! إنك إذ ذاك تقدح فيه ذماً ولاتقول مدحاً !! فارتجل بيتين رائعين يدلان
على ذكائه وعبقريته ، ألقم بهما الحاسدين أحجاراً :
لا تعجبوا ضربي له مَن دونَه *** مثلاً شَروداً في الندى والباس
فالله قـد ضرب الأقـلَّ لنـوره *** مثلاً من المشكـاة والنبـراس !
فنال لذكائه في حسن التخلص الجائزة مضاعفة . ونظروا في قرطاس القصيدة فلم يجدوا
هذين البيتين . فعرفوا أنه الذكي الأريب قالهما ابتداءً من قافية القصيدة
ووزنها. فعلا ذكره وذاع صيته.
والسورة الكريمة – كبقية السور – آفاق تربوية راقية ، ولا يدّعي لبيب الإحاطة
بها إلا كما يغرف الناهل من النهر الدفّاق ، وينحت المثّال في الجبل العملاق ،
أو يجول الفلكيّ بمنظاره في أُوْلى السبع الطباق .
أول معْلم تربوي التعظيم فيتلقّاها السامع والقارئ بالهيبة والإجلال . فهي "
سورة ". والسورة : المنزلة العظيمة التي يتطلع إليها كل ذي همة ، ويتشوف إلى
بلوغها أصحاب العزائم ...مدح النابغة الذبياني النعمان بن المنذر بالمنزلة
العالية والمكانة الرفيعة فقال :
ألم تر أن الله أعطاك سورة *** ترى كلَّ ملْك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكب
ولإبراز عظَمتها جعلها المبتدأَ وهي نكرة .واستهل بها السورة للتهويل في قدرها
وشرفها . واستعمل ضمير العظمة " نا " في الأفعال الثلاثة التي تلت كلمة "
السورة " " أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكّرون " . وقد
جعل آياتها بيّنات وهذا من التفخيم والعظمة كذلك .
وانظر معي إلى الترتيب – وهو أسلوب تربوي رائع - في الحديث عنها : فقد أنزل
الله سبحانه سورة النور من السماء إلى الارض ، وفرضها لتكون النور الذي يضيء
للسالكين طريقهم وأنزل فيها الأيات الساطعة والبراهين الواضحة لتكون المعالم
المضيئة للناس أجمعين . فكان إنزالها وفرضها وبيانها متتابعاً مرتباً .
والترتيب يساعد على الفهم وحسن التنفيذ ... ونجد الترتيب ثانية في غض البصر
الذي يؤدي إلى حفظ الفرج " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ،... ويحفظوا فروجهم
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ، ويحفظن فروجهن " .كما نجده في ذكر الأهم ثم
الأقل أهمية في إظهار محاسن المرأة للمحارم :فتظهر المرأة زينتها لزوجها ثم
لأبيها ثم لأبي زوجها ثم لأبنائها ثم لأبناء زوجها ثم لإخوتها ثم لبني إخوتها
ثم لبني أخواتها ثم لنساء المسلمين ثم لملك اليمين من الرجال ثم لمن لايرغب في
النساء لعلة قاهرة ثم للأطفال غير المميزين . ونجد الترتيب وذكر الأهم ثم الأقل
أهمية أيضاً في عدم الحرج في الأكل في الآية الحادية والستين إذ تتحدث بالتفصيل
المرتب عن دخول بيوت المذكورين منهم .
ولاننس أن نشير إلى أن التفصيل في آيتي الحجاب 31 والأريحية في التواصل مع
الأهل والأصدقاء 61 أسلوب تربوي راق . لأنه يجلّي الأمور ويوضحها ويزيل
الإبهام، ويضع النقاط على الحروف ، ويشير إلى المهم من الأشياء والأقل أهمية
سوء بسواء .
ومن الأساليب التربوية ذكر الأهم ليتنبه المتلقي إليه .... على سبيل المثال في
هذه السورة الكريمة تقديم الزانية على الزاني " الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مئة جلدة .. " لأن المرأة هي الداعي الأول إلى جريمة الزنا ، فلو
تعففت تعفف الرجل ، أو ضعفت ولانت جرؤ الرجل . أما في السرقة فالرجل يذكر أولاً
" والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما .. " إذ الرجل مكلف بالصرف على الأسرة
والحصول على المال ... ولعل في إنهاء آية الحجاب بنصيحتين غاليتين هما " ولا
يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهنّ ، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها
المؤمنون... " نهي النساء عن عادة ذميمة لاستجلاب انتباه الرجال ومِن ثَم
الفتنة ، وأمر الرجال والنساء معاً بالتوبة والعودة إلى الله فهو – سبحانه –
كهف التائبين ...وقد ذكرت قبل قليل ذكر الأهم في آيتي الحجاب وتواصل الاهل
والأصدقاء ، ففيهما الدليل على ذلك .
من الأساليب التربوية هنا المماثلة أو قل ( إن الطيور على أشكالها تقع ) . فـ "
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك ،
وحرم ذلك على المؤمنين " فقد طلب مرثد ابن أبي مرثد من النبي الكريم صلى الله
عليه وسلم أن يتزوج عناقاً فهو مايزال يحبها ، وهي بغيٌّ كان يأتيها في
الجاهلية ،وما زالت على فجورها وجاهليّتها فنزلت هذه الآية الكريمة تحدد
العلائق بين المؤمنين أهل الطهر والعفاف وبين المشركين وأهل الفسق والفجور ...
كما أن آيات الملاعنة 04- 10 تفصل بين الزوجين حين يكون الزوج عفيفاً طاهراً
والزوجة غير ذلك .. إن البيت لا تقوم دعائمه إلا على الفضيلة والطهارة . وما
أجمل قولَ النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الزوجة الصالحة " الدنيا متاع ،
وخير متاعها المرأة الصالحة " وحديثَه صلى الله عليه وسلم في اختيار ذات الدين
مشهور " تنكح المرأة لأربع ...فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، يؤيده قول الله
تعالى " الخبيثات للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات . والطيبات للطيبين والطيبون
للطيبات " . ولن يرتاح الزوجان إلا حينما يكونان متطابقين أخلاقاً وديناً وإلا
كانت الحياة قاسية ومتعبة . ولعل في أمر الله تعالى لكلا الفريقين أن يغضوا من
أبصارهم ويحفظوا فروجهم مماثلة في الطيب والطهارة والحياة النظيفة .
ومن الآداب التربوية حسن الظن بالمسلم : على المسلمين حين يسمعون القذف بحق
الأطهار الشرفاء أن ينفوا القذف ، وينكروا الطعن فالأصل في المجتمع المسلم
الطهارة " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، وقالوا : هذا
إفك مبين " وهذا ما فعلته أم أيوب وزوجها رضوان الله عليهما حين سمعا المنافقين
وضعاف الإيمان من المسلمين يتحدثون بشأن عائشة رضي الله عنهما وصفوان بن المعطل
رضي الله عنه ذلك الصحابي الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفضيلة
والطهر فقالت أم أيوب : أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟! قال : نعم ، وذلك
الكذب ، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟! قالت : لا والله . قال : فعائشة خير منك
، وصفوان خير مني . فإذا رُمي اثنان أو أحدهما بالزنا قيل للقاذف هات شهداءَك
الأربعة وإلا كنت عند الله كاذباً ، فأعراض المسلمين غالية . وما ينبغي لأحد أن
يرميهم دون بيّنة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء
فأولئك عند الله هم الكاذبون " إن هذا طعن بطهر المجتمع ونشر للفحشاء فيه ،
وإفساد للأخلاق يستحق صاحبه به – لولا رحمة الله بعباده في دنياهم وأخراهم -
العذاب العظيم " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما
أفضتم فيه عذاب عظيم " وتصور معي أخي المسلم الحالة التي وقع فيها كثير من
المسلمين- وما يزالون يقعون حين تغيب شفافية الإيمان – فأخذوا يتناقلون الفرية
دون إنكار أو تمحيص ، فانتشرت القالة السيئة بينهم انتشار النار في الهشيم .
والعادة أن الإنسان يفهم الفكرة بعقله وقلبه . لكنه حين يهتم بالأقاويل دون
تفكير وفهم فكأنه يستقبل الخبر بلسانه فقط لا يتجاوزه ، ثم يلقيه كما يلقي
القيء فيؤذي نفسه ومن حوله " إذ تلقّوْنه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس
لكم به علم ، وتحسبونه هيّناً ، وهو عند الله عظيم " فعاتبهم الله تعالى في هذه
الآية بأمور ثلاثة :الأول : تلقيه بالألسنة دون السؤال عنه . الثاني : التكلم
به ونشره بين المسلمين . الثالث : استصغار الذنب حيث حسبوه هيّناً وهو عند الله
عظيم .وكان عليهم حين سمعوه أن ان ينكروه ويؤكدوا نزاهة بيوت الأطهار من
المسلمين ، ولا سيما بيت النبوّة ، فلا يغوصوا في نشر الإفك لأنه كذب وافتراء
شديد " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، سبحانك هذا بهتان
عظيم " .
وهنا ننبه إلى الحذر من الإشاعات المغرضة التي تبلبل الصفوف ، وعلينا أن نتثبت
من الأمر كي نصون المجتمع المسلم مما يسيء إليه ويضعفه .
ومن الأساليب التربوية الخطأ المعلِّم: يخطئ بنو البشر كثيراً ، ويصيبون كثيراً
. والعاقل من اتعظ بأخطائه ، واللبيب من اتعظ بأخطاء غيره . والطامّة الكبرى أن
يتكرر الخطأ ونعيش حياتنا أخطاء متوالية ، فنقع فيما كنا نقع فيه ، ونستمر على
هذا ... أما إذا عرفنا الخطأ وأسبابه ودواعيَه ، ونتائجه علينا وعلى مجتمعنا
وأمتنا ، واحترزنا الوقوع فيه مرة أخرى ، ونبهنا الآخرين إليه كان درساً مفيداً
وتربية راقية .. هذا ما يقرره القرآن الكريم حين يقول :"إن الذين جاءوا بالإفك
عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم ، بل هو خير لكم " فلِمَ لم يكن شراً مع أن
المجتمع تأذّى منه؟ ولِمَ كان خيراً ؟
فالجواب :
أولاً : أن الخطأ قد يحصل حتى في المجتمع النقي المتماسك لأننا بشر.
ثانياً : أن الأشرار في المجتمع لا يفتؤون يكيدون له ليحرفوه عن الحق .
ثالثاً : أن بعض الصالحين قد ينجرّون إلى الخطأ ويقعون فيه دون أن يشعروا .
رابعاً: أن من ثبت خطؤه يعاقب أيّاً كان ، ويتوب الله عليه فكل امرئ بما كسب
رهين .
خامساً: أن من اجترح الذنب الكبير ونجا من العقوبة في الدنيا لعدم ثبوت الجرم
المادي عليه فلن ينجو في اليوم الآخر من العقوبة الشديدة المناسبة.
ومن الأساليب التربوية الإثارة : وقد يسميها بعضهم التهييج وهو أسلوب – كما نرى
– يحمِّس المتلقّي للتفاعل مع المطلوب منه إيجاباً قبولاً وامتناعاً ، وكلاهما
إذا حصل كما نريد إيجابيٌ . ومن أمثلته الكثيرة في هذه السورة الكريمة :
أن الله تعالى يقول بعد الأمر بجلد الزاني والزانية غير المحصنين " ولا تأخذْكم
بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فلو تمعنا في الشرط
" إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " في معرض الأخذ بالشدة في معاقبة الزناة
لقلنا متحمسين : نعم يارب نحن نؤمن بك وباليوم الآخر، ولسوف نشتد بعقوبتهم دون
رأفة حتى نكون ممن يؤمن بك وبيوم القيامة . ألا ترى معي أن هذا الشرط أثار فينا
الالتزام بما أمر الله تعالى لنكون عند حسن ظن الله بنا؟
ومنه في قوله تعالى " .. وحُرّم ذلك على المؤمنين " في منع زواج المؤمن من
الزانية أو المشركة وإلا كان من صنفهما قلنا جازمين: أجلْ يا رب نحن مؤمنون
ننأى بأنفسنا أن نتزوج الفاسدين. وحين يعاتب المؤمنين في نقل الشائعة دون بصيرة
" إذ تلَقَّوْنه بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " يحذر من
عقوبته الشديدة " وتحسبونه هيناً ، وهو عند الله عظيم " نسرع في القول : نعوذ
بالله أن نغضب ربنا فنقع في سخطه . وحين يعلمنا الأدب في قوله تعالى " ولولا إذ
سمعتموه قلتم :ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ، يعظكم الله
أن تعودوا لمثل هذا إن كنتم مؤمنين ... " نردد فوراً : سبحانك يا رب تبنا إليك
، لن نعود إلى ما يغضبك فنحن مؤمنون .... وحين تأخذنا العزة ونعاقب من يسيء
إلينا قادرين ينبهنا الله تعالى إلى فضيلة العفو والغفران قائلاً " ولْيعفوا ،
ولْيصفحوا ،ألا تحبون ألا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ " نسرع إلى القول :بلى يارب
، نحب أن تغفر لنا . وما دمنا نخطئ ونحن نرجو الله أن يرحمنا فلنرحم من يسيء
إلينا . وحين يأمرالحق تعالى عباده أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ثم يعقب
بأن " ذلك أزكى لهم ، إن الله خبير بما يصنعون " اشتدت رغبتهم في الزكاء ،
وعلموا أن الله تعالى مطّلع عليهم خبير بهم وقالوا راغبين خائفين : زكّ نفوسنا
يا رب ، فأنت خير من زكّاها ، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا .
ثم نجد الإثارة الرائعة للفتيات أن يبتعدن عن الفواحش ويلزمن غرز التقوى حين
يأمرهن بالتحصن عن الفساد ، بأن ترك لهن الخيار ظاهراً بأسلوب الشرط وهو سبحانه
يحثهن على الطهر والعفاف متلطفاً بهنّ لأنهنّ ضعيفات ،ومعنفاً أهل الدياثة من
الرجال في قوله تعالى "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا
عرض الحياة الدنيا ، ومن يكرهْهن فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " فما
يكون من الفتيات المسلمات إلا أن يقلن : بل نبغي التقوى والطهر يارب ، رضي من
رضي وأبى من أبى .
ومن أساليب التربية مَنُّ المتفضل : أنْ أمُنّ على غيري ضياع للفضل والثواب ،
وسوء في التصرّف . أما مَنّ الوالدين على أولادهما فتربية وتعليم وتذكير بالفضل
، ودفع إلى ردّ الجميل ... وأعظم من ذلك منُّ الله تعالى على عباده " يمنون
عليك أن أسلموا ،قل لا تمنوا عليّ إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم
للإيمان أن كنتم صادقين " وهو الذي يقول سبحانه " ولكن الله يمنّ على من يشاء
من عباده " . فمنّ العباد على العباد إذلال واستكبار . ومَنُّ الأبوين على
أولادهما تربية وتهذيب . ومنُّ الله على عباده إسعاد لهم ورحمة .
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وان الله تواب
حكيم " إن حذف خبر لولا لتهويل الأمر ، تقديره : لهلكتم أو لفضحكم أو لعاجلكم
بالعقوبة . ورُبَّ مسكوت عنه أبلغ من المنطوق . وكذلك نجد المنّ في قوله تعالى
: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وأن الله رؤوف رحيم " وكذلك نجده في قوله
تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه
عذاب عظيم " إن الذي يزكي هو الله تعالى . ألا يقول الله في ذلك " فلا تزكوا
أنفسكم . هو أعلم بمن اتقى " ؟ فهنا يؤكد الله تعالى المعنى في قوله سبحانه "
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ، ولكن الله يزكي من
يشاء ، والله سميع عليم " .
من الأساليب التربوية العقوبة وهو أن ينال الإنسان جزاء ما اقترفت يداه من قول
مخلٍّ أو فعل مؤذٍ يضر الآخرين ففيه أولاً : العدل الذي ينصف المظلوم ويردع
الظالم .
ثانياً :لأن الإنسان خلق ينازعه الخير والشر . فإن بغى الشر على الخير وجب كبحه
.
ثالثاً : والعقوبة عنوان القوة ، والحق بغير قوة يضعف ويضيع .فلا بد من عقوبة
ضعيف النفس حتى يرعوي هو وغيره .
فكانت عقوبة القذف ثلاثة أنواع . أولاها جسدية : ثمانين جلدة . وثانيها مدنية :
لا يعامل كبقية الناس إذ لا تقبل شهادته فيتصاغر أمام المجتمع . وثالثها أخروية
: فهو في عداد الفسقة من أهل جهنم .لكن إن اعترف بخطئه وتاب عنه وأصلح ما أفسده
تاب الله عليه وغفر له .
" والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا
تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا
فإن الله غفور رحيم "
وكانت عقوبة الزنا لغير المحصن نوعين أولاهما جسدية مئة جلدة لكل منهما .
وثانيهما التشهير . – وهي عقوبة نفسية - إذ يحضر العقوبة رهط من المؤمنين حتى
يعرف الناس بهذه العقوبة فيرعوي ذوو النفوس الضعيفة أن يقعوا فيها .
ومن أساليب التربية التوثيق : ومن فوائد التوثيق :
أولاً : التنبيه إلى أهمية الأمر والتركيز عليه .
ثانياً : الاحتكام إليه واتخاذه قاعدة في الحكم .
من الأمثلة على التوثيق قوله تعالى :" وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ففيه
تأكيد على وقوع العقوبة أمام أنظار فئة من المؤمنين . ثم وجود أربعة شهداء
يشهدون على واقعة الزنا وإلا جلد الرامي مئة جلدة " والذين يرمون المحصنات ثم
لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " ويؤكد الحكم في معرض عتاب
المؤمنين الذين جازت عليهم الشائعة " لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم
يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " كما أن الزوج في ملاعنته زوجته
وليس هناك شهود أربعة يقسم أربع مرات إنه لصادق في دعواه " والذين يرمون
أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن
الصادقين " وفي رد دعواه تشهد الزوجة أربع مرات أنه كاذب فيما ادّعاه في حقها "
ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " .
كما أن في هذا التوثيق أسلوباً تربوياً آخر هو الوقاية وقد قالوا قديماً : درهم
وقاية خير من قنطار علاج . فما التشديد في وجود الشهداء الأربعة وفي الأَيْمان
الأربعة للزوجين إلا وقاية للمجتمع من كثرة القذف واسترخاص أعراض المسلمين
.وهناك أمثلة أخرى للوقاية في هذه السورة الكريمة منها قوله تعالى : " قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ، ويحفظوا فروجهم ..... وقل للمؤمنات يغضضن من
أبصارهن ، ويحفظن فروجهنّ .. " الم يقل النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لعلي
رضي الله عنه في النظر : " يا علي ، لك الأولى وليست لك الثانية ؟! " وغض البصر
وعدم رؤية المفاتن يريح القلوب . كما أن في قوله تعالى " ولا يضربن بأرجلهنّ
ليُعْلم ما يخفين من زينتهنّ " حماية للنساء من وسوسة الشياطين في جلب انتباه
الذكور ، وحماية للرجال من تتبُّع اصوات الخلاخيل !!
إن تزويج الذكور من الإناث أحراراً وعبيداً يحفظ الجنسين من الرذيلة والفساد "
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم .. " ألم يقل النبي الكريم
في هذا المعنى " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّجْ ، فإنه أغضّ
للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ؟ فالزواج حصن
من الفحشاء حصين ، والصوم كسر لحدة الشبق مؤقت ريثما يسهل الله زواجاً ولو بعد
حين ... يؤكده قوله تعالى " ولْيستعْفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله
من فضله " كما أن الله تعالى شنّع على تجار النخاسة والديايثة الذين يقدّمون
النساء لفرش الرجال ، والعياذ بالله من افعالهم . وعفا عن الفتيات اللواتي
اضطررن إلى ذلك ثم تبن في أول بارقة خلاص ، وشجعهن على ذلك بأن يكن عفيفات "
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصُّناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ،
ومن يكرهْهنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم " .وعلى الرغم أن القرآن سمح
للعجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً أن يضعن ثيابهنّ غير متبرجات بزينة فقد حثهن
على العفة والستر " وأن يستعفِفْن خير لهنّ .." ثم إن عدم التكلم فيما يضر نوع
مفيد من أنواع الوقاية " ما يكون لنا أن نتكلم بهذا " إن صون اللسان عن القيل
والقال يئد الإشاعة في مهدها .ويقطع دابر الفتنة .
ومن الأهداف التربوية الواقعية وقل : الدقة في التعبير وإن كان من هذه الناحية
يدخل في البلاغة إلا أنه تعويد للمتعلم على الفهم السليم والتحليل المحيط .
مثال ذلك قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، وقل
للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ " لا يستطيع الإنسان أن يمشي في
طريقه مغمض العينين ، لا بد من الرؤية كي يتحاشى المآزق والمخاطر ، فهو لا يغض
بصره بل يغض منه، فلا يرى المفاسد والمفاتن ويمتنع عن النظرات الزائغة . لكنه
يحفظ فرجه كله أن يقع في المحرمات . ومثال آخر نجده في آية المحارم فـ "أبناء "
جمع قلة يناسب أبناء المرأة وأبناء زوجها مهما كثروا . وبنين – بنون – جمع كثرة
يناسب بني الإخوة والأخوات على الأغلب . وهذا يعلمنا الدقة في الحديث أو
التعبير .
من أساليب التربية ترك مجال الإصلاح مفتوحاً فمن يئس من الخلاص تمادى في غيه ،
وازدادت نقمته ، وألّب غيره ، وتهوّر فآذى نفسه وغيره . ومن وجد منفذاً للإصلاح
والنجاة ، فكّر وتدبّر وارعوى . ولا نريد لأبنائنا وأهلنا ومجتمعنا سوى الهداية
ما استطعنا ، وهذه مهمتنا التربوية . وفي هذه السورة كغيرها من السور الكريمة
أمثلة على ذلك ، منها مانراه في التعقيب على من رمى المحصنات دون وجه حق " إلا
الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " فمن تاب واعترف بخطئه غفر
الله تعالى له .ثم اقرأ معي تذييل بعض الآيات " وأن الله تواب حكيم " " وأن
الله رؤوف رحيم " " وأن الله غفور رحيم " . والله تعالى الكريم الرحيم يدعونا
إلى التوبة فهو الإله الودود الذي يقبل توبة عباده مهما ابتعدوا ثم عادوا "
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " أفلا نتوب إليه
ونستغفره؟! بلى إن باب التوبة مفتوح ، فهلمّ أخي نسارع إلى الله إنه حبيبنا
وسيدنا يفرح لتوبتنا ويسارع إلينا إن سارعنا إليه ، ويقبلنا مهما ارتكبنا من
ذنوب ثم لجأنا إليه " ففروا إلى الله "
ياسيدي ومولاي : أفر إليك منك ، وأين إلاّ إليك يفر منك المستجير
عبدك الراجي عفوك : عثمان
( 2 )
من هذه الأساليب في هذه التأملات
العلاقة مع القيادة :
فالرسول صلى الله عليه وسلم مثال القائد الفذ المعصوم ، وأصحابه الكرام مثال
للجندي والمواطن الصالح . فكيف كانت العلاقة بينهم في هذه السورة الكريمة ؟ .
حين نزلت الآية " والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم
ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون " شق هذا في
بداية الأمر على عاصم بن عديِ الأنصاري ، فقال : جعلني الله فداك ، لو أن رجلاً
منا وجد على بطن امرأته رجلاً ، فتكلم ، فأخبر بما جرى جُلِد ثمانين وسماه
المسلمون فاسقاً فلا تُقبل شهادته ! فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء ؟ وإلى
أن يلتمس أربعة شهود فقد فرَغ الرجل من حاجته! فقال عليه الصلاة والسلام " كذلك
أُنزلتْ يا عاصمُ بن عدي " فخرج عاصم سامعاً مطيعاً فالسمع والطاعة للقائد
المؤمن الذي يحكم بأمر الله تعالى .
وحين يكون المسلمون مجتمعين في إمرة القائد لا ينفلتون إلا بإذن منه لحاجة
وضرورة ، فإن أذن انطلقوا وإلا فعليهم البقاء سمعاً وطاعة . على أن يكون السماح
والمنع مبنيين على تفهم القائد لضرورة الأمر ، وأن يكون أباً رحيماً لهم ،
وأخاً عطوفاً عليهم . ووصف الله تعالى الملتزمين الأمرَ بالمؤمنين " إنما
المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا
حتى يستأذنوه ، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ، فإذا
استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم واستغفرلهم الله ، إن الله غفور رحيم "
. فالعلاقة بين القائد والجندي والرئيس والمرؤوس متوازنة . فالجندي يحترم قائده
ويستأذنه ، والقائد يعطف على جنديّه ويستغفر له .
أما الذين ينسحبون من اللقاء دون أن يشعروا النبي القائد متوارين بإخوانهم
رويداً رويداً فقد أتَوْا خطاً جسيماً يستحقون عليه العقوبة . وهنا يأتي
التحذير من مغبة هذا التصرف الدالُّ على عدم الشعور بالمسؤولية من مخالفة الأمر
، فلئن غاب عن النبي الكريم خروجهم وتواريهم فلن يغيب عن الله تعالى خطأ تصرفهم
" قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ، فليحذر الذين يخالفون عن أمرهم أن
تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " .
كما أن على المسلم أن يتأدب بحضرة قائده المتمثل بهدي النبي الكريم عليه الصلاة
والسلام ، فلا يناديه بصوت عالٍ ، إنما يسعى إليه ويخاطبه بصوت منخفض مسموع ،
يدل على احترام وتقدير ، لا على ذل وخنوع " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضاً " .
كانوا يصيحون من بعيد ينادون الرسول الكريم : يا أبا القاسم ، فنبههم القرآن
إلى تعظيم نبيهم عليه الصلاة والسلام ، فلا يرفعون أصواتهم عنده ، ويشرفونه ،
ويفخمونه في رفق ولين وينادونه بقولهم : يا رسول الله .
وقد مُنِع المسلمون في سورة الحجرات أن يرفعوا اصواتهم فوق صوت النبي صلى الله
عليه وسلم في حضرته " يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " .
وأن لا ينادوه بأحمد ومحمد وأبي القاسم ، لابصوت عالٍ ولا صوت خفض، خوفاً من
ضياع أعمالهم الصالحة لهذا التصرف الشائن ، ولكن : يا رسول الله ويا نبي الله "
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم بعضاً ان تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " .
ثم مدح الذين يخاطبون الرسول الكريم بأدب جمّ ولطف زائد وصوت منخفض ووعدهم
بالغفران والأجر العظيم :" إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين
امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم " .
إن العلاقة في الإسلام بين القيادة والأمة قائمة على الحب والاحترام والعطف
والود ، ليس فيها طغيان الحاكم على الرعية ، ولا استبداد وظلم وتعالٍ على
العباد ، وليس فيها ذل المواطن والخسف به وسلبه ونهبه ! وبمثل هذه الحياة تقوى
لحمة الأمة ويعلو شأنها وتسمو مكانتها .
ومن هذه الأساليب التربوية
أدب الزيارة :
الأماكن التي يرتادها الناس ثلاثة :
أولها : بيت الإنسان وسكنه الخاص . فهو يدخله وقت يشاء دون حرج ، ودون استئذان
من أحد . إلا أنّ من الأدب إشعار من في داخله –زوجة وولداً وضيفاً- أنه قادم كي
لا يفاجأ بدخوله أحد . هذا ما كان يفعله النبي عليه الصلاة والسلام حين يدخل
بيته مسلماً على أهله .
أما الدخول على غرف البيت فلا بد من الاستئذان على من في داخلها كي لا تقع
العين على عورة . روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمي
؟ قال : " نعم " قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ . قال "
أتحب أن تراها عُريانة؟ " قال : لا . قال : "فاستأذنْ عليها " .
وكان الفاروق عمر رضي الله عنه يتنحنح بصوت عال قبل أن يُسلّم ويدخل ، فالمرأة
تحب أن يراها زوجها على أفضل حالاتها .
والاستئذان على أهل البيت في غرفهم في ثلاث أوقات واجب لقوله تعالى " يا أيها
الذين آمنوا : ليستأذنكم 1- الذين ملكت أيمانكم ، 2- والذين لم يبلغوا الحلم
منكم ثلاث مرات
1- من قبل صلاة الفجر .
2- وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة .
3- ومن بعد صلاة العشاء .
ثلاث عورات لكم . "
ففي هذه الأوقات الثلاثة يتجرد الإنسان من ثيابه للنوم والراحة . وقد روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار إلى عمر رضي الله عنه
ظهيرة ليدعوه ، فوجده نائما قد أغلق عليه بابه ، فدق عليه الغلام الباب ودخل ،
فاستيقظ عمر وجلس ، فانكشف منه شيء ، فقال عمر : وددت أن الله نهى أبناءنا
ونساءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن . ثم انطلق إلى رسول
الله ، فوجد هذه الآية قد نزلت ، فخر ساجداً شكراً لله .
فإذا بلغ الأطفال الحلم وجب معاملتهم كغيرهم من الكبار أكانوا غرباء أم من
المحارم .
ثانيها : دور الأهل والأصدقاء . فهؤلاء لا يُدخل عليهم إلا بإذنهم . فكيف يكون
الاستئذان؟
يُطرق الباب ثلاث مرات ، بين الواحدة والأخرى مقدار ركعة خفيفة كما يذكر
الفقهاء ، ليُترك لأهل البيت مجالٌ مريح في الردّ . ولم يكن للبيوت كلها على
عهد الرسول الكريم أبواب ، إنما ستائر. يقف القادم قريباً من الباب ، ليس أمامه
حتى لا ينكشف عن أهل البيت سترهم ، ويغض بصره ، فقد روى علماؤنا أن الفاروق
رضوان الله عليه قال : من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق . ورويَ عن سهل بن سعد
أن رجلاً اطلع في جُحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مِدْرىً( مشط) يرجّل به رأسه ، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم " لو أعلم أنك تنظر لطعنتُ به في عينك ، إنما جعل الله الإذن من أجل
البصر " . وروى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو
أن رجلاً اطّلع عليك بغير إذن ، فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح "
.
ويسلم بصوت مسموع على أهل الدار ثلاث مرات ، بين الواحدة والأخرى زمن يسير ..
هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الاستئذان ثلاث ، فإن أُذن لك ،
وإلا فارجع . " واستأذن رجل من بني عامر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخادمه : " اخرج إلى هذا فعلّمه
الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟ " فسمعه الرجل ، فقال :
السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل . وقد زار
الرسولُ الكريمُ سعدَ بن عبادة زعيمَ الخزرج ، فلما وقف بالباب قال : السلام
عليكم .
والسلام عليكم سلام المؤمنين.... فإذا دخل الرجل بيتاً فيه غيره قال : السلام
عليكم . فليردوا عليه : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
وإذا دخل بيتاً ليس فيه أحد قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
وإذا دخل المقابر قال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم السابقون ، ونحن إن
شاء الله بكم لاحقون .
الفرق بين الاستئذان والأنس
قد يأذن لك أحدهم في الدخول حين تطرق بابه خجلاً منك ، وهو لا يريد في قرارة
نفسه أن تدخل بيته ، فقد يكون تعباً يريد النوم أو الراحة ، وقد يكون مشغولاً
في أمر لا يحب أن يطّلع عليه أحد ، أو كان يجهز نفسه لموعد ضربه أو لأسباب أخرى
... يدعوك للدخول بلسانه ، وبريق عينيه يظهر عكس ذلك . أما الأنس فشيء آخر .
إنه الترحيب الذي تشترك فيه الحواس كلها تدعوك مشتاقة إليك ، راغبة فيك مسرورة
بلقائك . فكانت كلمة ( تستأنسوا ) رائعة في التعبير عن دخيلة النفس في الآية
الكريمة " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا
وتسلموا على أهلها " أما إذا كان صاحب البيت شجاعاً وقال للزائر : لن أستطيع
الآن دعوتك للدخول فارجع . فقد وجب الرجوع دون أية حفيظة تبدو من الزائر أو
امتعاض منه ، " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا " وهنا يظهر أدب الزائر في ردة
الفعل ، وحسن تصرفه بالتزامه أدب الإسلام في العودة ، إنْ بعذر ، أو بغير عذر ،
وبذلك يروّض نفسه على احترام خصوصية الآخرين . وحسبه جائزةُ الله تعالى "
فارجعوا هو أزكى لكم " كما فعل سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابو
موسى مع عمر .. إنها طهارة النفس من الغضب وردة الفعل السيئة التي قد يمليها
الشعور بالإهانة ، فيبادر إلى القطيعة والعداوة ، ويكون الرابح الأول فيها
شيطانه الوسواس الخناس .
يقول أحد المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية ، فما أدركتها ، أن أستأذن
على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا منبسط لقوله تعالى " فارجعوا هو أزكى
لكم " ولعله عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إذ يقول : فيقولون ابن عم رسول
الله ، لا نرده .
ومن أدب الاستئذان أن يعَرّف الزائر بنفسه تعريفاً واضحاً ولو ظنّ أن المزور
يعرفه . عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي ،فإذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمشي وحده ، فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت فرآني فقال : " من هذا ؟"
فقلت : أبو ذر . وقد استأذن جابر على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : أتيت
النبي صلى الله عليه وسلم ، فدققت الباب فقال : " من ذا ؟ " فقلت :أنا . فردد
النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أنا؟ "، كأنه كرهها .
ثالثها : الفنادق والأسواق والمؤسسات العامة المشرعة الأبواب لمن يأتيها . فهذه
لا يتطلب دخولها الإذن ، ففيها متاع الناس من بيع وشراء وإيواء ومنافع . يدخلها
السابلة كلهم إن شاءوا ، متى شاءوا ، مادامت مفتوحة ليلاً أو نهاراً . لكن لا
بد من أدب اللقاء من غض للبصر وإعطاء الطريق حقه ، وإلقاء تحية الإسلام ....
ومن هذه الأساليب التربوية كذلك
الآداب اجتماعية :
يحرص الإسلام على تنمية العلاقة الأسْرية بين الأهل والأقارب ، ويحض على
التواصل بينهم ليستمر الحب والود ، ولتقوى الأواصر بينهم . فيتزاورون ويتراحمون
. يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة : " إن الله خلق الخلق،
حتى إذا فَرَغ منهم قامت الرحِم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال :
نعَمْ ، أما ترضَيْن أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى . قال : فذلك
لك ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوا إن شئتم : فهل عسيتم إن
تولّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ؟ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم
، وأعمى أبصارهم " . وهذا نجده في الآية الحادية والستين التي تحث على زيارة
بيوت الآباء والأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ، والأخوال والخالات
والأصدقاء ، و تناول الطعام عندهم دون حرج ، والمباسطة في التفاعل الإيجابي .
ولئن كان المذكور فيها الأكل دون غيره إن الأكل يزيل الكلفة بين الأهل والأصحاب
أكثر من غيره ، ويبني جسور التفاهم والتمازج والألفة . ويقرب القلوب والنفوس
ويزاوجها . ولا ننسَ ذكر الأهم فالأقل أهمية فهذا منطقي جداً فالإنسان يبدأ من
القريب لينتقل إلى البعيد ، ثم يعم الأمر بين الجميع .
ومن هذه الأساليب التربوية :
الإعذار : " من أنذر فقد أعذر " مثل مشهور يوضح أنه ما عاد هناك من عذر، فقد
قدم المربي أو المسؤول أو ما في معناهما كل النصح والعون ، ووضح وأرشد ، وبيّنَ
وفصّل . فعلى الآخرين أن يتحملوا المسؤولية ، ويكونوا أهلاً للقيام بالواجب
الملقى عليهم .... نجد مثال هذا في قوله تعالى في الآية الرابعة والثلاثين "
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبيِّنات ، ومثلاً من الذين خلََوا من قبلكم ، وموعظة
للمتقين " فالله تعالى أنزل إلينا هذا القرآن فيه أدلة وبراهين واضحة لما ينبغي
أن نعمله ، فنرضيه سبحانه . وقصّ علينا ما حدث للأمم السابقة حين عصت أمر ربها
وكذّبت رسله الكرام . فمن أطاع جوزي خيراً ، ومن عصى عوقب بشر أعماله . فقمن
اتقى فقد اتعظ .
ونجده مكرراً بأسلوب قرآني فريد في قوله تعالى في الآية السادسة والأربعين "
لقد أنزلنا آيات مبيِّنات ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " حين أخبرنا
سبحانه عن بعض صور عظمته في جميل صنعه .وعلى هذا جاءت الآية الأولى مسبوقة
بالواوواللام الموطئة للقسم لأن الآيات التي سبقتها كانت حصراً بالمؤمنين وما
عليهم أن يفعلوه إذ هو تشريع لهم . وكانت الثانية موضحة نور الله تعالى وبديع
صنعه ، ودعوة للإيمان به سبحانه . وأن الهدى هدى الله .
ومن أساليب التربية :
التدرج والخطوات المتتالية :
الشيطان لعنه الله مُربٍّ ، نعمْ هو مُرَبٍّ ، ولكنه شرّير يربي أتباعه على
الكفر والفساد ، ويشدهم بالتدرّج إلى المهالك لينكسوا على رؤوسهم في جهنم معه ،
ثم يتبرّأ منهم كعادة الخبيثين في كل زمان ومكان . يدّعي الإصلاح ليوقع أصحاب
الأهواء في حبائله . يتابعهم خطوة خطوة ويمنّيهم مّرة وراء مّرة ، ويقسم لهم
أغلظ الأيمان ليضلهم عن سبيل الله
والله تعالى حذرنا منه ، ومن طريقته فلم يقل لا تتبعوا الشيطان ، إنما قال
سبحانه " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ، ومن يتّبع خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " وإليك هذا المثال : فالشيطان لا يأمرك
بالزنى مباشرة لأنك ستعرف مقصده وتتعوّذ منه فوراً . وهو يريد ابتداء أن يكسب
ثقتك ،
- انظر إلى هذه الفتاة الجميلة .
- أعذ بالله ، إنه الفساد بعينه .
- ولم يا صاحبي ؟
- إن النظرة سهم قاتل من سهامك يا إبليس .
- هل تراني أسدد السهام إلى قلبك؟!
- إن النظرة بريد الزنى ، يشغل القلب ، ويبعده عن الله .
- أنا لا أريد ان تصل إلى هذا صدّقني .
- كيف أصدّقك وأنت تأمرني أن أنظر إليها ، والعين تزني ، وزناها النظر .
- إن الله جميل يحب الجمال ، وأنت رجل مؤمن يزيدك النظر إلى صنع الخالق الجميل
إيماناً ، ويزيدك تقوى .
- فانظر إليها يارجل واذكر الله تعالى ... ينظر إبليس إليها ، ويذكر الله
مظهراً الخشوع .
- ينظر الفتى إليها فيشدَهُهُ جمالها ، ويذكر الله بقلبه ، ثم بلسانه فقط لأن
إبليس يتمثل بها ، ويبدأ بإغوائه .
- ابتسم لها يا رجل .
- أعوذ بالله منك ، كيف ابتسم لها ؟
- كيف تبتسم لها؟ ! أتجهل طريقة الابتسام؟!
- لست أقصد هذا ولكن الابتسامة دعوة لها أن تجاملني . وبدء بحديث .
- أنسيت أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة؟
- هي ليست رجلاً ، إنها امرأة ، وقد أتقدم بالابتسامة خطوة أخرى .
- إنها أختك في الله . بل إن تبسمك في وجهها جزء من الدعوة إلى الله تعالى .
- ويبتسم لها . فتبادله الابتسام ويحييه إبليس المتمثل بها بابتسامة عريضة
تأسره وتستجِرّ قلبه وعقله .
- أرأيت الحب الأخويّ الطاهر أيها المتزمّت؟ نعم إنه لطاهر حقاً – يقولها
مشدوداً إليها راغباً بها ، منعطفاً إليها .
- ألا تسلم عليها أيها الأبله ؟!
- لا أبداً إنما أدعوك إلى شعيرة إسلامية ضاعت منك .
- يا أيها الشيطان تكاد توقعني في حبائلك .
- أنسيت يا رجل قوله تعالى " فسلموا على أنفسكم تحية من الله مباركة طيبة " وهي
منكم معشر المسلمين ، ومن أنفسكم .
- يسلم عليها و.. و.. و..
قال شوقي :
نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء
هذه واحدة من خطوات الشيطان ، والقياس واضح بيّن أخي الحبيب .
|