اطبع هذه الصفحة


هل يضمن المربي ما أتلف .. ؟

أبو راكان بن عمر القرشي

 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فإن ضوء الشمس لا يحجب , ولا زلنا نستصح كثيراً بشمس الصحوة المشرقة , والتي لا ينكر خيرها ولا نفعها إلا من يتجاهل حقيقة ضوء الشمس . والإقرار بهذه الخيرية أو ذلك النفع لا يجعلنا نتعامى عن بعض أوجه القصور وجوانب النقص التي تكتنف كل عمل بشري , فالنظرة العادلة الموضوعية منطلق التصحيح والبناء .

ولعلي أتناول وجهاً من الأوجه التي تحتاج مزيداً من العناية والاهتمام ومن ثم التصحيح والعلاج, ألا وهي التطبب من غير طب من قبل جمع ليس بالقليل من المربين في المحاضن التربوية.

وثمة تساؤلات أعتقد أن إثارتها مهم لإدراك شيء من ذلك التطبب ومنها :
1- هل انتماء الإنسان لأهل الخير ومدارس التحفيظ كافٍ لتأهيله أن يكون مربياً ؟
2- هل من الضروري أن تكون دراسة الإنسان في كلية شرعية أو غير شرعية أو تخرجه منها مُؤهِلةً له لأن يمارس دور المربي المتخصص ؟
3- هل ضغط الحاجة وقلة المؤهلين يسوغ لنا أن نتساهل كثيراً في صفات ومؤهلات من يقومون بالتربية ؟
4- هل كون المربي يمارس عملاً تطوعياً لا يتقاضى عليه راتباً ولا مكافأة – في الأعم الأغلب – يجعلنا نتجوز في مستوى تأهيله وإعداده ؟
5- هل رغبة مقاومة الباطل ومدافعته يخولنا أن نولي زمام التربية كل من أرادها ؟
6- هل ادعاء أن العمل الميداني وحده والممارسة الفعلية – بغض النظر عن مستوى ذلك العمل وتلك الممارسة – يكسب الإنسان مؤهلات التربية ويهيؤها لها ؟
7- ..

إن مسحة عابرة لواقع كثير من المربين في المحاضن التربوية يجد قصوراً واضحاً وجلياً في مستوى الإعداد والبناء والممارسة والعمل, يدفع ثمنه الطلاب والأبناء , فهل نيتهم الطيبة وإخلاصهم ومحبتهم للخير كافية لنجاتهم من المسؤولية والمحاسبة الدنيوية والأخروية ؟ !
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن ) حسنه الألباني

والطب بكسر الطاء في لغة العرب يقال على معان :
منها: الإصلاح يقال طببته إذا أصلحته . ويقال: له طب بالأمور , أي لطف وسياسة .
ومنها : الحذق . قال الجوهري : كل حاذق طبيب عند العرب قال أبو عبيد : أصل الطب : الحذق بالأشياء والمهارة بها . يقال للرجل طب وطبيب إذا كان كذلك وإن كان في غير علاج المريض .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تطبب ) ولم يقل من طب لأن لفظ التفعل يدل على تكلف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة وأنه ليس من أهله كتحلم وتشجع وتصبر ونظائرها .

فالمربي يتطبب فهل يضمن ما تطبب به أم لا ؟
قال الخطابي رحمه الله : لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا ,والمتعاطي علما أو عملا لا يعرفه متعد فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض , وجناية المتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقلته .
قال السعدي رحمه الله : هذا الحديث يدل بلفظه وفحواه على : أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها , سواء كان طباً أو غيره وأن من تجرأ على ذلك فهو آثم .

إن افتراض جهل جميع المربين بالتربية وقيامهم بها من غير أي تأهيل مسبق - وإن كان ذلك قد يرد من النفر القليل- غير وارد , لكن المقصود أن تأهيل المربي قد يكون غير كافٍ , أو يكون تأهيله ناقص في جوانب كثيرة , وقد يكون تأهيله منتهي الصلاحية يحتاج إلى تحديث وتجديد , وغير ذلك من أوجه قصور المربي عن ما تطبب فيه .

واجتهاد المربي مأجور عليه إن أجرٌ أو أجران,ولكن متى كان ذلك الاجتهاد صادر من أهله وفي محله, فليست ذريعة: " أني اجتهدت " كافية للخروج من دائرة الإثم والمحاسبة إلا إذا استوفى المجتهد الشروط كما سبق, ويمكن الرجوع إلى كتب أصول الفقه لمعرفة تفاصيل الشروط التي يتطلب توفرها في المجتهد الشرعي ليدرك مدى الاحتراز في مسألة الاجتهاد.
ونحن عقلاً وسلوكاً لا نقبل اجتهاد المهندس الذي نال أعلى الدرجات في تخصصه في قضايا تتعلق بالطب مثلاً, بل لا نقبل اجتهاد طالب كلية الطب في مسألة من مسائل الطب تفوق قدرته ومستواه, فَلِمَ نقبل من غيرهم أن يمارسوا اجتهادات تربوية بلا أهلية كافية مع أن خسائرهم في أبنائنا وطلابنا الذين هم أعظم ثروة على الإطلاق ؟.

إن التربية علم له شخصيته وكيانه, وأسسه ونظرياته, وفنونه ومهاراته , وتجاهل ذلك كله وعدم الإفادة منه والتخصص فيه لمن تطبب في تربية النشء والاكتفاء ببعض الموروثات - التي إن سلمنا مناسبتها لجيل ماض- سيورث أزمات تربوية تتجذر في أعماق المجتمع ويصعب علاجها حينئذ , وستصبح ممارساتنا التربوية الخاطئة تكرس الغثائية في الأمة بأسلوب تخديري بطيء وأكيد المفعول لا يوقفنا على حقيقته إلا الأزمات والحوادث الموجعة ! .

ومن أوجه القصور لدى بعض المربين في التربية أو ما يتطلبه عمله كمربي أذكر نقاطاً عامة تحتاج مزيد تفصيل وبيان منها ما يلي :
1- عدم وضوح الأهداف بمستوياتها أو غيابها عند المربي في مراحل التخطيط والتنفيذ والتقويم .
2- ضعف الاهتمام بالعلم الشرعي المتخصص وفق مناهج مدروسة ومناسبة للشرائح المستهدفة.
3- ضعف الوعي العام والسطحية في الثقافة والتفكير .
4- الجهل بخصائص وحاجات شريحة الطلاب المستهدفين وكيفية التعامل معها.
5- الاعتماد في الممارسة الإدارية والتربوية على الخبرة الشخصية فقط . ( وليتها خبرة ناضجة ) .
6- التقليد والتبعية لأي موجة أو صيحة دون وعي أو إدراك لمناسبتها والحاجة إليها حتى ولو كانت في باب من أبواب الخير .
7- قولبة الطلاب على أنماط محددة وأفكار شخصية وعدم استثمار طاقاتهم ومواهبهم .
8- الانكفاء على الذات والانعزال عن الاحتكاك بالمجتمع ومصادره الثرية في عملية التربية .
9- الروتين والرتابة في الوسائل والبدائل والانغلاق على ما وجد عليه الآباء .
10- تعميق الرمزية والولائية بصورة ممرضة أحياناً .

وأخيراً :
أرجوا أن لا أكون قد رسمت صورة متشائمة عن حال المربين في الميدان بقدر ما أردت أن أصل إلى حقيقة تشخيص جزء من الواقع الموجود رغبة في أن نستيقظ من سبات المدح والتبجيل والشعور بالامتلاء والتفاؤل المفرط الذي أقعدنا عن النمو والتجديد بسرعة توازي مستوى التحدي الذي نواجهه .
ولا أظن حديثي ينسحب على أولئك المربين الذين يشعرون بقصورهم وحاجتهم إلى مزيد من البناء والرقي ويبذلون أقصى وسعهم وجهدهم في تكميل أنفسهم ممتثلين أمر الله جل وعلا : ( فاتقوا الله ما استطعتم )

وسأقترح بعض ما أرى أنه قد يسهم في التصحيح والعلاج وهي موجهة لمجموعة من الأطراف ذات العلاقة :
1- إعادة النظر والتأمل في معايير اختيار المربين وتعيينهم .
2- الاهتمام ببناء المربي وصناعته منذ وقت مبكر وفق منهجية علمية واضحة .
3- إنشاء معاهد ومراكز تدريب متخصصة في إعداد الكفاءات التربوية .
4- تكوين اتجاهات إيجابية نحو علم التربية بصورته التخصصية ودعم ذلك من الجهات المسؤولة .
5- إنشاء الديوانيات والمجالس التربوية ونشر الثقافة المختصة .
6- الاهتمام بالقراءة والاطلاع والحوار والبحث في مسائل التربية .
7- تقديم تغذية راجعة للمربين عن أثر ممارساتهم ومساعدتهم على النمو والارتقاء .
8- إعادة النظر في وضع الحلقات القائم وسياسة إدارتها وبرامجها وترشيد ذلك نحو الأفضل .
9- وضع مستويات للحلقات ( أ – ب – ج ) ويحدد لكل مستوى صفات ومؤهلات المربي الذي يعمل في هذه الحلقة .
10- تفعيل دور المشرفين في مراكز وجمعيات التحفيظ على القيام بأدوارهم التربوية المنتظرة منهم .
11- تقويم حلقات التحفيظ ومخرجاتها وفق معايير موضوعية صادقة تقيس أداء المربين ومستوى البرامج وما يتعلق بذلك .
12- وأنت أخي المربي : أوصيك بالخوف من الله واستشعار مسؤوليتك الفردية والسعي إلى إعداد نفسك وتزكيتها فمهمتك شريفة وغايتك عظيمة سدد الله جهدك ونفع بك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


أبو راكان بن عمر القرشي
26/7/1426 هـ
Aburakan23@maktoob.com
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية