اطبع هذه الصفحة


الإِنْصَافُ بَيْنَ عَدْلِ السَّلَفِ وَجُحُودِ الخَلَفِ

عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ


عجيب أمر هذه الأمة! سَلَفُهَا في الذروة من الأخلاق يملكون أوْجَهَا، وَخَلَفُهَا فى حضيض القاع يسفون نقعها، سلفها حلقوا فى سماء التقوى والورع، وَخَلَفُهَا انغمسوا فى دنس الإثم والعدوان، سلفها حكموا بإنصاف ولو على أنفسهم، وخلفها جحدوا الإنصاف في غمرة الشقاق والعداوات.
فلقد تعلم سلفنا الصالح وتربوا على مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة8] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء135].
يقول تعالى: لا تحملنكم وتدفعنكم عداوة قوم -أي كان نوع العداوة وسببها- أن تتردوا فى حمأة سوء الأخلاق بأن تعتدوا عليهم، أو تقولوا فى حقهم وصفاتهم ما ليس فيهم أو تظلموهم بالأقوال أو الأفعال فهذا وأضرابه مخالف للتقوى، وقد يكون من الغلو، قال ابن تيمية: "قوله صلى الله عليه وسلم «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ» عام في جميع أنواع الغلو؛ في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يُزاد في مدح الشىء أو ذمه على ما يستحق.
وقد علمهم المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإنصاف والعدل مع الخصم، فهذا حاطب بن أبي بلتعة يُرسل إلى قريش قبيل فتح مكة يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُعد لغزوهم، فلما كُشف أمره قال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله في قتله فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا إنه قد شهد بدرًا وإنك لا تدري لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني غافر لكم([1]).
واستدعى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطبًا ثم سأله لماذا فعلت هذا؟ فقال: أحببت أن أتخذ لي يدًا عند قريش؛ ليحفظوا أهلي هناك مع علمي أن الله ناصرك، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فعفا عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأطلقه.
"وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا قَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا"([2]).
فدفاع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حاطب رغم ما يظهر من فعلته الشنعاء وذلك لعلمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقه وإخلاصه للدين، وعن أبي سليمان خالد بن الوليد لمِا علمه عنه من احتباسه أدراعه وأعتاده في سبيل الله، ومنعه قالة السوء في حق من كان ظاهره يوحي بالمخالفة لمنهاج الإسلام، كل ذلك يعلمهم الإنصاف وقول الحق في مواطن قد تزل فيها الأقدام.
لذا؛ كان الإنصاف والعدل مع الخصم سجية من سجايا الصحابة وخلق من أخلاقهم التي تعلموها من قائدهم ومربيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فها هي عائشة رضي الله عنها لا يمنعها خصمها الذي قتل أخاها أن تقول قول الحق؛ فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن خديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير؛ ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيرًا ولا غلامٌ إلا أبدله مكانه غلامًا قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أحدثكم ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إني سمعته يقول: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ، وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَشُقَّ عَلَيْهِ"([3]).؟
وعن قتادة قال: "كان بين سعد بن أبى وقاص وسلمان شىءٌ, فقال سعد: انتسب ياسلمان, قال: ما أعرف لى أبًا في الإسلام، ولكنى سلمان ابن الإسلام، فنما ذلك إلى عمر فلقى سعدًا, فقال: انتسب ياسعد, فقال: أنشدك بالله يا أمير المؤمنين, قال: وكأنه عرف, فأبى أن يدعه حتى انتسب, ثم قال: لقد علمتْ قريش أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية، وأنا عمر ابن الإسلام أخو سلمان ابن الإسلام، أما والله لولا شيء لعاقبتك, أو ما علمت أن رجلاً انتمى إلى تسعة آباء في الجاهلية فكان عاشرهم في النار"([4]).
فلم يمنع إنصاف عمر بن الخطاب وعدله قرابة سعد بن أبي وقاص من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يُعلم ويُأدب ويُربي ويُقَّوم كل من خرج عن دائرة الإسلام.
"وهذا جعفر بن علي بن الحسين من أئمة آل البيت -عليهم السلام- يلعن المختار بن عبد الله الثقفي وقد لقي في نصرتهم أشد المحن وضحى في سبيلهم بالغالي والنفيس فسأله عيسى بن دينار عن سر هذا اللعن قائلاً: تلعنه وإنما ذُبح فيكم؟ قال: إنه كان يكذب على الله وعلى رسوله"([5]).
"وقال ابن فضيل عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر وابنه جعفرًا عن أبي بكر وعمر فقالا لي: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما كانا إِمَامَيْ هُدًى.
وكان سالم فيه تشيع ظاهر ومع هذا فَيَبُثُّ هذا القول الحق، وكذا ناقلها ابن فضيل شيعي ثقة ينقل الحق إلى أهل الفضل الذين يعرفون الفضل لأهله، فعثَّر الله شيعة زماننا ما أغرَّنَّهُمْ في الجهل والكذب فينالون من الشيخين وزيري المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"([6]).
ولم يكن هذا الخلق حجرًا محجورًا على الصحابة وآل البيت فحسب بل كان خلقًا متأصلاً في سلفنا الصالح فضربوا أروع الأمثلة العملية على أن الإنسان بجبلته ونفسه التى خلقها الله عليها يستطيع أن يسمو إلى تلك المعالي والأخلاق الفاضلة.
"فهذا أحمد بن حنبل يسمع كلامًا للحارث المحاسبي يعظ به أصحابه فى الزهد فبكى أحمد بكاءً مريرًا فقال له إسماعيل بن إسحاق السراج: كيف رأيت يا أبا عبد الله؟ فقال أحمد: ما رأيت أحدًا يتكلم فى الزهد مثل هذا الرجل، وما رأيت مثل هؤلاء ومع هذا لا أرى لك أن تجتمع بهم!" ([7])
قال ابن كثير: كره أحمد ذلك؛ لأن فى كلامهم من التقشف وشدة السلوك التي لم يرد بها الشرع والتدقيق والمحاسبة الدقيقة البليغة ما لم يأت بها أمر.
ولكن لم يمنع ورع الإمام أحمد وإنصافه من أن يقول: (ما رأيت مثل هؤلاء-يعني في تقواهم وورعهم، ولكنه شاق على العامة ولا يتوافق مع سنة المصطفى).
"وسُئل شعبة بن الحجاج –أمير المؤمنين في الحديث- عن هشام بن حسان وكان ختنه فقال لو حابيت أحدًا لحابيت هشامًا وهو ختني ولكنه لم يكن يحفظ"([8]).
"وهذا الوزير ابن هبيرة وزير الخليفة العباسي المقتفي ثم للمستنجد قال يومًا لأحد الفقهاء كلمة فيها بشاعة، قال له: يا حمار ثم ندم فقال: أريد أن تقول لي كما قلت لك فامتنع الرجل فصالحه على مائتي دينار. ([9])
أي إنصاف وأي تقوى وأي ورع من هذا الوزير المفضال في دولته التي فتحت الدنيا بأسرها!.
وأختم السيرة العطرة والأخلاق الفاضلة بمسك الختام الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة وفاتح بلاد الهند، كان -رحمه الله- عادلاً منصفًا اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته وقد حار في أمره وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفًا وهيبة للملك فلما سمع الملك ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال للرجل: ويحك! متى جاءك فائتنى فأعلمني ولا تسمعنَّ     من أحد منعك من الوصول إليَّ ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليَّ من ليل أو نهار فذهب الرجل مسرورًا داعيًا فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله فذهب باكيًا إلى دار الملك فقيل له: إن الملك نائم فقال قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلاً ولا نهارًا فنبَّهُوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد؛ حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد وعندهما شمعة تَقِدُ فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتزَّ رأس الغلام وقال للرجل ويحك! ألحقني بشربة ماء فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك؛ ليذهب فقال له: الرجل بالله لِمَ أطفأت الشمعة قال: ويحك! إنه ابن أختي وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح فقال: وَلِمَ طلبت الماء سريعًا، فقال الملك إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا؛ حتى أنصرك وأقوم بحقك فكنت عطشانًا هذه الأيام كلها؛ حتى كان مما رأيت فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعًا إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد"([10])
هؤلاء قوم تعلموا الورع والإنصاف والعدل مع النفس والأقربين فكانوا بحق مِلْءَ عين الزمان والمكان.
واليوم وأنت ترى فى الخَلَفِ من إذا غضب من أخيه بسبب تافه، أو من أجل عرض زائل من أعراض الدنيا الفانية فإنه من غرب تحرقه يُطلق فيه مقاذع الألسنة واصفًا إياه بأبشع الأوصاف ناعته بأقذع النعوت، لا يرقب فيه عدلاً ولا إنصافًا.
ويحزن القلب وتدمع العين عندما نرى ونسمع من يتكلمون ويخوضون بالسَّيئ من القول في علمائنا الأفذاذ ومجددي العصر أمثال الشيخ العلامة الألباني وابن باز وابن العثيمين وغيرهم من علماء السلف، فهذا الخُلق يُذكِّرُنا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إذ قال: "إن بعض الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح" وهذا معناه أن بعض الناس لا تراه إلا منتقدًا دائمًا ينسى حسنات الطوائف والأجناس والأشخاص ويذكر مثالبهم فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج وأحسن علاجه الكي أو الخنق ليذهب ما به من مَسٍّ.
عندما ترى هذا تعرف على الفور لماذا ملك سلفنا الصالح الدنيا والآخرة وفقدناهما؟ ولماذا علوا وتردَّيْنَا؟! ولماذا سادوا واسْتُعْبُدْنَا؟!.
وَإِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت   ***    فَإِن تَوَلَّت مَضَوا في إِثرِها قُدُمًا
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

-----------------------------------
([1]) صحيح: البخاري 3007، مسلم 2494، أبو داود 2650، الترمذي 3305.
([2]) صحيح: البخاري 1468، مسلم 983، أبو داود 1623، الترمذي 3761، النسائي 2464.
([3]) القصة أوردها الذهبي في سيره 3/38، والحديث في مسلم 1828.
([4]) الذهبى، سير أعلام النبلاء 1/544، عبد الرزاق 20642 من طريق معمر عن قتادة وعلى بن زيد بن جدعان قالا:.... وهو منقطع.
([5]) سير الذهبي 4/397، طبقات ابن سعد 5/213، تاريخ ابن عساكر 12/23.
([6]) سير الذهبي 4/402، تاريخ ابن عساكر 15/355، طبقات ابن سعد 5/321.
([7]) البداية والنهاية لابن كثير 10/344 بتصرف.
([8]) سير الذهبي 6/359.
([9])سير الذهبي 20/428، وكذا البداية والنهاية لابن كثير 12/269 بتصرف.
([10]) البداية والنهاية لابن كثير 12/32 بتصرف.

 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية