اطبع هذه الصفحة


فن ترويج الأفكار والطروحات

إبراهيم بن محمد السعوي

 
عاشت الأمة في عصرها الأول على وحدة الكلمة وسلامة المعتقد ؛ متسم بصراحة الطرح ووضوحه ما هناك ما يدعو إلى الغموض والمراوغة ، فهو منهج اتخذ القرآن دليلاً والسنة منهاجاً وضياءً ، فلما ذهب القرن الأول بدأت ظهور نوابت السوء من أفكار وطروحات بألوان متعددة وصورة وأشكال متنوعة سالكي أصحابها جميع السبل المتاحة لهم في ترويج ونشر تلك الأفكار والطروحات بسبب جنوحها عن الصواب ، وبعدها عن الصراط المستقيم .

ومن نماذج تلك الأفكار والأطروحات ورجالتها التي عكرت صفو هذه الأمة ، فرقة المعتزلة التي كانت مستمدة من وثنية الإغريق ، ويرى أصحابها أنهم نخب المجتمع التي عجز الآخرين عن مجارات أدبياتها وخطابهم العقلاني ، أما غيرهم إما حبيس للنص الشرعي ، أو رق للتقليد الأعمى ، فعقله الذي أعز ما يملك رهنه لغيره ممن يجيد فن الاقصائية والسلطوية بحد زعمهم ؟ !.

حتى إذا بان عجزهم عن استمالة المجتمع لقبول طروحاتهم إما لعدم قبول الآخرين لهم للانعدام الثقة فيهم وفي طروحاتهم ، أو لضعف حججهم وبراهينهم سرعان ما يلجؤون إلى حيل ووسائل أهل الباطل في كل زمان ومكان للالتفاف على هذه العزلة التي كافأهم بها المجتمع الواعي المحافظ على معتقداته وسلوكه ، مع تفنن في هذه الحيل والخدعات مع تقديم بعضها على بعض مع مرعات الظروف والأحول .
ومع انحسار هذه النبتة في عصر من العصور ، أو مجتمع من المجتمعات سرعان ما تطفح على السطح في هذا العصر ما يسمى بـ " الليبرالية " فيه شبيه بتلك النبتة إلى حد قريب من حيث الاستدلال ، والحيل والمراوغة في الوصول إلى المراد ، والانفلات من النص .

ومن تلك الحيل والوسائل :
• الانتساب إلى أهل السنة والجماعة ، وإظهار ولائه لهم ، أو إلى من يمثلهم في زمن من الأزمان كالانتساب إلى الحنابلة ، أو الاتصاف بالأثر .
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : " إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة " (1).
وهذا أبو بكر الباقلاني أحد زموز الأشاعرة كان في بعض أجوبته يكتب اسمه ؛ محمد بن الطيب الحنبلي . ( 2) .
ومن ذلك أن تمرر أفكار وطروحات تحت مظلة أسماء عرف عنها سلامة المنهج والمقصد ؛ كتقديم أو تقرير ، أو تحت مظلة مؤسسات وجمعيات غير حكومية عرف عنها صدق التوجه من رعاية ، ودعم فتكون هذا المظلة جسراً يتوصل من خلاله هذا الأفكار والطروحات شعروا بذلك أو لم يشعروا .

• حرب المصطلحات :
وفلسفة ذلك الاعتماد على استبدال المصطلحات الشرعية بغيرها من مصطلحات براقة بهدف التلبيس على الناس لتمرير طروحاتهم وأفكارهم ، أو الانفكاك من الصفات المترتبة على من التبس بالمصطلح الشرعي .
وظهر ذلك جلياً في هذا العصر على يد أبناء ما يسمى بـ " الليبرالية " ؛ فكثير ما يتغنون بشعرات برقة تدغدغ المشاعر ، وتجذب البسطاء من الناس كالمساواة ، وحقوق الإنسان ، والحرية ، وأنه ليس في ديننا رجال دين أو كهنوت ! .
وهذا مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها (3) " .
ومن أدبيات هذه الحرب استعمال كلمات مطاطة معتمة سياسية ليحفظ على نفسه خط الرجعة عندما يصادم بنصوص شرعية ، أو ليحمل الغير الفهم المخالف لتلك النصوص ، ورمي الكلامَ بعمومٍ ، لِيَفْهَمَهُ كُلُّ ذي فَهْمٍ بفَهْمٍ ! وكلمات فضفاضة لينزلها كل مُنزل منزله ؛ ضانين أن هذا هو ما تمليه " سياسة مسك العصا من الوسط !"

• استمالة السلطة السياسية إلى تبني أفكارهم وطروحاتهم ، لترويج مذهبهم ، وحمل الأمة على قبول تلك الأفكار والطورحات بقوة السيف ، ويظهر هذا بجلاء فتنة خلق القرآن حيث فرضوا معتقدهم على الأمة جمعاً بدأ بالترغيب بمال أو سلطة ، وانتهاءً بالترهيب بالسجن والجلد ، ومرواً بمنع الأعطيات والهبات .
ومن ذلك المزايدات المكشوفة حيال دعوى المواطنة ، وحب الوطن والدفاع عنه ، واتهام كل من خالفهم بعدم حب الوطن ، ونصب العداء له .

• انتحال أسماء شخصيات مرموقة :
لا شك أن هناك علماء ومفكرين أمناء لهم ثقلهم ومكانتهم ، استطاعوا أن يتمكنوا من قلوب الناس بصدق طروحاتهم وجودتها ـ بعد توفيق الله ـ مما جعل الناس يأتمنونهم على دينهم وعقولهم وهذا كثير ما يكون في المتقدمين ، فإن للمتقدمين مكانة عند الناس ، وتقديمهم على المتأخرين في العلوم وغيرها ، وأن من عادة الناس مدح الماضي ، وذم الباقي في هذا الشأن.
فيأتي من يريد أن يروج أفكارهم ومصنفاته فيرسم على طرة كتابه ، أو إنتاجه اسم ذلك العالم أو المفكر ، ومن ثم يأتي القارئ فيظن أن الكتاب على حقيقته فيتلقفه ، فيقرأه ومن ثم يعلق به بعض أفكار ذلك المدلس .
قال المسعودي : من شيم كثير من الناس إطراء المتقدمين ، وتعظيم كتب السالفين ، ومدح الماضي ، وذم الباقي ، وإن كان في كتب المحدثين ما هو أعظم فائدة ، وأكثر عائدة ، فقد حكى الجاحظ أنه قال : كنت أؤلف الكتاب الكثير المعاني ، الحسن النظم ، وأنسبه إلى نفسي فلا أرى الأسماع تصغي إليه ، ولا الإردادات تتيم نحوه ، ثم أؤلف ما هو أنقص منه رتبة، وأقل فائدة ، ثم ينحله عبد الله بن المقفع ، أو سهل بن هارون ، أو غيرهما من المتقدمين ، ممن صارت أسماؤهم في المصنفين ، فيقبلون على كتبها ، ويسارعون إلى نسخها ، لا لشيء إلا لنسبتها للمتقدمين ( 4).

• استغلال عاطفة وحماس الغير :
بما أن الإنسان يحمل بين جنباته صفة العاطفة والحماس والغيرة تجاه دينه ومبادئه ، فتجد من أصحاب الأفكار والطروحات من يستغل هذا الجانب ، ويوظفها لمراده فتجده في مكان يثني على هذه العاطفة الجياشة ، والغيرة الصادقة ، ومن ثم ينعطف على هذا بطرح أفكاره ومراده .
وفي مكان آخر إذا لم تلق أفكاره وطروحاته من الغير قبولاً بسبب دافع الغيرة والحماية لمبادئهم وأفكارهم ؛ يبدأ بصب جانب غضبه على هذا الخلق النبيل في موضعه ، ويزعم أنه متى ما حال هذا العقد على الوعي ، وتوسيع الإدراك ، والنظر في المألات ؛ فإن المرء لا يزال يتراوح في مكانه ، والغير يتقدم في صناعة الحياة خطوات .
ومما لا شك فيه أنه ما زال تعاملنا مع ذلك النتاج الفكري ، أو أدبيات حديثنا ، أو طروحات المستقبلية غالباً ما يقارنه اندفاع وتسرع تسوقه العاطفة والحماسة اللاعجة... والتي لا ينقصها الصدق والإخلاص والغيرة بقدر ما ينقصها الوعي والفطنة وحسن الرأي ، وتقدير العواقب.
وقد آن لنا أن نعي –بعد عدة تجارب مريرة- أننا بحاجة إلى توظيف العاطفة لا إلى إرضائها ، وإلى إعمال العقل لا إلى تعطيله، وأن نصرِّف الغيرة والحمية حيث ينبغي أن تصرَّف.

• أسلوب الرد على الإنتاج الساقط ومحاربته :

مما لا شك فيه أن من الطرق التي يًصد بها طوفان الأفكار الهدامة ، والطروحات الساقطة هو محاربتها ، والرد عليها وتفنيدها ، والتحذير منها ، بأسلوب علمي ، بعيد عن التشنج ، والتشفي ، وهذا هو المنهج المتعارف عليه منذ القدم ، ويبرز بجلاء كلما ظهرت أفكار ومذاهب مخالفة ؛ إلا أننا عندما نوظف هذا المنهج في غير مكانه وزمانه فما نجني من ذلك إلا نقيض قصدِنا ، وخلاف مرادنا ، فكم من نكرة من النكرات برز وعتلا عندما رد عليه !؟ ، وكم من كتاب كان حبيس للرفوف علاه الغبار ، نفذت نسخه بعدما هوجم ورد عليه ...
فإذا كان الرد مع من سلمت نواياهم إلا أن أقدامهم قد زلت بهم ؛ قد يكون أثره على نقيض ما يراد منه ، فما بالك مع من يجيد فن الإثارة ، والشذوذ ، ويرى أن أقرب نقطة توصله إلى الرقي والاشتهار ، والإشارة بالبنان ولو كان عن طريق بوابة قذرة .
وبعد ضجة أثرناها عليه وعلى إنتاجه فكنا سببا للترويج له ولإنتاجه ؛ فجعلناه شهيراً يبحث الناس عن مؤلفاته، ويسألون عن نتاجه ؛ من حيث لا نشعر.
فدعوة إلى استعمال منهج " الرد والمناقشة " على الوجه الصحيح بدأ من اختيار المردود عليه ، وانتهاء بطريقة ووقت الرد ، لا تسيره العاطفة ، ولا يغيب عنه العقل والمشورة.
وأن ينصب الرد على الفكرة والمقولة لا على القائل ؛ لكي يكون هذا الرد صالحاً لكل زمان ومكان ؛ فالقائل قد يكون مغموراً ، وزمنه محدد ، وطرحه وفكره استقاه ممن سبقه من أسلافه ، يغني بحقه الإشارة لا التعين ، والتلميح لا التصريح .

• شعار الإصلاح ومحاربة الفساد :

مما لا شك فيه أن من أقوى أسباب نجاح الداعية أن تكون أفكاره وطرواحاته قريبة من بني قومه مما يتطلعون إليه ؛ من ذلك الإصلاح في جميع ميادينه ، والدعوة إلى محاربة الفساد بجميع أشكاله ، والابتعاد والنزاهة عن جميع حظوظ النفس ، ومغريات الدنيا ، فالخير والإصلاح ينشده الكل ويتطلعون إليه ، والبعد عن كسب مالك أو شهرة ، أو جاه دليل على صدق الداعية والمفكر ، ولهذا نجد أن الله سبحانه ختم في كتابه على لسان نبيه شعيب ما دعاه إلى دعوة قومه ونصحهم بقوله {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } " هود : آية 88" .
ولم يغفل هذا الجانب من يحمل بين جنباته أفكار وطروحات يريد بثها بين بني قومه أن يمهد لها بإرادة الإصلاح والرقي ، ومحاربة الفساد ومظاهره ، وأنه يبرأ من التطلع إلى مصلحة أو تحقيق رغبة ، ويدعي أنه قد يفوت على نفسه بعض المكاسب الشخصية عند سلوك هذا الطريق ؟ ! أو أن يختم أفكاره وطروحاته بقوله : " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " .
وهذا الشعار رفعه أعتا طاغية على وجه الأرض وهو فرعون مع ما فعله مع بني إسرائيل من الجبروت والطغيان إذ يقول : {.... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ }" سورة غافر: 29" { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} " سورة غافر : آية 26" .
ودعوى الإصلاح ومحاربة الفساد غير كاف في صدق دعواه ما لم يقرنه بعمل وأدلة يبرهن من خلالها على صدق دعواه .
فهو شعار يراد من ورائه ما ورائه من أطماع مادية وذاتية من مال وجاه وإشارة بالبنان ، ولقد قيل قديماً : والدعاوى إن لم تقم عليها بينات أصحابها أدعياء .
وقيل أيضاً : وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وكم مرة جرت الأمة إلى ما لا تحمد عقباه بواسطة رفع هذا الشعار قديماً وحديثاً .
ومع أن الوعي تغلغل في أوساط الأمة ، وفيهم من الذكاء والدهاء مثل ما في غيرهم ، وأن العُصب التي كانت على أعينهم قد أزيحت ؛ فما عادت تنطلي عليهم الأمور مثل ما كانت في السابق ؛ إلا أن هناك فئام من الناس قد تنطلي عليه مثل هذا الشعارات البراقة لا سميا إذا رفعها من يشار إليه بالبنان ، أو بـ " الفقه ؟ " أو بـ" الدكتور ! " .


إبراهيم بن محمد السعوي
القصيم ـ بريدة
ams2041@naseej.com
 

===============
(1)ـ " الفتاوى " لابن تيمية (4/17) .
(2)ـ " درء التعارض " (1/149، 241) .
(3) ـ أخرجه ابن ماجه ( ح 3384) من حديث أبي أمامة الباهلي .
(4)ـ " التنبيه والإشراف " (ص 30) ، وانظر " صبح الأعشى " (5 / 484) .

 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية