اطبع هذه الصفحة


احترام العقول أولاً !

إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي

 
(1)


إن من أعظم ما وهب الله للعبد عقلاً سليماً ، وفكراً ناضجاً ، وإدراكاً ثاقباً ، وسعة في الأفق ، واستيعاب للحق ، به يرتقي أناس ، وينحط به آخرون .
ميّز به الإنسان عن بقية الحيوانات ، بتعطيله ، أو انحطاط تفكيره يفقد الإنسان إنسانيته ، وينخرط في عالم الحيوان البهيمي {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
به يسود الفرد ، وينال الصدارة ، ويميز الخير من الشر ، ويعمل النفع ويبتعد عن الضر ، ويؤصل أمته إلى بحر الأمان حتى ولو كان نحيل الجسم ، وذميم الخلقة " إنما المرء بأصغريه بلسانه وعقله " .
ولعظم منزلة هذا العقل كان أحد الضرورات الخمس التي اتفقت الشرائع على حفظها ، فحفظه حسياً ومعنوياً غاية من غايات هذه الشرائع .


(2)


ومما يمدح به الفرد ، أو الشعوب حينما يتصف بصفات العقل السليم التي وهبها الله للعبد ، ولهذا فلا غروى أن يكون أغلى ما تملكه الشعوب من الثروات هي هذه العقول ، وإن كانت فقيرة بالثروات المادية ، لكنها استطاعت أن تتقدم على شعوب طغت عليها الثروات المادية في جميع الميادين ، وبعقولها استطاعت أن تسود الأمم . و تشجع هجرة عقول الأمم الأخرى جماعات ووحداناً ، وتحتضنها وتغذيها . وانحطت شعوب وأمم لما انحطت عقولها ، وزهدت في عقول رجالاتها ، وكان هم الواحد منهم لا يتجاوز أسقطة المتاع ؛ مع أنها من أغنى الشعوب بالثروات المادية .
ولمكانة العقول السليمة لدى الشعوب الواعية الطموحة المثمنة للكنوز يكون همها ليل نهار الحفاظ على هذه الكنوز ، واحترامها وتقديرها ، والاحتفاء بها ، والدفاع عنها ، وتسخير ما تستطيعها من قدرات لتطويرها وتفعيلها ، وتُهيأ الأسباب والأجواء لتنتج الكثير ، وما الاهتمام الفائق بالموهبين الصادق إلا نتاج ذلك .
وهذه العقول لا تخل منها أمة من الأمم ، أو شعب من الشعوب " إن بني عمك فيهم رماح "فهذا من عدل الله ورحمته وإحسانه بعباده المتتابعة .
ومن سنة الله في خلقة تفاوت هذه العقول تفكيراً ، ووعياً ، وإدراكاً ، وهداية ، واستفادة . مع اتفاق في أصل العقل وسلامته وأنها قابلة للزيادة في التعقل والتأمل ، وهيئت للسعي فيها قدماً ، و التوسع في المدارك والأفق .


(3)


ومن حق هذه العقول علينا احترامها وتقديرها والاستفادة منها ، وعدم الاستخفاف أوالاستهانة بها ، أو الإسقاط من شأنها ، أو السعي الحثيث لقصرها على ما يراد منها لا ما تريده .
والاستخفاف بالعقول له صور وأشكال ظهر الكثير منها والبعض الأخر في طريقه إلى الظهور ، لأن مشوار الاستخفاف بالعقول ما زال مستمراً ، وتعدد ممتهن هذا الاستخفاف بدلاً ما كان مقتصراً على أصحاب السياسة ، وأرباب الشعارات ، والذاتيين ، فبدأنا نسمعه ونشاهده ممن يدعي الإصلاح ، والسعي الحثيث لتوعية العقول وتوسعة المدارك ، والنقلة بالأمة .
وإن كان ظاهر صيحاتهم ونداءاتهم النصحة للأمة ، والخوف من المستقبل ، حلت بثوب الرحمة والشفقة ، إلا أن الحفاظ على رأس المال مقدم على الربح .
 

(4)


وللتطور الهائل في هذا العصر في وسائل المعلومات ، والاتصال ؛ حتى أصبح العالم كالقرية الواحدة ، فبدأ الوعي ينتشر في أوساط المجتمع ، ويحرص الناس على معرفة الحقيقة ، وأنهم ما عاد تنطوي عليه الأمور مثل ما كانت تنطوي عليهم في السابق ، فمصادر المعرفة تيسرت ، وتعددت ، وأحبوا أن يعرفوا الأمور بأنفسهم لا أحد يملها عليهم ، وبدؤوا يستقلون بتفكيرهم وأرائهم ونتائجهم الحاضرة والمستقبلية ليتحرروا من تبعية الغير وتسير الأخر لما يريده هو لا ما يريدونهم . وأن حبال الثقة المتبادل قد انقطع ، ويَردوا قانون " وما أريكم إلا ما أرى " إلى مقننه ومستحسنه . وأنهم لا يريدون السياسة الفرعونية أن تمرر عليهم ؛ سياسة " فاستخف قومه فأطاعوه " .

(5)


ومن صور وأشكال الاستخفاف بالعقول أنه عندما نقوم بطرح الأفكار والآراء سواءً كانت فكرية أو سياسية أو تربوية ..... نطرحها وفي قرارة أنفسنا أن المجتمع ما زال مصاب بسطحية التفكير وضحالته ، وقلة الوعي ، وأنه تمشي عليه بساطة الأمور فكيف بعظامها ، وأنه يجيد سرعة الاقتناع ، ونخاطبه على أنه مجتمع ما قبل التسعينات ؛ ولهذا تأتي الطرحات والأفكار هزيلة ومتميزة بالبساطة والسذاجة والشطط ، ومما يحزن المرء أن كثيراً ممن يتصف بهذا ممن يحمل شهادات عالمية عالية ، ويقال أيضاً أن مثل هذا الطرح يلق رواجاً ممن يحمل مثل هذه الشهادات .
ومن هذه الصور أننا نجيد التهرب من فشل طروحاتنا وخيبة أفكارنا ، وسذاجة تحليلاتنا، ومن ثَم نحمل هذا الفشل الذريع إلى فهم الآخرين له ، وأن ما قلناه لا غبار له ، وإنما أتى الخلل من هذا الفهم ، ولإصراره على هذا الاستخفاف يصعب عليه الاعتراف بمجانبة الصواب مع أن ما قاله لم يخصه بأفراد ، وإنما قاله على الملأ ، ولجودة هذا الطرح حُرص على حفظه واقتنائه فلهذا لا يمكن أن يندثر أو يطوي في عالم النسيان ، فالأفكار والآراء من أصعب الأمور نسياناً وتجاهلاً .
 

(6)


ومن أشكال الاستخفاف والاستهتار بعقول الناس : الشعارات البراقة ، والوعود المطمئنة ، والدعايات الساحرة بدأً بالسياسة ، ومررواً بالاقتصاد وحقوق المرأة ، وانتهاءً بمحاضن التربية والتوجيه ولا أخالك ناسياً مسمار جحا هذا العصر " الإرهاب والتطرف " ومصطلحة الحرية والديمقراطية .
فيبدأ بمشواره رافعاً عبارات براقة مع وعود مؤكدة فتذهب الأيام والسنون فلا نراء لهذه اللافتات أثراً في الواقع ، وإنما نسمع جعجعة ولا نراء طحناً .
ولغلبت المادة على الكثير منا استغل ذلك ضعاف النفوس ، مع استغلال وسائل الدعاية الحديثة والمتنوعة ، فيبدأ بطرح مشاريعه التجارية مع وعود بأرباح باهرة مع وقت قصير تجعل المرء يقبل عليها بشراهة وبدون تروي فلا مكان له مع هذه الأرباح فالفرصة لا تعوض ، فيذهب الوقت المحدد وأضعافه ، وصاحبنا لم يستيقظ إلا وهو في وسط الفخ ، فوصل به الحال إلى أن يتمنى رأس ماله ، وعلم أن هذه الوعود ذهبت مع أدراج الرياح ، بل وصل ببعض هؤلاء النفوس أنه استغل الدين وأهله في ترويج نصبه وخداعه .
 

(7)


وممن الأسباب التي تجعل المرء يتمادى ويستميت بهذا الاستخفاف أن نظره مقصور على الساعة الحاضرة فهو وقتي فلا يفكر في عاقبة طرحه عند وقوف الآخرين على الحقيقة ، ولا يهمه ذلك ، ولا يستشعر حال الناس إذا فرغ صبرهم من طول انتظارهم للوعود التي دغدغت مشاعرهم ، والتوصيات ، والحلول الناتجة عن دراسات وتحاليل .
فهذا أحد النخب ! على الملأ في أحد القنوات الفضائية لم طُرح عليه عمله الذي خالف فيه أحد الأحاديث الصحاح مع أنه لا يمكن له بحال من الأحوال أن يتجاوز ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قيد أنمله ـ وهذا هو المؤمل من كل إنسان ـ أجاب بكل ثقة أنه بعد ما جمع طرق هذا الحديث ودرسها توصل إلى أن معنى هذا الحديث يختلف اختلاف جذرياً مع ما عَلمه من مشايخه وأساتذته وهو المعنى السائد لدى الناس ، والذي على إثره انبهر المستمعين ، وعندما ترجع إلى دواوين الحديث تجد أن هذا الحديث لا طريق له إلا طريق واحد عن أحد الصحابة ، فهل فكر صاحبنا بالساعة التي تلي البحث من الآخرين عن هذا الحديث ومعناه !؟ .
وهناك أستاذ آخر من عِلية النُخب مما طرحه من أفكاره في مجمع من المجامع الثقافية متعددة المدارس والأطياف أن من مميزات عصور طفرة الثقافة المتقدمة أنها لم تتقيد بمدرسة واحدة أو مذهب واحد يُقصر الناس عليه بل أن السلطة في ذلك الزمن ضمنت لكل فئام المجتمع وأطيافه حريته الثقافية ، وأراه العقدية أياً كان ما دام أن صاحبها مُستظل تحت مظلة الإسلام بخلاف حالنا الآن .
فهذه النتيجة يعلم صغار السن والمعرفة أن صاحبها قد أبعد النجعة ، وأن التاريخ يكذب ذلك .
فنقول لصاحبنا هل عصر المأمون ـ الذي يُعد من أزهى عصور الثقافة لدى فئام من المثقفين ـ ينطبق عليه ما طرحته ؟ فماذا يُعد امتحان خيرة علماء ذلك العصر ، وضرب خيارهم بعدما قيدوا بالأغلال ، وامتحن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل ، ويدرك ذلك عوام الأمة فضلاً عن النخب .
وقل ذلك في ما بين القرني الرابع والتاسع في مصر ، وابن تيمية وكتبه ومدرسته وتلاميذه شاهد على خلاف هذا الطرح .
بل أن الدين الحق لا يمكن أن يرضى بذلك ، وأن الكثير يعلم ما هي مهمة درة عمر الخطاب التي في كل عصر يتمناه كل غيور .
فثقة المرء لدى فئام من الناس لعلمه وطرحه وإدارته وماضيه تجعله يتكئ على هذه الثقة عند طروحاته وأفكاره الحاضرة والمستقبلية ، ومن ثم تؤثر على جودة طرحه وصدقه ، بل قد يصل به الحال إلى الاستخفاف بالعقول واستتغفالها ، وبما أن الناس أغلاء ما يملكون هي عقولهم لا يتحملون ذلك منه فيبدأ مد ثقته ينحسر شيئاً فشيئاً ، فينفضون من حوله جماعات ووحداناً .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد هادي البشرية إلى الرشاد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
 

إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
البريد الاكتروني/ ams2041@naseej.com

 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية