اطبع هذه الصفحة


حكمة القادة خير ضابط لحماس الأتباع

أبو شاكر


بادئ ذي بدء يلاحظ كثير من المراقبين في مختلف الدعوات أن عصب الدعوات وطاقاتها وقوامها –بعد الله تعالى- هم الشباب ، حيث تنطلق الدعوات, وكذا تسري فيها الحياة من خلال ذلك الحماس المتوقد لدى الشباب .

فالشباب إذن أمل الأمة ، وهل كان حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلة من الشباب المتوقد حماسا واندفاعا ولكن الشباب لقلة خبرتهم وتجربتهم في الحياة ؛ ربما يخوضون تجارب تعود عليهم وعلى أمتهم وقادتهم بالهلاك، أو وأد الدعوة في مهدها والتاريخ مليء بالأمثلة ولذلك فهم لا غنى لهم عن حكمة القادة الذين قد تجاوزوا سن الكهولة سن النبوة . وبالذات قادة قد عركتهم الحياة بتجاربها وحلوها ومرها .

ولو نظرنا إلى حياة مجموعة من الدعاة والعلماء ممن كانوا في تلك السن الشبابية سن التوقد والحماس لرأينا تغيرا بعد أن تجاوزوا سن الكهولة حيث تغيرت أطروحاتهم ونظرتهم للأمور، لا لأنهم تعرضوا لبعض المحن فأثرت فيهم سلبا –كما يظن البعض- ولكن لأنهم وجدوا فرصة للتفكير بعيدا عن زحمة الحياة، وبعيدا عن ضغط المجتمع وضغط من حولهم من الأتباع المتحمسين، ولست هنا بصدد ضرب الأمثلة على ذلك فالأمثلة ينبغي أن يستقيها الواحد منا من البلدان العربية كالسعودية ومصر والكويت واليمن .

وطريقنا ودعوتنا أيها الأفاضل ليست بمعزل عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بإحسان بل هي سلسلة مترابطة وينبغي أن تكون كذلك مرتبطة لا أقول بالمنهج القولي فقط – كما يظن البعض – ولكن كذلك بالمنهج العملي لسلف هذه الأمة وقرونها المفضلة فهم أحق من يقتدى بهم في كثير من القضايا والمشكلات التي تعترضهم 0 كما أن كثيرا من الحوادث والخطوب التي تمر بالأمة اليوم قد مرت بهم ولنا فيهم أسوة في تعاملنا مع تلك القضايا (( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنبن نوله ما تولى00)) وبما أنا مرتبطون بالمنهج النبوي فلنأخذ بعض النماذج لنتعرف من خلالها على حماس الأتباع وكيف تعامل القائد العظيم محمد صلى الله عليه وسلم مع هذا الحماس بحكمته وحزمه اللطيف .

النموذج الأول:
عندما كان المؤمنون في مكة كان باستطاعتهم أن يقاوموا المشركين ويردوا على عدوانهم ،بل كان يمكنهم أن يهدموا أصنام قريش ومعبوداتها ولو في الخفاء، ولكن كانت حكمة القيادة هي الصبر على الأذى والصبر على التنكيل وعدم الاستعجال في الأمور، وذلك لأن القيادة كانت تنظر إلى الأمور نظرة فيها بعد نظر ولم تكن نظرة مستعجلة، ولذلك كان النبي يمر على المستضعفين من المسلمين وهم يعذبون وما كان يفعل شيئا إزاء ذلك إلا أن يطمئنهم بنصر الله تعالى وجزاء صبرهم في الجنة ،ولقد فاض الأمر ببعضهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه متوسدا ببردة له في صحن الكعبة فقالوا له (( ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ألا ترى ما نحن فيه ؟!!)) وهل طلب هؤلاء إلا الدعاء وإلا الاستنصار ؟! فكيف كان رده الحازم؟ لقد قال : (( قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل، فيحفرون له في الأرض، فيُجعل فيها.. ثم يُؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه،فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليُتمنّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"! )) وذلك لأن الوحي أمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يعتدوا على أحد كما قال تعالى مخبرا عنهم بعد أن أمروا بالقتال :(( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم 00)) يقول سيد قطب رحمه الله : (( يعجب الله سبحانه من أمر هؤلاء الناس ; الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدره الله ; وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال في سبيل الله إذا فريق منهم شديد الجزع شديد الفزع حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم وهم ناس من البشر كخشية الله )) انتهى كلام سيد 0 فانظر كيف جعلهم حماسهم ذاك الذي كان مبنيا في الغالب على حب الانتقام الشخصي لما كانوا يلاقونه من أذى من المشركين عندما بردت الأمور وجاء وقت الحماس الحقيقي للدفاع عن دين الله تعالى وليس لما في النفوس من أحقاد وضغائن أن ينكصوا عن الحق وعندها تبين حقيقة حماسهم 0 ثم ليس القضاء على المشركين والكفار هو الهدف الأول من قتالهم وإنما قبل ذلك هدايتهم وهي أحب إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من قتلهم وانظر كيف حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلام صناديد قريش وإسلام أبناء أهل الطائف الذين لاقى منهم ما لاقى بل إسلام الطفل اليهودي وهو على مشارف الموت والذي لن يستفيد الإسلام منه شيئا بل لن يصلي هو لله ركعة 0 ولكنها رحمة الني صلى الله عليه وسلم بالناس والخوف عليهم من النار التي غفل أو تغافل عنها الكثير من المسلمين كما قال تعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) 0فهل نعي ؟!

النموذج الثاني :
صلح الحديبية وما فيه من دروس ويكفينا هنا – بدل أن نستغرق في القصة بكاملها – أن نستعرض المواقف التي تتعلق بموضوعنا فيها :
1- الوثيقة الموقعة وما فيها من تنازلات – فيما يظهر للبعض - وقد كانت كالآتي :
أ- لفظة (( بسم الله الرحمن الرحيم )) تغير إلى لفظة (( باسمك اللهم )) !!
ب- لفظة (( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله )) تغير إلى (( هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله )) !!
ج – من أتى المسلمين من قريش رد عليهم!!
د- من أتى قريشا من المسلمين لم يرد إلى المسلمين!!
هـ- رجوع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا العام وعدم دخولهم الحرم لأخذ العمرة وإنما في العام القادم 0 فبالله عليكم ماذا سيقول بعض الشباب أصحاب العجلة والحماس غير المنضبط إذا كانوا في ذلك العهد وهم قد تركوا مرجعات الأمة التي تلقتهم الأمة بالقبول ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم بل لقد نالوا منهم ووقعوا فيهم وفي نياتهم لا لشيء إلا لأنهم خالفوا أهواء هؤلاء فيما يريدون .
2- ما حدث من أن أبا جندل ابن سهيل بن عمرو جاء عند توقيع الاتفاقية وهو يرسف في قيوده فطالب به أبوه الذي هو طرف قريش في توقيع الاتفاقية واعتبر ذلك من الاتفاقية- وهذا قبل التوقيع عليها- فراجعه النبي في أن هذا قبل التوقيع على الاتفاقية فرفض سهيل التوقيع على الاتفاقية إلا بأخذ ابنه معه فأسلمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأخذ يصيح :(( أي معشر المسلمين أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت ؟!! أرد إليهم يفتنوني في ديني ؟!!)) وجاء في الرواية فزاد ذلك الناس شرا إلى ما بهم0 ومن ذلك :

3- موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رد أبو جندل بن سهيل إلى أبيه وعندما رأى هذه الشروط المجحفة في اتفاقية الصلح قال رضي اله عنه –فيما ظاهره الاعتراض وهو إنما مراجعة وعاطفة جياشة وحماس – قال: (( فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ قال . بلى . قلت : ألسنا على حق وعدونا على الباطل ؟ قال بلى . قلت علام نعطي الدنية في ديننا ؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال إني رسول الله وهو ناصري . ولست أعصيه )) وما كان هذا موقف عمر وإنما موقف كثير من شباب الصحابة كما سيأتي .

4- بعد توقيع الاتفاقية قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ((قوموا فانحروا ثم احلقوا فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا رسول الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا00 )) فانظر كيف كان تأثير الصلح عليهم حيث لم يقوموا عندما وجههم النبي صلى الله عليه وسلم بالنحر والحلق وكيف عندما رأوا النبي ينحر ويحلق قاموا ففعلوا ذلك حتى كاد يقتل بعضهم بعضا من الغم الذي هم فيه 0وانظر إلى هذا الموقف من الناس ( الأتباع ) لم يجعله يتراجع عن اتفاقيته نزولا على رغبتهم حيث كان موقفهم ذاك يدل على عدم رضاهم عن بنود ذلك الصلح بل بحزم لطيف نفذ ما يريد بنفسه لينفذوا هم ذلك ولم يعنفهم أيضا أو يتهمهم في إيمانهم لأنه أدرك ما يعانون نفسيا من تلك الاتفاقية .

5- بعد عودة النبي صلى الله عله وسلم إلى المدينة جاءه أبو بصير فأرسلت قريش رجلين لإعادته إليهم بحسب الاتفاقية فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :(( العهد الذي قطعت لنا )) فدفع أبا بصير إليهما !!0 فانظر إلى حال أبي جندل وحال أبي بصير وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذين الموقفين ولو حدث مثل ذلك في زماننا وكان بين قيادة المسلمين وبين أعدائهم مثل هذا الاتفاق وحدث مثل هذا التصرف من القيادة فبماذا يحكم الأتباع عليهم ؟!

إن هذه التنازلات- فيما يظهر للناظر - ما كان يعيها الصحابة بل كانت مؤثرة في نفوسهم كما مر والتي هي حماس الأتباع ولكن بقيت حكمة القائد وقراره الحازم -رضي عنه الأتباع أو لم يرضوا - هو الذي جعل بنود الصلح التي ظاهرها هزيمة وتنازلات سببا في تعطيل الاتفاقية من جهة قريش وتحولها إلى نصر وتمكين للمسلمين ومجال رحب لتبليغ دين الله إلى كثير من قبائل العرب 0بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه أن أحد الأصحاب قد قال (ما هذا بفتح؛ لقد صدونا عن البيت وصُدَّ هَدْيُنا، وردّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه ) فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لم يتركه بل صحح المفهوم عند أصحابه حتى لا ينتشر ذلك الخبر فيهم ويتعمق اليأس والشك فيهم فقال عليه الصلاة والسلام (( بئس الكلام، بل هو (أعظم الفتوح) قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين؛ فهو (أعظم الفتوح )00 أنسيتم يوم (أُحُد) إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم؟

أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ )) فقال المسلمون: ( صدق الله ورسوله هو (أعظم الفتوح) والله! يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا ! 0)ولذلك قال العلماء : ( لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته والانقياد لأمره ولو خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس، أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلفٍ أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ على أتم الوجوه وأكملها؛ غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره ).

النموذج الثالث : عندما تمت بيعة العقبة الثانية استأذن الأنصار النبي أن يميلوا على أهل العقبة من المشركين بسيوفهم فلم يأذن لهم بينما كانت فرصة سانحة لهم في فعل ذلك ولكن ما كان للقائد صلى الله عليه وسلم أن يؤثر عليه حماس الأتباع عن الهدف الذي رسمه لنفسه والمنهج الذي يسير عليه 0 النموذج الرابع : لم يقتل النبي المنافقين بل صلى عليهم عند موتهم ولم يطع أصحابه في ذلك وقال (( لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه )) النموذج الخامس و السادس والسابع .. والعاشر الخ .

كلها نماذج تبين وتوضح كيف أن الأتباع لديهم حماس وغيره ولكنهم يحتاجون إلى حكمة القادة في التعامل مع بعض الأمور وإن لم يدركوا مغزاها ونتائجها سلفا ويكفيهم فخرا أن يكون قادتهم لديهم ضابط مهم ألا وهو ضابط العلم الشرعي المستقى من الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح خير القرون والعلماء الربانيين القدوات والمرجعيات الذين تلقتهم الأمة بالقبول وهم إنما يبتغون بذلك رضوان الله سبحانه و تعالى وتجنيب البلاد والعباد فتنا ستعصف بهم وتحيل أيام وليالي المسلمين إلى خوف وجوع ووأد للدعوات في مهدها 0

 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية