اطبع هذه الصفحة


المواجهة العائلية ، وصمود الداعية..

مشاري الراشد

 
لا زال الإسلام يوصينا خيراً بأبنائنا ويدعونا للمثابرة في تربيتهم على قواعد الإسلام وأسسه، يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر". تلك سنة عظيمة، وهي إيحاء مهم بأهمية تربية الأبناء والعناية بهم، ولعل أهم وأجدى ما نؤسس عليه أبناءنا في هذا الزمان هو توفير أسباب الاستقامة لهم، ومنع المفسدات من نخر عظامهم وإلهاب غرائزهم.

ولعل من خير ما يحصل عليه المرء في هذا الزمان، أو الأسرة هو ابن صالح مستقيم، لا يريد سوى رضا ربه ورضا والديه، وتلك الصورة الجليلة هي الصورة التي يتمناها كل مسلم، ويود أن يراه عليها الجميع ويرى الجميع عليها، ولكن لعل في القوم من لم يدرك أهمية الاستقامة والدعوة إلى الله، فألغى من مقياسه وميزانه في محاكمة الآخرين مثقال الصلاح والهداية، ونظر للناس بمنظار آخر ساقـه له ما ألفه وأحبه من الصور الأخرى.

وفي هؤلاء القوم يفتر العزم على هداية الأبناء وتوجيههم نحو الخير والصلاح، ويقل الحرص على إعانتهم في مواصلة درب الاستقامة إن لاحت بشائر ذلك على محيا أبنائهم وأقاربهم، وأحياناً ينتقل الحرص من الإعانة إلى الحرص على التثبيط ومحاولة زعزعة المنطلق في طريق الاستقامة وهز عزيمته، تلك هي إحدى صور الإعاقة المباشرة التي قد تواجه الداعية إلى الله، وفي هذه الصورة صعوبة ومواجهة قوية، فهي غالباً تأتي من أقرب الناس إلى المرء، وفي ذلك من الحرقة والضيم ما الله به عليم؛ فحين يظن إعانة الأقربين له على ما اختاره يواجه نزوة منهم وجفوة، وتكبيتاً وتوهيناً!

ولكن السؤال المهم: لماذا يقف كثير من الأهل هذا الموقف؟ الإجابة طويلة وتحتمل الكثير من الخيارات والاحتمالات، ولعل من أبرزها هو انغماس الوالدين أو أحدهما في أوحال الشهوة والمعصية، ويخشى حين يرى من ابنه استقامة أن يكيل له نصائح التوبيخ والتوجيه، وبالطبع لن يتحمل الوالد من ابنه مثل هذه السلطة، فهو من يجب أن يوجه ويربي، ولكن النفس تأبى أن تتوجه، فدعنا من كل ذلك ودع الابن ينصرف عن هذه الطريق!!

ومن تلك أيضاً ـ وهي أخطرها وأشدها فتكاً ـ: سيطرة الشبهات على عقل الوالدين، ومخالفتهم الفكرية لما قد يحمله الابن من أفكار ومضامين تخالف توجهاتهم، وحينها سوف يتصادم العقلان المفترقان تصادمات قوية، تفرض على أحدهما اتباع الآخر، أو انكفاء الجميع على طريقه والاعتزال المرير، هذه إحدى الصور الكثيرة.

ومن ذلك أيضاً: خوف الوالدين من التشدد الديني الذي يسمعان به ولا يعلمان عنه شيئاً، وبمجرد أن يلوح لهما طيف العباءة المسبغة التي تسبغها الفتاة المستقيمة على جسدها الطاهر من أعلى رأسها وحتى أخمص قدميها، محافظة بذلك على عفافها.. تنفر نفوسهم من هذا الطريق، ويرددون حكايات المتشددين على خوف ووجل.

كل تلك الصور السابقة نسجها الجهل الحقيقي بالاستقامة، وافتقد الكثيرون بسبب انتشار المعاصي والشهوات الشعور الفعلي بأهمية الاستقامة والدعوة ودورهما في تخليص الأمة من هذه الشرور المحدقة.

ولعلنا نهتم بذكر شيء من وسائل المواجهة الموضوعية والمناسبة لهذا العائق الذي ـ للأسف ـ ينتشر كثيراً، ويعاني منه الإخوة والأخوات، فمن تلك الوسائل النافعة:

الصبر واحتساب كل ما يجده المرء من ذلك عند الله عز وجل، وهو طريق الأنبياء ودربهم المورق بأزهار الفلاح، والمونق بتباشير الصباح، وهو نداء الباري جل وعلا: {لتبلونَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}، {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}، {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.

وفي تذكر سير الصالحين تسلية وبهجة، تنسي المرء شيئاً مما يحرق قلبه، وترفع عن كاهله ما أرهقه من الهم، ولنا بذلك أسوة في كتاب الله الكريم حين قص على النبي صلى الله عليه وسلم ما واجهه الأنبياء من قبله من صعوبات وقهر، فقد حكى الله عز وجل لنبيه قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، الذي هدد ابنه بالرجم والطرد، قال تعالى: {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليّاً} [مريم: 46]، وسير الأنبياء تزخر بذلك، وأعظم من أوذي في دعوته هو نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي انتقل في ليلة واحدة من أصدق الصادقين حقاً ـ وهو كذلك بأبي هو وأمي ـ إلى زعم الكافرين الباطل واتهامه بأنه أكذب الكاذبين.

ومن تلك القصص العظيمة الضاربة أطنابها في عرض صور الصبر العجيبة ما واجهته آسية زوجة فرعون، التي أسلمت ورضيت بالمواجهة القاتلة مع فرعون بكل جبروته وقوته وتسلطه، ولكنها رجت أن يبني الله لها بيتاً في الجنة، فأي جزاء أعظم من هذا الجزاء على هذا الصبر؟ وفي قصص الصحابة والصالحين ما يطول بسرده المقام، ونشير للرجوع في ذلك للكتب التي عنيت بجمعها وتحقيقها.

ومما يعين أيضاً على مواجهة هذا العائق: المداومة على الدعاء وطلب التثبيت على هذا الطريق من الله عز وجل، "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (الترمذي، صحيح)، وكذلك أن تدعو لأهلها واخوتها بالهداية والرشاد.

ومن ذلك أيضاً: أن تحرص على نثر المودة والمحبة في بيتها وبين أفراد أسرتها، وأن تمتزج معهم على الخير والمرح؛ كي تدخل إلى قلوبهم وتتمكن منها، وأن تكون عنوان الصدق مع نفسها أولاً ومع الآخرين أيضاًَ، قدوة يحتذى بها لأخلاقها وصدقها، وتحرص على تسنّم دورها المناسب في البيت، والقيام بواجباتها المنزلية والمساعدة في ذلك، وكل ما مضى هو مما ينبذ أسباب الفرقة واختلاف القلوب، والداعية التي تملك قلوب الناس تستطيع التأثير فيهم.

وختاماً: ينبغي للداعية كي تصبر على رمض الطريق وهاجرته، أن تستعين برفقة صالحة تعينها على الصبر وتقدم لها المشورة والعون، وفي ذلك إرشاد من الله عز وجل إذ يقول: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا...} [الكهف: 28].

المصدر لها أون لاين
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية