اطبع هذه الصفحة


حاجة الدعوة إلى البذل والتضحية

عبد الحكيم بن محمد بلال

 
لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها. وإذا عُرف أن ابتلاء الدعاة سنة ماضية تبين أن الدعوة الحقة لا تقوم بلا تضحية.
والمراد بالتضحية: التبرع بالشـيء دون مقابل(1)، كالتضحية بالنفس أو المال أو العمـل أو الـوقت أو الجاه أو الـعلم أو المنصب... أو غير ذلك، حتى يظن الإنسان أن لا حق له فيما زاد على حاجته الـضـروريـــة، فيبذل جهده في تقويم ذلك دون مقابل مادي يناله مكافأة على تبرعه، وإنما يرجو بذلك كله وجه الله ـ تعالى ـ، ونصرة دينه(2).
وهذا المعنى نفسه هو المقصود مــــن الجود والبذل، وإن كان غلب إطلاق الجود على إنفاق المال الكثير، بسهولة من النفس، في الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع كما ينبغي، وهو لا شك من أعظم أبوابه، والمال عماد لكثير من أعمال الخير المتعدية التي لا تقوم إلا به.

إلا أن المراد بالكلمة أوسع من ذلـك؛ فـــإن هذا المعنى جزء من معناها الواسع الذي يشمل المراتب الآتية أيضاً:
1 - الجود بالنفس، وهو أعلى مراتب الجود.
2 - الجود بالرياسة، وامتهانها في سبيل نفع الخلق ودعوتهم.
3 - الجود بالوقت والراحة والنوم واللذة، فيتعب ويسهر ويجهد نفسه.
4 - الـجــــود بـالـعـلـــم وبذله، وهو أفضل من الجود بالمال، ومنه تعليم الناس، وإجابة السائلين بما يشفيهم، وهي زكاة العلم.
5 - الجود بالنفع بالجاه، كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه، وهذا زكاة الجاه.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كخدمة بدنية، وكلمة طيبة، وفكرة نافعة.
7 - الجود بالعِرض، والتصدق على من شتم أو قذف أو اغتاب.
8 - الجود بالصبر والاحتمال وكظم الغيظ. وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن والبشاشة والبسطة. وهو أعظم مما قبله.
10 - الـجـــود بـتـرك مـــا في أيدي الناس، وترك الالتفات إليه والتعرض له بالحال أو اللسان(3).
وهـكـــذا يتاح للفقير أن يضحي بجوانب أخرى تكون الدعوة - في بعض الأحايين - أشد احتياجــــاً إليها من المال، وهذا مما لا يتاح للغني ذي الوفرة من المال الذي تشغله تنمية ماله؛ فإذا تـصـــــدق بشيء منه اكتفى به عن الجود بغيره. ثم للفقير أن ينال مثل أجره بحسن نيته، وصدقه فيها مع الله ـ تعالى ـ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الغني الجواد والفقير المتمني للغنى ليعمل مثل عمله فقال: "فهما في الأجر سواء"(4) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والنية أمر يعلمه الله من القلوب، ولكن من أدلتها الظاهرة الحرص على إنفاق القليل حال الضراء.
وكما يقع الجود من الأفراد فإنه أيضاً يحصل من المجتمعات والدعوات والجماعات.
منزلة الجود والتضحية:
الجود والتضحية شـعـبـة مــن شعب الإيمان، وخير وسيلة لشكر نعم الله التي لا تحصى؛ لأنها استعمال للنعم في محبة الله ـ عـز وجل ـ، كما أن استعمالها في غير الطاعة أو الشح والبخل بها كفران لها.
والأدلة في مدح هذه الخصلة متكاثرة، لكن أبرزها في الدلالة على المقصود تلك الآيات التي تصف الـمـؤمنين بالإنفاق في حالات تعكس قوة يقينهم، واستقرار هذه الصفة في نفوسهم. وإنفاق الـمــال صورة من أبرز صور الجود، لكنها جزء قليل منه. ومن تلك الأدلة: قولـه ـ تعالى ـ: ((ّيٍطًعٌمٍونّ بطَّعّامّ عّلّى" حٍبٌَهٌ)) [الإنسان: 8] أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطـعـــــام؛ ولكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ومثله قوله: ((وآتى المال على حبه)) [البقرة: 177].
- قوله ـ عــز وجـــل ـ في وصف المتقين المسارعين إلى الخيرات: ((الذين ينفقون في السراء والضراء)) [آل عمران: 134] أي: فـي عسرهم ويسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئاً.
ومن اعتاد الإنفاق في الشدة هان عليه في حال الرخاء والسعة. فالإنفاق حال العسر تدريب للنفس على البذل وحب الآخرين، وتحرير لها من سلطان الشح. والمشاهد أن من يـشـــح بالقليل حال فقره يشح بالكثير حال غناه (5).
- قوله ـ تبارك وتعالى ـ: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) [الحشر: 9] وهذا المقام أعلى من الذي قبله ((ويطعمون الطعام على)) [الإنسان: 8]، فإن المحب للمال قد لا يكون محتاجاً ولا مضطراً إليه بخلاف هؤلاء، كفعل الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ لـما تصدق بكل ماله.
والإيثار: أكمل أنواع الجود، ولا يكون إلا من خلق زكي ومحبة لله ـ تعالى ـ مقدمـــة على شهوات النفس ولذاتها.
وفي مقابل الحث على البذل فقد عظم الله ـ عز وجل ـ قبح الشح وشناعته في قوله: ((ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [الحشر: 9]، وهذا يشمل وقايتها من الشح في جميع ما أمر به العبد، فيفـعلـه منشرح الصدر، ويترك النهي ولو دعته نفسه إلى فعله فلا يكون بين هذه النفس وبين الامتثال إلا العلم بالأمر، ووصول المعرفة إليه، والبصيرة بأنه مُرْضٍ لله ـ تعالى ـ، فيحصل الفوز والفلاح(6).
وهذا يوضح أن الشح بشيء مما أوتيه الإنسان ـ وكان في وسعه وطاقته ـ مذموم جداً وسبيل الفلاح ترك الشح، وهو أمر يعني: سماحة النفس وطيبها في فعل أوامر الله ـ تعالى ـ، ونفع الخلق بكل وسيلة متاحة.

تضحيات النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكـثـر الـنــاس جـــوداً كما وصفه بذلك صحابته. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "كان رسول الله صلى الله عـلـيــــه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل لـيـلــة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"(7).
فهو صلى الله عليه وسلم في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وجوده دائم كالريــح المطلقة التي لا تهب إلا بالخير والرحمة دائماً، ونفع جوده يعم الغني والفـقـيـر كـمــا تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه من الأرض الطيبة أو غير الطيبة.
فقد كان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، وهو أسوة الدعاة والمصلحين.
وقـــد كان جوده متنوعاً شاملاً لكل أنواع الجود. ويعجز المرء على وصـف بذله وتضحياته لأجل الله ـ عز وجل ـ وهو أمر لا يخفى يدركه جيداً من تأمل سيرته، وسير سنته، وأكثر النظر فيها،
ولأجل التمثيل فقط أسوق هذه النصوص:
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام شيئاً إلا أعـطــــــاه، قال: "فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محـمــداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة"(8) وصُوَرُ جوده بالمال يضيق عنها المقام، ويكفي أنه أعطى أناساً ألحوا عليه مع أحقية غيرهم خشية أن يسألوه بالفحش، أو يصفوه بالبخل(9)، فما أحرى هذا بالتأمل الطويل!
وعنه قال: "إن كـانـت الأَمَــةُ من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت"(10) فـكــان صلى الله عليه وسلم باذلاً لجــاهــــه ووقته وراحته وماله... في مرضاة الله ـ تعالى ـ ونفع الخلق.
كــان يـمـكـنــه صـلـى الله عـلـيه وسلم أن يحصل غاية ما يريده من الجاه، ونيل الرئاسة والشرف، والتمتع بزهرة الدنيا مــــن النساء وسائـر الملذات، وتحصيل الراحـة والرفاهيـة ورغـد العيش، ولكنه ترك كل ذلك لله ـ عــز وجل ـ وضحى بكل ما آتاه الله ـ عز وجل ـ فبذل نفسه وماله، ووقته وجهده، وجاهه وراحــتـه، وأرخص كل ذلك في سبيل الله.
وقد بدأت معه رحلة المعاناة منذ صعد الصفاة، وأنــذر عشيرته الأقربين، فوصفوه بالسحر والجنون بعد أن كان الصادق الأمين، وأوذي وأصحابـــه أشد الأذى، وابتلوا أعظم البلاء، فصار يعرض نفسه على القبائل في الحج يطلب حمايته ليبلِّغ دين الله، وقصد الطائف لعله يجد بغيته، فرجع مُدمى القدمين طريداً، وحوصر وأصـحــابــه وأنصاره في الشعب ثلاث سنين حتى أكلوا أوراق الشجر من الجوع. ويعاني الصحابة من صـنـوف الــبـلاء وألــــوان الشدائد ما لا يخفى، ويواجه بعضهم الموت كآل ياسر وخباب وبلال.
ويـخـــــرج بعض أصحابه إلى الحبشة طلباً للنصرة، ويصبرون على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان، ويتسامعون بإسلام بعض الصناديد المشركين، فيعود بعضهم إلى مكة ليجدوا أشد مما كانــوا يعانون، ثم يعودون ثانية إلى الحبشة، ومعهم آخرون في رحلة عناء أخرى. ثم يأذن الله بالهـجــرة إلى المدينة، ويهاجر صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه، ثم يكابدون الغربة، وكثرة الأعداء، وأذى المنافقين واليهود، وقتال الأهل والعشيرة.
وقد كان لكثير مــــن أصحابه صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنهم ـ صفحات طويلة من البذل والتضحيات، فـيـهـجر مصعب ـ رضي الله عنه ـ النعيم والدعـة ويهاجر داعية إلى الإســــلام في المدينـــــة، ويـعـرِّض علــي ـ رضي الله عنه ـ نفسه للهلاك بنومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم عشية الهجرة، ويرمي البراء نفسه بين الأعداء في حديقة الموت فيفتح الله للمسلمين بسببه، ويُـعــرِض أبو الدرداء عن التجارة تفرغاً لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتقبل خالد بن الــوليد التنازل عن منصبه طاعة لأمير المؤمنين، ويتنازل أبو عبيدة عن إمرة الجيش لعمرو بن العاص جمعاً لكلمة المسلمين، ويرفض الحسن بن علي الخلافة درءاً للفتنة وجمعاً للكلمة، ويقبِّل عامر بن عبدالله رأس زعيم الروم المشرك ليعتق له أسرى المسلمين...(11).
ولم يخلُ تاريخ النساء العظيم من روائــع بالـجــود والتضحية؛ فقد ضحت أم سلمة بشمل الأسرة، وتحملت فراق الزوج والولد في سبيل الـهـــجـرة، ولا يـخـــفـــى جهــد أسـمــاء وعناؤهــا أثناء الهجــرة، ولا تضحيتها بابنها عبدالله بن الزبير في سبيل نصرة الحق.

لا تقوم الدعوات إلا بالتضحيات:
باستقراء الحقائق، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي:
1- كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها، ودين الإسلام لم ينتشر براحة الأبدان وسلامة النفوس.
2- تـتـسـع الثـغـرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم، وتكثر المجالات الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها
3 - يتزامن مع هذا قلة الموارد، وجفاف المنابع، وضيق ذات الدعاة مما يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج.
4 - هذا الواقع الصـعب يواجه أفراداً ممن عرفوا واجبهم ورأوا خطورة الأمر في حين أنه يحتاج إلى اجتماع الجهود واستعداد كل داعية غيور بالجود والتضحية.
5 - وفي المقابل تزداد جهــود أهل الباطل قوة، وتزداد مخططاتهم دقة، وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب.
ونجد هنا شكوى عمر ـ رضي الله عنه ـ الـمُرَّةَ ماثلةً: "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة"، ولا يرفع هذا الواقع إلا الصدق مع الله، ودليل الصدق الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعـــــوة في وقت كهذا، وهو الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل، وشتان بين من يضـحـي وهو يرى ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله ـ عز وجل ـ: ((لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)).[الحديد: 10].

موانع الجود والتضحية:
إن للتخاذل أســبـابـاً أســـــاسـها ضعف الإيمان، وبرود اليقين، ومردها إهمال التربية أو ضعفها، وإن كان كثير منها يعــود إلى الشح بالمال، لكنها تحتمل وجوهاً أخرى إضافة إلى أسباب أخرى عامة، منها:
1 - طول الأمل.
2 - التفات القـلــب إلى الولد. وهو يقوم مقام طول الأمل عند كثير من الناس؛ لأنه يحمل على الجبن والبخل والحزن، لأن "الولد مجبنة، مبخلة"(12).
3 - فتنة الأزواج.
4 - الركون إلى الدنيا، وكونها الهمَّ والشغل الشاغل، وإيثار الدعة والراحة.
5 - حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال.
6 - حب عين المال، والسعي للغنى والهروب من الفقر بلا نية صالحة.
7 - تزعزع القناعة، والثقة، وسلامة الطريق الذي يسير عليه.
8 - انعدام الجدية، ودنو الهمة، والعجز والكسل.
9 - الانشغال بالتضحية من أجل أهداف ومصالح شخصية.
10 - الـوصــــول إلى بعض الأهداف الدنيوية لنيل شهرة، أو تحصيل جاه أو شرف، أو منصب، يكون نهاية الجهد والعمل(13).
11 - ضعف معرفة الواقع، وضخامة حاجة الدعوة، وجهود الأعداء، أو الجهل بذلك.
12 - الشعور بالأثرة، وحب النفس.
وبعض هذه الأسباب كافٍ في تحطيم الداعية، وتسبيط همته على البذل والتضحية.

بواعث الجود والتضحية:
يحصل بعث النفس على التضحية بأمور هي في حقيقتها علاج للعلل المانعة منها؛ وذلك بالأمور الآتية:
1- دفـــــــع كل علة من العلل السابقة بما يضاد سببها؛ فعلاج حب الشهوات: القناعة والصبر، وعــــــلاج طول الأمل: كثرة ذكر الموت، وعلاج التفات القلب إلى الولد: اليقين بتكفل الله ـ عز وجل ـ برزقــــه ورعايته، وعلاج حب المال: تعميق محبة الله في القلب، ومحاولة بذل القليل إضعافاً لمحبة المال.
2 - معرفة حقيقة الابتلاء بالنعم، وأن لله ـ تعالى ـ في كل نعمة شكراً يليق بها؛ فالصحة لها شكر يناسبها، وكذا الوقت والجاه والقـوة والذكاء والمال، وأن كلاً منها منحة وعطية ورعايــة مــن الله ـ عز وجـل ـ لينظـر الله أعمالنا، ويظهر الشاكر من الكفور.
قال الله ـ عز وجل ـ: ((وهُوَ الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ ورَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [الأنعام: 561].
3 - تذكُّر بعض الحقائق المتصلة بالإنفاق، ومنها:
أ - أن ما قدمه الإنسان فلنفسه، فهو المستفيد منه حقاً.
ب - أن مال الإنسان حقيقة هو ما أنفقه في حياته، أما ما تركه فهو مال الورثة، كما في الحديث(14).
ج - أن إخراج ما زاد على حاجة الإنسان هو الخير له، "يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك..."(15).
د - أنه يمكن للإنسان أن يكفيه القليل من المال، فما حاجته إلى الباقي؟
هـ - أنــه لا حق للعبد في مال زاد عن حاجته في وقت اشتداد الحاجة، كما في الحديث أن النـبـي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له". قال أبو سعيد الخدري: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"(16).
4 - معرفة منزلة الإنفاق وفضله وفوائده، ومنها:
أ - أن الله يُخْلِفُ له ما أنفق، قال ـ تعالى ـ: ((وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) [سبأ: 39] مع أنه في الحقيقة هو الباقي عند الله ـ تعالى ـ في الآخرة.
ب - أنـه ـ عــز وجـل ـ يبارك فيما بقي، ومن أصدق الأدلة المحسوسة: أن الله بارك في أوقات العلماء الصادقـيـن فعملوا ما يصعب تصوره في الحسابات المادية، وبارك في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم؛ فـبـلـغـت مـبـلغاً من النفع والأثر ما لم يخطر لهم على بال مما يكاد ألاَّ يتصوره غيرهم، وقد كانوا عظيمي التضحية بأوقاتهم وعلومهم. قال ـ عز وجل ـ: ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)) [البقرة: 268].
5- مـعـرفــــة واقع المسلمين وحاجاتهم، وخطط الأعداء وجهودهم، والتقصير الحاصل في فروض الكفايـــات، مما يزيد الواجب وجوباً على أهل الكفاية والغنى والمواهب والقدرات.
6 - التعود على تقـديـم القـلـيــــل حال الفقر والحاجة، وبشكل أخص في أوقات الشدائد والأزمات، التي تكثر فيها حاجات الدعوة، وتستدعي مزيداً من التضحيات.

دلائل الجود والتضحية وثمراتهما:
1 - كمال الإيمان: وذلك لأن التضحية شـعـبـة مــن شــعـبـه، يزيد بها الإيمان، وينقص بتركها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله والـيـوم الآخــــر فـلـيـكـــرم ضيفه"(17).
2 - حصول شرف التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أمارة أيضاً على قوة الإيمان لقوله ـ عز وجل ـ: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ َثِيراً)). [ الأحزاب: 21].
3 - عدم الركون إلى الدنيا، والتعلق بالآخرة، وهو طريق سعادة العبد.
4 - تحصيل قناعة القلب وغنى النفس، وهو الغنى الحقيقي؛ لارتباط صاحبه بربه ـ عز وجل ـ.
5 - ضمان الخلف لـمـا أنفق، وحصول البركة لما بقي. وقد جاء في الحديث: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً"(18).
وهو مفهوم القاعدة الـمـشهورة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وأمثلتها في القرآن كثيرة: هجر إبراهيم ـ عليه السلام ـ قومه واعتزالهم فعوضه الله الذرية الصالحة، وضحَّى يوسف ـ عليه السلام ـ بالشهوة فعوضه الله بالملك يتمتع بالمباحات، وضحَّى أهل الكهف بالراحة فعُوِّضوا بالراحة الأعظم، وكانوا سبباً لهداية الضالين، والمهاجرون تركوا أوطانهم وأهلهم فعوضهم الله بالرزق والعز والتمكين، وجمع شملهم بعد فرقة... وهكذا فكل من ترك ما تهواه نفسه وضحى بــــــه لله ـ تعالى ـ، وجاد به في سبيله لرفعه كلمته عوضه الله من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق لذَّات الدنيا كلها(19).
6 - ما يترتب على التضـحـيـة والجهود المبذولة من ثمرات ومنافع وهداية لا تخطر ببال صاحبها، ولا يعلم مداها إلا الله ـ تعالى ـ، مـصـداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مــــن تـبـعـــــه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"(20).
وختاماً: فما دامت الدعوات لا تقوم إلا على التضحيات فقد أدرك كل واحد من الدعاة ما يجب عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


=======
الهوامش :
(1) انظر : المعجم الوسيط، مادة (ضحي) .
(2) والتضحية كما تكون بالبذل تكون أيضاً بالكف والتراجع عن بعض المواقف والمكاسب لتحقيق مكاسب أخرى أكبر وأهم كما سيأتي.
(3) انظر المدارج، 2/279، 282 .
(4) رواه ابن ماجه، ح/ 4228، وانظر صحيح سنن ابن ماجه، ح /3406.
(5) خواطر في الدعوة، للصبّاغ، ص 145.
(6) تفسير السعدي، ص 805.
(7) رواه البخاري ح/ 6.
(8) رواه مسلم، ح/ 1056.
(9) رواه مسلم، ح/1056.
(10) رواه البخاري، ح/ 6072.
(11) وهذه الصور الأخيرة من التضحية تدل على أن التضحية قد تكون بالكف والترك والتراجع عن بعض المواقف، وترك بعض المصالح لكسب مصالح أكبر منها واعظم، وهذا من مواقف الحكمة. ( راجع الرسالة السابقة في الحكمة ).
(12) أخرجه أحمد 4/172، وانظر: صحيح الجامع، ح/7160، 2/ 1202.
(13) راجع الرسالة التاسعة ( الرغبة في الصدارة والتطلع للأمارة ) من هذه الرسائل.
(14) الحديث رواه البخاري، ح/ 2446، وفي آخره: (فإن ماله ما قدم، ومال وُرَّاثه ما أخر).
(15) رواه مسلم، ح/ 1036.
(16) رواه مسلم، ح/ 1354.
(17) رواه البخاري، ح/ 8316.
(18) متفق عليه ( خ/ 142، م/1010).
(19) انظر: مجتنى الفوائد الدعوية والتربوية من مؤلفات السعدي، ص 90.
(20) رواه مسلم، ح/ 2674.

البيان العدد 115 صفر 1420 هـ
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية