اطبع هذه الصفحة


30 وقفة في فن الدعوة

الشيخ / عائض بن عبدالله القرني

 
المقدمة

إن الحمد لله ، نحمده ونستغفره ، ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن الدعوة فنُّ يجيده الدعاة الصادقون ، كفنّ البناء للبُناة المهرة ، وفنّ الصناعة للصُّناع الحُذّاق ، وكان لزاماُ على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة ، ويجيدوا إيصالها للنّاس ، لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولا بد للدعاة أن يدرسوا الدعوة ، لوازمها ، ونتائجها ، وأساليبها ، وما يجدّ في الدعوة ، وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير صلى الله عليه وسلم ، فإنهم ورثة الأنبياء والرسل ، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم .
فإذا عُلم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه الداعية فإن ذلك سيؤثر في الأمة ، وسيكون الدعّاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عمّا يحدث من خطأ أو يرتكب من فشل ، بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى برّ الأمان نجت بإذن الله .
لذا فإن على الدعاة آداباً لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رُسُل هِداية ، ومشاعل حقّ وخير ، يؤدون الرسالة كما أرادها الله .


1- الإخلاص في الدعوة :
إن الإخلاص في العمل هو أساس النّجاح فيه ، لذا فإن على الدّعاة الإخلاص في دعوتهم وأن يقصدوا ربهم في عملهم ، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة إلى حُطام فانِ ، ولسان الواحد منهم يقول ( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) الفرقان (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) سبأ .. فلا يطلب الداعي منصباً ، ولا مكاناً ، ولا منزلة ، ولا شهرةً ، بل يريد وجه الواحد الأحد .
( خذوا كلّ دنياكم ، واتركوا فؤادي حرًّا طليقاً غريباً ، فإني أعظم ثروة ، وإن خلتموني وحيداً سليباً ) .

2 – تحديد الهدف :
يجب أن يكون هدف الداعية واضحاً أمامه ، وهو إقامة الدين ، وهيمنة الصّلاح ، وإنهاء أو تقليص الفساد في العالم (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

3 – التحلي بصفات المجاهدين :
الداعية كالمجاهد في سبيل الله ، فكما أن ذاك على ثغر من الثغور ، فهذا على ثغر من الثغور ، وكما أن المجاهد يقاتل أعداء الله ، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشهوات والشبهات ،وإغواء الجيل ، وانحطاط الأمة ، وإيقاعها في حمأة الرذيلة (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) النساء ..
فيجب على الداعية أن يتحلى بما يتحلى به المجاهد وأن يصابر الأعداء فيضرب الرقاب ( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)

4- طلب العلم النافع :
يلزم الداعية أن يطلب العلم النافع الموروث عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم ، ليدعو على بصيرة ، فإن الله قال في محكم تنزيلة : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ....
قال مجاهد : (( البصيرة : أي العلم )) ، وقال غيرة : (( البصيرة : أي الحكمة )) ... وقال آخر : (( البصيرة : التوحيد ))
والحقيقة أن المعاني الثلاثة متداخلة ، ولابد للداعي أن يكون موحداً للواحد الأحد ، لا يخاف إلا من الله ، ولا يرجو إلا الله ، ولا يرهب إلا الله ، ولا يكون أحداً أشدّ حبَّا له من الله – عز وجل .
ولابد أن يكون ذا علم نافع ، وهو علم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم ، ليدعو الناس على بصيرة ، فيحفظ كتاب الله أو ما تيسّر من كتاب الله _ عز وجل _ ويُعنى بالأحاديث عناية فائقة فيخرجها ، ويصحح المصحح منها ، ويضعف الضعيف حتى يثق الناس بعلمه ، ويعلم الناس أنه يحترم أفكارهم ، وأنه يحترم حضورهم ، فيجب أن يحترم الجمهور بأن يحضر لهم علماً نافعاً ، جديداً بناءً ، مرسوماً على منهج أهل السنة والجماعة .
كذلك على الداعية أن يكون حريصاً على أوقاته في حلّه وترحاله ، في إقامته وسفره ، في مجالسه ، فيناقش المسائل ، ويبحث مع طلبة العلم ، ويحترم الكبير ، ويستفيد من ذوي العلم ، ومن ذوي التجربة والعقل .
إذا فعل ذلك سدد الله سهامه ، ونفع بكلامه ، وأقام حجته ، وأقام برهانه .

5 – ألا يعيش المثاليات :
ومما ينبغي على الداعية ألاّ يعيش المثاليات ، وأن يعلم أنه مقصر ، وأن الناس مقصرون , قال سبحانه وتعالى ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ) النور ... فهو الكامل سبحانه وتعالى وحده ، والنقص لنا ، ذهب الله بالكمال ، وأبقى كل النقص لذلك الإنسان ، فما دام أن الإنسان خلق من نقص فعلى الداعية أن يتعامل معه على هذا الاعتبار سواء كانوا رجالاً أو شباباً أو نساءً ، قال سبحانه وتعالى ((إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ ) النجم 32 .
فما دام الله قد أنشأكم من الأرض ، من الطين ، من التُراب ، فأنتم ناقصون لا محالة ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يتعامل مع الناس على أنهم ناقصون ، وعلى أنهم مقصرون ، يرى المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه ، ويأخذ بيده إلى الطريق .
والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس ، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة ، الخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب !!
وهذا خطأ ، خاصة في مثل القرن الخامس عشر الذي لا يوجد فيه محمد صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الأخيار ، وقل أهل العلم ، وكثرت الشبهات !!
وانحدرت علينا البدع من مكان ، وأُغرقنا بالشهوات ، وحاربتنا وسائل مدروسة ، دُرست في مجالس عالمية وراءها الصهيونيه العالمية وأذنابها !!
فحق على العالم وحق على الداعية أن يتعامل مع هذا الجيل ويتوقع منه الخطأ ، ويعلم أن الإنسان سوف يحيد عن الطريق ، فلا يعيش المثاليات .

6 – عدم اليأس من رحمة الله :
يجب على الداعية ألاّ يغضب إن طَرح عليه شاب مشكلته ، وأنه وقع في معصية ، فقد أُتىَ الرسول صلى الله عليه وسلم برجل شرب الخمر وهو من الصحابة أكثر من خمسين مرة !!
ثبت في الصحيح ، فلما أتى به ليقام عليه الحدّ ، قال بعض الصحابة : أخزاه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ! فغضب عليه الصلاة والسلام ، وقال للرجل : (( لا تقل ذلك لا تعن الشيطان عليه ، والذي نفسي بيده ، ما علمتُ إلا أنه يحبّ الله ورسوله )) أخرجه البخاري (12/75 رقم : 6781/6780 )
فما أحسن الحكمة ، وما أعظم التوجيه !!
لذلك نقول دائماً : لا تيأس من الناس مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء ، واعتبر أنهم أمل هذه الأمة ، وأنهم في يوم من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة ، وسوف تراهم صادقين مخلصين ، تائبين متوضئين .
وينبغي على الداعية أن لا ييأس من استجابة الناس ، بل عليه أن يصبر ويثابر ، ويسأل الله لهم الهداية في السجود ، ولا يستعجل عليهم ، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدو إلى (( لا إله إلا الله )) ، فلم ييأس مع كثرة الإيذاء !! ومع كثرة السب !! ومع كثرة الشتم !! واعلم أن ما تتعرض له من صعوبات لا يقارن بما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك صبر وتحمل كل ذلك ولم يغضب ، حتى أتاه ملك الجبال ! فقال له : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (( بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً )) أخرجه البخاري ( 6/312-313 رقم 3231 ) ومسلم ( 3 / 1420 رقم 1795 )
فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة ، فمن صُلب الوليد بن المغيرة : خالد بن الوليد ، ومن صُلب أبي جهل : عكرمة بن أبي جهل .
فما أحسن الطريقة ، وما أحسن ألا ييأس الداعية ، وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد عصيانه إلى إمام مسجد ! أو خطيب ! أو إلى عالم !

من الذي ما أساء قط ! ومن له الحسنى فقط ؟!

من ذا الذي ترضى سجاياه كلها *** كفى المرء نبلاً أن تعدّ معايبه !
تــريــد مهــذّبــاً لا عيــب فيـــــه *** وهـــل عود يفوح بلا دُخـــان ؟!

هذا لا يصلح على منهج الكتاب والسنة .
فلا تقنط من رحمة الله فإن رحمة الله وسعت كل شيء ، وهو الرحمن الرحيم ، الذي يقول في الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي بسند صحيح (( يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أُبالي ، يا ابن آدم ، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً ، لأتيتك بها مغفرة )) أخرجه الترمذي ( 3540 ).
وعلى الداعية ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم وإنما عليه أن يعايش الجميع ، الكبير والصغير ، الصالح والطالح ، والمطيع والعاصي ، ولتعلم أن هذا العاصي قد يكون في يوم من الأيام من رجال الدعوة ، وقد يكون من أولياء الله ، فلا تيأس ، وعليك أن تتدرّج معه ، وأن تأخذ بيده رويداً رويداً ، وألا تجابهه وألا تقاطعه .
جاء وفد ثقيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الدين قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، ولكن أما الصلاة فلا نصلي ! وأما الزكاة فلا نزكي ! ولا نُجاهد في سبيل الله !!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أما الصلاة ، فلا خير في دين لا صلاة فيه )
وأما الصدقة والجهاد فقد فقال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : ( سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) رواه أبو داود
فأسلموا ، فأدخل الله الإيمان في قلوبهم ، فصلوا وزكوا وجاهدوا ، وقتل بعضهم وراء نهر سيحون وجيحون في سبيل الله ! وقُتل بعضهم في قندهار .
فلا ييأس الإنسان من دعوة الناس إلى سبيل الله سبحانه وتعالى ، وليعلم أنهم في مرحلة المراحل سوف يهتدون وسوف يعودون إلى الله سبحانه وتعالى .
فلا تقنط شارب الخمر من توبته إلى الله ، ولا تُقنط السارق ولا الزاني ، ولا القاتل ، بل حببهم إلى الهداية ، وقل لهم هناك ربَّ رحيم ، يقول في محكم التنزيل : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران 135.
قال علي رضي الله عنه وأرضاه : ( الحكيم من لا يُقنط الناس من رحمة الله ، ولا يورطهم في معصية الله ).
ومن آداب الداعية كذلك ألا يهون على الناس المعاصي ، بل يخوفهم من الواحد الأحد ، فيكون في دعوته وسطاً بين الخوف والرجاء ، فإن بعض الدعاة قد يتساهل مع بعض الناس في المعاصي ! كلما أرتكب كبيرة قال : (( سهلة ))! وكلما أُتي بأخطاء قال : (( أمرها بسيط ))!
أفلا يعلم أن هناك ربًّا يغضب إذا انتهكت حدوده ؟! وأن هناك سلطاناً عظيماً على العرش استوى ، لا يرضى أن تُنتهك محارمه ، وقد صح في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم : (( تعجبون من غيرة سعد ؟ والذي نفسي بيده ، إني أغير من سعد ، وإن الله أغير منّي )) أخرجه البخاري ( 13/399 رقم 7416 ) ومسلم ( 2 / 1136 رقم 1499 ) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه .
وقد ورد من صفاته _ سبحانه وتعالى _ كما في الصحيح من حديث ابن مسعود : (( إن الله غيور ، ومن غيرته سبحانه وتعالى أنه يغار على عبده المؤمن أن يزني ، وعلى أمتِه المؤمنة أن تزني )).

7 – عدم الهجوم على الأشخاص بأسمائهم :
من مواصفات الداعية ألا يُهاجم الأشخاص ب؟أسمائهم ، فلا ينبذهم على المنابر بأسمائهم أمام الناس ، بل يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول : (( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا )).
فيعرف صاحب الخطأ خطاه ولكن لا يُشهر به .
أما إن كان هناك رجل جاهر الله بكتاباته أو بانحرافاته أو بأدبه أو ببدعته ، أو بدعوته إلى المجون ، فهذا لا بأس أن يُشهر به عند أهل العلم ، حتى يبين خطره ، فقد شهر أهل العلم بالجهم بن صفوان ، وقال ابن المبارك في الجهم : هذا المجرم الذي قاد الأمة إلى الهاوية ، وابتدع في الدين قال : عجبت لدّجال دعا الناس إلى النار . واشتق أسمه من جهنم ، وشهّروا كذلك بالجعد بن درهم ، وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث ، وحذروا الناس منهم في المجالس العامة والخاصة ، فمثل هؤلاء يُشهر بهم ، أما الذين يُتكتم على أسماءهم فهم أُناس أرادوا الخير فأخطأوا ، وأُناس زلت بهم أقدامهم ، وأُناس أساءوا في مرحلة من المراحل ، فهؤلاء لا تُحاول أن تُظهر أسماءهم في قائمة سوداء فقد يغريهم هذا إلى التمادي في الخطأ ، وقد تأخذهم العزة بالإثم !

8 – الداعية لا يزكي نفسه عند الناس :
على الداعية ألا يُزكي نفسه عند الناس ، بل يعرف أنه مقصر مهما فعل ، ويحمد ربه سبحانه وتعالى أن جعله متحدثاً إلى الناس ، مبلغاً عن رسوله صلى الله عليه وسلم ، فيشكر الله على هذه النعمة ، فإن الله قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً )) وقال له في آخر المطاف بعد أن أدى الرسالة كاملة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ))
قال أهل العلم : أمره أن يستغفر الله
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه ، ويقول : أنا آمركم دائماً وتعصونني ! وأنهاكم ولا تمتثلوا نهيي ! وأنا دائماً ألاحظ عليكم .. وأنا دائماً أرى ، وأنا دائماً أقول ، أو أنا دائماً أُحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها ؟!
فيخرج نفسه من اللوم والعقاب ، وكأنه بريء !! فهذا خطأ . بل بل يجعل الذنب واحداً ، والتقصير واحداً ، فيقول لهم : وقعنا كلنا في هذه المسألة ، وأخطأنا كلنا ، فما نحن إلا أسرة واحدة ، فربما يكون من الجالسين من هو أزكى من الداعية ، ومن هو أحب إلى الله ، وأقرب إليه منه !

9- عدم الإحباط من كثرة الفساد والمفسدين :
فينبغي ألا يصاب الداعية بالإحباط ، وألا يصاب بخيبة أمل ، وهو يرى الألوف المألفة تتجه إلى اللهو ، وإلى اللغو ، والقلة القليلة تتجه إلى الدروس والمحاضرات ، فهذه سنة الله في خلقه ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) الأحزاب
فإن الله ذكر في محكم تنزيله أن أهل المعصية أكثر ، وأن الضلال أكثر وأن المفسدين في الأرض أكثر ، فقال : ((وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ )) سبأ .. وقال : ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ )) الأنعام .. وقال سبحانه وتعالى : ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ )) يوسف . وقال : ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )) يونس .. وقال : ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) الغاشية .. (( لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ )) الأنعام .. (( إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ)) الشورى .. فنحن لا نملك سوطاً ولا عصى ، ولا عذاباً ولا حساباً ، إنما نملك حبّا ودعوة وبسمة ونقود الناس بها إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، فإن أجابوا حمدنا الله ، وإن لم يستجيبوا ورفضوا أوكلنا أمرهم لله الذي يحاسبهم – سبحانه وتعالى .
قال بعض العلماء : ( الكفار في الأرض أكثر من المسلمين ، وأهل البدعة أكثر من أهل ألسنه ، والمخلصون من أهل ألسنه أقل من غير المخلصين )!
ومن صفات الداعية أيضاً أنه يعيش واقع الناس ويقرأ حياتهم ويتعرف على أخبارهم ، وقال – سبحانه وتعالى – لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ )) الأنعام ..
ومن حكمة الله - سبحانه وتعالى – أنه أحيا رسوله أربعين سنة في مكة ، عاش في شعاب مكة ، وفي أودية مكة ، عرف مساربها ومداخلها ، عرف الأطروحات التي وقعت في مكة ، وعرف بيوت أهل مكة ، واعترض الكفار . وقالوا : (( لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ )) الأنعام .. فالله – سبحانه وتعالى – ذكر أنه لا بد أن يكون بشراً ، يعيش آمال الناس ، ويعيش هموم الناس و مشاكلهم ، ويعرف احتياجاتهم .
فحق على الداعية أن يقرأ واقعة ، ويستفيد من مجتمعه ، وأن يعرف ماذا يدور في البلد ؟ وماذا يقال ؟ وما هي القضايا المطروحة ؟ ويتعرف حتى على الباعة ، وعلى أصناف التجار ، وعلى الفلاحين ، وعلى طبقات الناس ، وأن يلوح بطرفه في الأماكن ، وفي مجامع الناس ، وفي الأسواق وفي المحلات ، وفي الجامعات ، وفي الأندية ، حتى يكون صاحب خلفية قوية ، ويتكلم عن واقع يعرفه .
لذا جعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ تاريخ هذا البلد ، وكان بعض العلماء إذا سافروا إلى الخارج يأخذون مذكرات عن البلد ، وعن تاريخه ، وعن جغرافيته ، وعن متنزهاته ، ويتعرفون على طبيعة أهله ، وكيف يعيشون وماذا يحبون ، وماذا يكرهون ؟! ويتعرفون على كيفية التربية في هذا البلد .. حتى يتكلمون عن بصيرة .

10 – عدم المزايدة على كتاب الله :
فإن بعض الوعّاظ والدعاة يحملهم الإشفاق والغيرة على الدين على أن يزيدوا عليه ما ليس فيه ، فتجدهم إذا تكلموا عن معصية جعلوا عقابها أكثر مما جعله الله – عز وجل – حتى إن من يريد أن ينهى عن الدخان وعن شربه يقول مثلاً : ( يا عباد الله ، إن من شرب الدخان حرَّم الله عليه دخول الجنة ، وكان جزاؤه جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ) !!
هذا خطأ ، لأن هناك موازين في الشريعة .. هناك شرك يخرج من الملة . وهناك كبائر ، وهناك صغائر ، وهناك مباحات . قد جعل الله لكل شيء قدراً .
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
فعلى الداعي ألاّ يهول على الناس في جانب العقاب ، كما عليه ألا يهول عليهم في جانب الحسنات كأن يستشهد بالحديث – وهو ضعيف – الذي يقول : ( صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك ) انظر الفوائد المجموعه في الأحاديث الموضوعه للشوكاني رقم 22 .. وحديث – وهو باطل - : ( من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله بني له سبعين قصراً في الجنة ، في كل قصر سبعون حورية ، على كل حورية سبعون وصيفاً ، ويبقى في سبعين من صلاة العصر إلى صلاة المغرب ...)!
فالتهويل ليس بصحيح ، بل يكون الإنسان متزناً في عباراته ، ويعرف أنه يوقع عن رب العالمين ، وينقل عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم .

11 – عدم الاستدلال بالأحاديث الموضوعة :
على الداعية ألاّ يستدل بحديث موضوع إلا على سبيل البيان ، ويعلم أن السنة ممحصة ومنقاة ، وأنها معروضة ، ولذلك لما أوتي بالمصلوب – هذا المجرم الذي وضع أربعة آلاف حديث على محمد صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً – إلى هارون الرشيد ليقتله ، فسلَّ هارون الرشيد عليه السيف ، قال هذا المجرم : اقتلني أو لا تقتلني ، والله لقد وضعت على أمة محمد أربعة آلاف حديث !!
فقال هارون الرشيد : (( ما عليك يا عدو الله يتصدى لها الجهابذة يزيّفونها ، ويخرجونها كابن المبارك ، وأبي إسحاق المروزي )) . فما مرَّ ثلاثة أيام إلا نقاها عبدالله بن المبارك وأخرجها ، وبين أنها موضوعه جميعها .
فالأحاديث الموضوعة – ولله الحمد – مبيَّنه ، ونحذر الدعاة من أن يذكروا للناس حديثاً موضوعاُ ، ولو قالوا إنه في مصلحة الدعوة إلى الله ، فالمصلحة كل المصلحة فيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحاً ، لا في الأحاديث الباطلة كحديث علقمة وما واجه مع أمه ، وحديث ثعلبة والزكاة ، وكأحاديث أُخر بواطل ، وأثرها على الأمة سقيم ، لكن يجوز للداعية أن يبين للناس في محاضرة أو درس أو خطبة الأحاديث الموضوعة حتى يتعرف الناس عليها .
أما الأحاديث الضعيفة فلها شروط ثلاثة للاستدلال بها :
الشرط الأول : ألا يكون ضعيفاً شديد الضعف .
الشرط الثاني : أن تكون القواعد الكلية في الشريعة تسانده وتؤيده .
الشرط الثالث : ألا يكون في الأحكام بل يكون في فضائل الأعمال .
وقد ذكر شيخ الأسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الإمام أحمد أنه قال : (( إذا أتى الحلال والحرام تشددنا ، وإذا أتت الفضائل تساهلنا )) مجمع الفتاوى 18/65 ... وهذا كلام جيد ، ولو أنه غير مجمع عليه .

12 – عدم القدح في الهيئات والمؤسسات والجمعيات والجماعات بأسمائها :
ومما يجب على الداعية ألا يقدح في الهيئات ولا المؤسسات بذكر أسمائها ، وكذلك الجمعيات والجماعات وغيرها .. ولكن عليه أن يُبيّن المنهج الحق ، ويبين الباطل ، فيعرف صاحب الحق أنه محق ، ويعرف صاحب الباطل أنه مُخطئ ، لأنه إذا تعرض للشعوب جملة ، أو للقبائل بأسمائها أو للجمعيات ، أو للمؤسسات ، أو للشركات ، أتى الآلاف من هؤلاء فنفروا منه ، وما استجابوا له .. وتركوا دعوته ، وهذا خطأ .
وفي الأدب المفرد مما يُروى عنه صلى الله عليه وسلم : (( أن من أفرى الفِرَى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها )) أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم 126 وهو صحيح ، أنظر الصحيحة للألباني 2/402 . وهذا خطأ ، فإن من يقول قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة مخطئ ! لأنه ما صدق في ذلك فالتعميم عرضة للخطأ .
ولا بد للداعي أن يكون لبقاً في اختيار عباراته حتى يكسب القلوب ، ولا يُثير عليه الشعب ، فإن الناس يغضبون لقبائلهم ، ويغضبون لشعوبهم ، ويغضبون لشركاتهم ، ويغضبون لمؤسساتهم ، ويغضبون لجمعياتهم .. فلينتبه لهذا ، وعليه ألا يظهر بهالة المستعلي على جمهوره ، وعلى أصحابه وعلى أحبابه ، وعلى إخوانه ، وعلى المدعوين ، وكأن يقول – مثلاً - : أنا قلتُ ، وفعلتُ ، وكتبتُ ، وأرسلتُ ، وغضبتُ ، وألفت !
فإن (( أنا )) من الكلمات التي استخدمها إبليس .
يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد: (( وليحذر من طغيان كلمات : أنا ، ولي ، وعندي ، فان هذه الألفاظ الثلاثة ابتلى بها إبليس وفرعون وقارون ، وقال إبليس : (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )) الأعراف .. وقال فرعون : (( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ )) الزخرف .. وقال قارون : ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) القصص ..))
فاجتنب أنا ، واجتنب لي ، واجتنب عندي .. ولكن تصلح (( أنا )) في مثل : أنا مقصر ، كما قال شيخ الإسلام – رحمه الله - :
أنا الفقير إلى ربّ البريات *** أنا المسكين في مجموع حالاتي
مدح أحد الناس ابن تيميه فقال :
أنا المكدي وابن المكدي *** وهكذا كان أبي وجدي !

فقال : أنا مذنب وأبي مذنب ! وجدي مذنب ! إلى آدم عليه السلام .
فواجب على الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع ، وأن يلتمس الستر من إخوانه ، وأن يبادلهم الشعور ، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح ، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه ، وأفصح منه ، وأصلح منه .
قال بعض السلف : (( الساكت ينتظر الأجر من الله ، والمتكلم ينتظر المقت ، فإن المتكلم خطيء ))

13 – أن يجعل الداعية لكل شيء قدراً :
لا ينبغي للداعية أن يعطي المسألة أكبر من حجمها ، فالدّين مؤسس ، والدينّ مفروغ منه : (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً )) المائدة
فلا يعطى الداعية المسائل أكبر من حجمها ، وكذلك لا يصغر المسائل الكبرى أو يهوّنها عند الناس .. ومن الأمثلة على ذلك :
أن بعض الدعاة يعطي مسألة إعفاء اللحية أكبر من حجمها حتى كأنها التوحيد الذي يخلد به الناس أو يدخل الناس به الجنه ، ويدخل الناس بحلقها النار ويخلدون فيها ! مع العلم أنها من السنن الواجبات ، ومن حلقها فقد ارتكب محرماً ، لكن لا تأخذ حجماً أكبر من حجمها ، وكذلك مسألة إسبال الثياب ، والأكل باليسرى ، وغيرها من المسائل . لا يتركها الداعيه أو يقول إنها قشور فيخطئ ، ولا يعطيها أكبر من حجمها ، فقد جعل الله لكل شئ قدراً .
والحر ميزان ، فعليه أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد تكلم عن التوحيد في جّل أحاديثه ومجالسه ، وأعطى المسائل حجمها حتى لا يُصاب الناس بإحباط .
فإن التربيه الموجهة أن تصف له المسألة السهلة فتكبرها عنده ، وتصغر له المسألة الكبرى
أحياناً يصغر بعض الناس من مسألة السَّحر ، واستخدام السحر ، ويقول هو مذنب ، مع العلم أنه عند الكثير من أهل العلم مخرج من الملة ، وحّد السحر ضربه بالسّيف ، ومع ذلك تجد بعض الدعاة يصغر من مسألة السحر !
وأحياناً يصغر بعض الدعاة كذلك من شأن الحداثة ، والهجوم على الإسلام في بعض الصحف والمجلات والجرائد ، ويقول : هذا ممكن ، هذا أمر محتمل ، المسألة سهلة ويسيرة !! إلى غير ذلك من الأمور .

14 – اللين في الخطاب والشفقة في النصح :
على الداعية أن يكون ليَّنا في الخطاب ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم لين الكلام بشوش الوجه ، وكان صلى الله عليه وسلم متواضعاً محبباً إلى الكبير والصغير ، يقف مع العجوز ويقضي غرضه ، ويأخذ الطفل ويحمله ، ويذهب إلى المريض ويعوده ، ويقف مع الفقير ، ويتحمل جفاء الأعرابي ، ويرحب بالضيف ، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون الذي يصافحه هو الذي يخلع ، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهر حتى ينتهي من حديثه ، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحداً بسوء ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) آل عمران .. فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة !
ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون أطغى الطواغيت ، ويأمرهما باللين معه فيقول : (( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) طه.
فالقول ألين سحر حلال ، قيل لبعض أهل العلم : ما هو السحر الحلال ؟ قال : (( تبسمك في وجوه الرجال )) . وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم : (( حنينون ، لينون ، أيسار بني يسر ، تقول لقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري ))!
فأدعو الدعاة إلى لين الخطاب ، وألا يُظهروا للناس التَّزمُت ولا الغضب ، ولا الفظاظة في الأقوال والأفعال ، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة ، فإنهم حكماء معلمون أتوا رحمة للناس ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) الأنبياء .
فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمة ، وأتباعه رحمة ، وتلاميذه رحمة ، والدعاة إلى منهج الله رحمة ، وعلى الداعية كذلك أن يُثني على أهل الخير ، وأن يُشاور إخوانه ولا يستبد برأيه . والله – سبحانه وتعالى – يقول : ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) آل عمران .. وقوا : (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)) الشورى
فيشاور طلابه في الفصل ، ويشاورا إخوانه ، ويُشاور أهل الخير ممن هم أكبر منه سناً ، ويشاور أهل الدين ، ولا بأس أن يعرض عليهم حتى المسأل الخاصة كي يثقوا به ، ويخلصوا له النصح ، ويكونوا على قرب منه ، ويشاور أهل الحي ، وأهل الحارة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جلب حب الناس بالمشاورة ، فكان يشاورهم حتى في المسائل العظيمة التي تلمّ بالأمة ، كنزوله في يوم بدر ، ومشاورته لأصحابه في الأسرى ( أنظر فتح الباري 13/399باب رقم 28 ) ونحو ذلك من الغنائم وأمثالها من القضايا الكبرى .
فعلى الداعية أن يشاور المجتمع ولا بأس أن يكتب لهم بطاقات ، وأن يطلب آراءهم ، وإذا وجد منهم مجموعه يقول : ما رأيكم يا إخوة في كذا ، وكذا .. فإن رأي الاثنين أفضل من رأي الواحد ، ورأي الثلاثة أفضل من رأي الاثنين ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)) آل عمران .

15 – حسن التعامل مع الناس وحفظ قدرهم :
فعلى الداعية أ ن يُثني على أهل الخير ، ويشكر من قدم له معروفاً ، فإن الداعية إذا أثنى على أهل الخير عرفوا أنه يعرف قدرهم ، وأنه يعرف الجميل ، أما أن تترك صاحب الجميل بلا شكر و المخطئ بلا إدانة وبلا تنبيه ، فكأنك ما فعلت شيئاً !
لا بدّ أن تقول للمحسن أحسنت ، وللمسيء أسأت ، لكن بأدب ، فكبار السن يحبون منك أن تحتفل بهم ، وأن تعرف أن لهم حق سن الشيخوخة ، وأنهم سبقوك في الطاعة ، وأنهم أسلموا قبلك بسنوات ، فتعرف لهم قدرهم .
وكذلك العلماء والقضاة ،وأعيان الناس وشيوخ القبائل .. ونحو ذلك من أهل العلم والفضل ، وأهل المواهب كالشعراء الإسلاميين ، والكتاب الإسلاميين ، ومن لهم بلاء حسن ، والتجار الذين ينفقون في سبيل الله .. فتُظهر لهم المنزلة وتشكرهم على ما قدّموا حتى تحيي في قلوبهم هذا الفعل الخيَّر / كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : (( غفر الله لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر )) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة 1/456 رقم 736 وإسناده ضعيف .. ، (( ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم )) أخرجه الترمذي 3701 وحسنه الألباني في التعليق على المشكاة 3/1713 .. وكان يقول : (( دعوا لي أصحابي )) أخرجه أحمد في مسنده 3/266وصححه الألباني ...يعني أبا بكر الصديق ، وكان صلى الله عليه وسلم يشكر عمر ، ويخبر ما رأى عمر ، وكان يثني على هذا ، ويمدح هذا ، ويشكر هذا ، فإن هذه من أساليب التربية ، وليست من التملك في شيء .

16 – أن يعلن الدعوة للمصلحة ، ويسرَّ بها للمصلحة :
فعلى الداعية أن يعلن الدعوة للمصلحة ، يعلن بها حيث يكون الإعلان طيباً كالمحاظرة العامة ، والموعظة العامة في قرية أو بلدة أو في مدينة ، ولكنه إذا أتى ينصح شخصاً بعينه فعليه أن يسر الدعوة ، فيأخذة على حدة ، ويتلطف له في العبارة ، وينصحه بينه وبينه ، قال الشافعي – رحمه الله :
تغمدني بنصحك في انفرادِ *** وجنبني النصيحة في الجماعه
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي *** فلا تجزع إذا لم تُعط طــــاعـــه
فيقصد أنه إذا خالفتني ونصحت الإنسان أمام الناس فلا تجزع فسوف يجابهك هذا ، وينتقم لنفسه ، وقد تأخذه العزة بالإثم وكم شكى لي بعض الشباب – حفظهم الله – أن بعض الناس قد جابهم في مجتمع من الناس أو انتقدهم فأصابهم من تذمر وانقباض واشمئزاز ! وهذا ليس من المصلحة في شيء .

17 – الإلمام بالقضايا المعاصرة والثقافة الواردة :
على الداعية أن يكون ملماً ومطلعاً على الأطروحات المعاصرة والقضايا الحالية ، ويتعرف على الأفكار الواردة ، فيقرأ الكتابات الواردة ، وليس بصحيح ما قاله بعض الناس حتى من الفضلاء بعدم قراءة كتب الثقافات الواردة ! فإن هذا ليس بصحيح ، فلو لم نقراء هذه الكتب ونطلع على هذه الثقافات ما عرفنا كيف نعيش ؟ وأين نعيش ؟ ولما عرفنا كيف نتعامل مع هؤلاء الناس ؟!.
بل أرى أن على الدعاة أن يقرءوا الصحف والمجلات ، لكن بحيطة وحذر ، حتى لا يصل قليلو الثقافة إلى بعض المجلات الخليعة فتفسد عليهم قلوبهم ، لكن إن أرادوا أن يطلعوا فليطلعوا بانفراد وتأمل ، ليعرفوا أهدافهم ويعالجوا ذلك .
عرفت الشر لا للشرَّ لكن لتلافيه  *** ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه

وقال عمر – رضي الله عنه وأرضاه - : (( إنما تنتقض عُرى الإسلام عروة عروة من أناس ولوا في الإسلام ما عرفوا الجاهلية )).
فالذي لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام !
فحق على الدعاة أن يطلعوا على هذه الثقافات – ما قلت – ومن يجد كتاباً فيه شبهة أو فيه نظر فليعرضه على من هم أعلى منه حتى يكون على بصيرة ، ونخرج بحلُّ إما بتنبيه أو بنصيحة عامة .

18 – مخاطبة الناس على قدر عقولهم :
على الداعية أن يكون حاذقاً ، يخاطب الناس على قدر عقولهم ، فإذا أتى إلى المجتمع القروي تحث بما يهم أهل القريه من مسائلهم التي يعيشونها ،وإذا أتى إلى طلبة العلم في الجامعة حدثهم على قدر عقولهم من الثقافة والوعي . وإذا أتى إلى مستوى تعليمي أدنى تنزل إليهم في مسائلهم وتباطأ ، فإن لكل مسائل .
فمسائل البادية – مثلاُ - : الشرك أو السحر أو الكهانة أو الإخلال بالصلاة أو نحو ذلك .
ومسائل أهل الجامعة - مثلاُ - : الأفكار الواردة من علمنة وإلحاد وحداثة ، وشبهات وشهوات .
ومن مستوى الأدنى من ذلك : الجليس ، بر الوالدين ، حقوق الكبار ، حفظ الوقت ، قراءة القرآن .. ونحو ذلك .
فلا بدّ من مخاطبة الناس على قدر عقولهم ، وعلى قدر مواهبهم ، وعلى قدر استعدادهم ، انظر إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يخاطب معاذ بن جبل بخطاب لا يخاطب به غيره من الأعراب ، فيخاطبه عن العلم ، وعن أثر العلم ، وعن حفظ الله ، وعن حدود الله ، ويخاطب الأعراب عن التوحيد وأنه يقودهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض .. ونحو ذلك .

19 – ألا يسقط عيوبه على الآخرين :
مما ينبغي على الداعية أن يَحذَرَ منه ألاّ ينتقد الآخرين ليرفع من قدر نفسه . (( وهو أسلوب الإسقاط )) كما يُسمّى هذا في التربية .. أن تسقط غيرك لتظهر أنت ، ويفعله بعض الناس من أهل الظهور وحبّ الشهرة – والعياذ بالله من ذلك – وأهل الرياء والسمعة ، فإنه إذا ذكر له عالم قال فيه كذا وكذا !! وإذا ذُكر له داعية ، قال : ما أرضى مسيره في الدعوة !! وإذا ذكر له كاتب انتقده ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه : - سقاه الله من سبيل الجنة - : (( بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح )).
فالذباب يترك البقعة البيضاء في جسمك ، فإذا كنت لابساً ثوباً أبيض وكنت متطيباً ، لا يقع الذباب عليه ! لكن إذا رأى جرح في إصبعك وقع عليه !
وتجد أسلوب الإسقاط هذا عند بعض الناس يقول : شكر الله للداعية فلان كذا وكذا !! لا يترك الاستنقاد ولا يترك الانتقاد ، ولا يترك الاستثناء ، ولا يترك الاستدراك ، حتى يظهر هو كأنه هو الذي لا عيب فيه قط !
وتجد من الأساليب ( المدبلجة ) التي دبلها الشيطان على بعض الدعاة فإنه يأتي – مثلاً – ويدعو في قالب النصح للداعي ، ويريد أن ينتقصه ، فإذا ذكر له داع قال : هداه الله أسأل الله أن يهديه ، فتقول له : لماذا ؟ يقول : أسأل الله أن يهديه ( وكفى ) !
فتعرف أن وراء هذه الدعوة شيء ، وأنه يريد بها شيئاً آخر ، وهذا دعاء لا يؤجر عليه !
قال ابن المبارك : (( رُبَّ مستغفر أذنب في استغفاره ، قالوا : كيف ؟ قال : يُذكر له بعض الصالحين فيقول : أستغفر الله ، ومعناها أنه ينتقد عليه ، فلا يكتب له أجر هذا الاستغفار بل يسجل عليه خطيئة !

20 – أن يتمثل القدوة في نفسه :
على الداعية أن يتمثل القدوة في نفسه ، وأن يسدد ويقارب ، وأن يعلن أن خطأه يتضخَّم ! فالخطأ منه كبير ، وأن الناس ينظرون إليه .
قد هيأوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فإنه أصبح أمامهم كالمرآة كلما وقعت فيها نقطة سوداء صغيرة كبرت وتضخمت ، فليتق الله في هذه الأمة حتى لا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس ، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى ، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء ربما أوجروا عليها .. أخطئوا خطأ واحداً ، ولكن وقع بسببهم عالَم !!
قال بعض الفضلاء : زلة العالمِ زلَّة عالَم !
فعليه أن يدرس القرار قبل أن يتخذه ، وعليه أن يدرس الخطوة التي يُريد أن يخطوها حتى لا يكون عرضة لتوريط كثير من الناس ! وكم جُوبه الإنسان بفتاوى من عامة الناس يستدلون بها بفعل بعض الفضلاء والأخيار ، وهذا خطأ عظيم !

21 – التآلف مع الناس :
ينبغي للداعية أن يتآلف مع الناس بالنفع ، فيقدم لهم نفعاً ، فليست مهمة الداعية فقط أن يلاحقهم بالكلام ! أو يلقي عليهم الخطب والمواعظ ! لكن يفعل كما فعل رسولنا صلى الله عليه وسلم ، يتآلفهم مرة بالهداية ومرة بالزيارة ، ولا بأس بالدعوة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس وآلفهم وأعطاهم وأهدى لهم ، بل كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة ، وكان يأخذ الثياب الجديدة ، وكان يعانق الإنسان ويجلسه مكانه ، فهذا من التآلف .
وليست هناك صعوبة لتأليف كثير من الناس ، وردهم إلى الله - عز وجل – مثل تأليف كثير من الشباب العصاة .. إذا رأيت شاباً عاصياً وعلمته ، أو وجدت شاباً لا يستطيع الزواج ودفعت له المهر أو شيئاً من المهر ، وقلت له أن يصحبك لصلاة الجماعة ، وأن يعود إلى الله وأن يتوب .
أن تتآلف إنساناً تراه – مثلاً – مدمناً للمخدرات بشيء من المال بشرط أن يتركها ويجتنبها وهكذا .

22 – أن يكون عند الداعية ولاء و براء نسبي :
ينبغي على الداعية أن يكون عنده ولاء وبراء نسبي ، حُبّ وبغض ، على حسب طاعة الناس ، وعلى حسب معصيتهم ، ولا تحب حباً مطلقاً لمن فيه طاعة ، ولا تبغض بغضاً مطلقاً لمن فيه معصية ، ولكن تحب الإنسان على قدر طاعته وحبه لله ، وتبغضه على قدر معصيته ومخالفته لله ، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض ، تحبه لأنه يحافظ على صلاة الجماعة ، وتبغضه لأنه يغتاب الناس !
تحب شخصاً آخر لأنه يعفي لحيته ، وتبغضه لأنه يسبل ثوبه ، فيجتمع في الشخص الواحد حب وطاعة !

23 – أن يكون الداعية اجتماعياً :
على الداعية أن يشارك الناس أحزانهم ، ويحل مشكلاتهم ، ويزور مرضاهم ، فالانقطاع عن الناس ليس بصحيح ، فإن الناس إذا شعروا أنك معهم تشاركهم أحزانهم وأتراحهم تعيش مشكلاتهم ، أحبوك ، ولذلك أقترح على الدعاة أن يحضروا حفلات الزواج ، وقد يتعذر أحياناً عن عدم حضور حفلات الزواج لما عنده من إرهاق ، فلا يعني ذلك أنه لا يحب المشاركة ، لكن يحضر الزواج ، فيبارك للعريس ، ويبارك لأهل البيت ، ويفرح معهم ، ويقدم الخدمات ، ويرونه متكلماً في صدر المجلس ، يرحب بضيوفهم معهم ، فيحبونه كثيراً .
وأقترح أن يقدم الدعاة أطروحات لمن أراد أن يتزوج ويقولون له : نريد أن نساعدك وأن نعينك ، فماذا ترى وماذا تقترح علينا لنقدم لك ما يُساعدك على ذلك ؟ وكذلك إذا سمع بموت ميت ، أن يذهب إلى أهله ويواسيهم ويسليهم ، ويلقي عليهم الموعظة .
كيف يراك الناس تدعوهم يوم الجمعة ، ثم لا يرونك في أفراحهم أو في أحزانهم ؟!
وكذلك تساهم في حل مشكلاتهم ، فالداعية مصلح ، وحينئذٍ يكسب ود الناس ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تأخر عن صلاة الظهر مرة كما ورد في البخاري لأنه ذهب إلى بني عمر ابن عوف يحل مشكلاتهم ، ويصلح فيما بينهم .
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض ، حتى من الأعراب البدو في طرف المدينة ، ذهب بأصحابه يزوره !
وهذا من أعظم ما يمكن أن يحبب الداعية في نفوس الناس .

24 – مراعاة التدرج في الدعوة :
كذلك ينبغي للداعية أن يتدرج في دعوته ، فيبداء بكبار المسائل قبل صغارها ، فلا يُقحم المسائل إقحاماً ، فبعض الدعاة يذهبون إلى أماكن البادية في بعض القرى فيريد أن يصب لهم الإسلام في خطبة جمعة واحدة !
وما هكذا تعرض المسائل !!
عليك أن تأخذ مسألة واحدة تعرضها عليهم ، وتدرسها معهم كمسألة التوحيد ، أو مسألة المحافظة على الصلوات ، أو مسألة الحجاب ، أما أن تذكر لهم في خطبة واحدة أو في درس واحد مسائل التوحيد ، والشرك ، والسحر ، والحجاب ، والمحافظة على الصلاة ، وحق الجار ، فإنهم لا يمكن أن يحفظوا شيئاً .
أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا تورد يا سعد الإبل
يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن ، يقول له : (( أوّل ما تدعوهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن الله فرض عليم خمس صلوات في اليوم والليلة )).
هكذا يعرض الداعية ، لا تأتي إلى ناس لا يصلون وتطالبهم بتربية اللحى !! فماذا ينفع في الإسلام أن يربي الناس لحاهم ، وهم لا يصلون ؟!
وكذلك لا تطالبهم بصغار المسائل حتى تخرج أنت وإياهم على مسائل كبرى ، تتفقون على قدر مشترك ، وتحاول بأساليب مختلفة .. مرة بالموعظة ، ومرة بالخطبة ، ومرة بالرسالة ، ومرة بالندوة ، ومرة بالأمسية ، حتى تسلك السبل كافة
فإن بعض الناس قد يتأثر بخطبة الجمعة ولا يتأثر بالدرس ، وبعضهم على العكس من ذلك ، وأحياناً يكتب لهم رسالة ، وأحياناً يتصل بهم بالهاتف ، وأحياناً يرسل لهم بعض الدعاة . فأرى أن تجديد الأسلوب مطلوب في عصر جُدّدت فيه أساليب الباطل !
والله يُخبر عن أهل الباطل أنهم أكثر مالاً ، وأكثر أنفاقاً ، وأكثر وسائل ، قال : (( فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ )) الأنفال .
لذلك لا ييأس الإنسان من قلة وسائله ، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب – إمبراطورية كسرى وإمبراطورية قيصر – يملكون كل الإمكانيات الضخمة ، ومع ذلك كان هو في بيته المبني من الطين وبوسائله البسيطة ، ولكن مع الإخلاص والصدق بلغه الله ما تمنى ، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها !

25 – أن يُنزل الناس منازلهم :
كذلك ينبغي على الداعية أن ينزل الناس منازلهم ، فلا يجعل الناس سواسيه ، فالعالم له منزلة ، والمعلم له منزلة ، والقاضي له منزلة ، وهكذا : (( قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ )) البقرة .. فليس الناس عنده في منزلة واحدة .
وهذا ليس نوعاً من التفريق أو التمييز العنصري ، بل هذا من أدب الإسلام . يختلف لقاء هذا عن ذاك ، وتختلف نزلة هذا عن ذاك ، وبعضهم لا يرضى إلا بصدر المجلس ، وبعضهم لو عانقته يكون له عناق مختلف ، وبعضهم له عناق آخر !
فإنزال الناس منازلهم من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى الداعية في تعامله مع الناس ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان ينزل الناس منازلهم ، كما جاء في صحيح مسلم ورواه مسنداً أبو داود ، وهو صحيح من كلام عائشة .

26 – أن يُحاسب نفسه وأن يبتهل إلى الله :
على الداعية - أيضاً – أن يُحاسب نفسه محكّماً في ذلك قوله ، فيسمع لقوله إذا قال ، ويُحاسب نفسه على عمله ! هل هو ينفذ ما يقول أم لا ؟ وهل يطبق ما أمر به أم لا ؟ . ثم يسأل ربه العون والسداد ، وعليه أن يبتهل إلى الله في أول كل كلمة ، وأول كل درس ، ويسأل الله – عز وجل – أن يُسدده ، وأن يفتح عليه ، وأن يهديه .
ومما يؤثر في ذلك ، ما ورد في الحديث (( اللهم بك أصول ، وبك أجول ، وبك أحاول )).
وكان من العلماء إذا أرادوا أن يدرسوا الناس سألو الله بهذا الدعاء ، وبعضهم كان يقول : (( اللهم افتح علي من فتوحاتك )) وبعضهم يقول : (( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك )) .
فإن الإنسان لو اعتمد على قدراته وإمكاناته وذاكرته وصوته تقطعت به السُبل ، فليس لنا معين إلا الله .
فعلى الداعية إذا أراد أن يصعد المنبر يوم الجمعة أن يبتهل إلى الله أن يسدد كلماته وعباراته ، وأن يهديه سواء السبيل ، وأن ينفع بكلامه ، وأن يلهمه رشده ، فإنه لو شاء الله – عز وجل – ما استطاع أن يواصل ، ولو شاء الله – سبحانه وتعالى – خانته العبارة ، أو أتى بعبارة ربما تورطه ، وتورط الناس معه ! أو أتى بعبارة خاطئة تخالف الدين ! فعليه أن يسأل الله السداد والثبات ، فإن من يسدده الله – سبحانه وتعالى – فهو المسدد ، ومن خذله الله فهو المخذول .

27 – أن يكون متميزاً في عباداته :
فيجب أن يكون للداعية نوافل من العبادات ، وأوراد من الأذكار والأدعية ، فلا يكون عادياً مثل سائر الناس ، بل يكون له تميز خاص ، يحافظ على الدعاء بعد الفجر ، والدعاء بعد الغروب ، حتى يحفظه الله – سبحانه وتعالى – ويكون له وقت إشراق مع نفسه ، يحاسب نفسه بدعاء وبكلمات مباركة بعد الفجر ، ويكون له ورداً يومي بعيداً عن أعين الناس ، يقرأ فيه كثير من القرآن ، ويتدبر أموره ، ويكون له مطالعة في تراجم السلف ، لأن كثرة الخلطة مع الناس تُعمي القلب ، وتجعل الإنسان مشوش الذهن ، وقد يقسو قلبه بسبب ذلك ، فلا بد من العزلة ، أو ساعه من الساعات أو بعض الأوقات في اليوم والليلة ، يعتزل وحده فلا يجلس مع زائر ، ولا يلتقي بأحد ، ولا يتصل بهاتف ، ولا يقرأ إلا ما ينفعه ، ثم يحاسب نفسه على ذلك .

28 – أن يتقلل من الدنيا ويستعد للموت :
على الداعية أن يتفكر في الارتحال من هذه الدنيا ، ويدرك أنه قريب سوف يرتحل ، وأن الأجل محتوم ! سوف يوافيه ، فلا يغتر بكثرة الجموع ، ولا بكثرة إقبال الناس ، فإن الله يقول : (( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً)) مريم .
ويعلم أنه سوف يموت وحده ! ويُحشر وحده ! ويُقبر وحده ! وأن الله سوف سأله عن كل كلمة قالها ، فيتأمل : لماذا يدعو ؟ ولماذا يتكلم ؟ وبماذا يقول ؟ ولماذا ينطق ؟ حتى يكون على بصيرة .
كذلك على الداعية أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه ، فخير الأمور أوسطها ، يسكن كما يسكن أواسط الناس ، ويلبس كما يلبس أواسط الناس ، مع العلم أن هناك حيثيات قد تخفى على كثر من الناس .

29 – أن يكون حسن المظهر :
بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء ! أو يلبس لباساً من أوضع اللباس ! وهذا ليس بصحيح ، فإن الله – عز وجل – قد أحل الطيبات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل بقوله : (( تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس ))
وقال : (( إن الله جميل يحب الجمال )) أخرجه أبو داود 4089
وقد يكون من المطلوب أن يكون الداعية متجملاً ، متطيباً ، ويكون مجلسه وسيعاً ، يستقبل فيه الأخيار البررة ، وأن يكون له مركب طيب ، فإن هذا لا يعارض سنة الله – عز وجل – ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل عليه كذلك أن يكون له في كل حالة بما يُناسبها .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتني بذلك ، في صلاة الاستسقاء خرج في لباس متبذل قديم يظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله – عز وجل – ولكنه في الأعياد لبس بُردة تساوي ألف دينار ، خرج بها أمام الناس ، أهديت له قيمتها مائة ناقة !
فيجب أن يلبس لكل حالة لبوساً ، إما نعيمها ، وإما بؤسها .. ف‘نه من الإجحاف أن يُطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت طين في هذا العصر الذي ما تبنى فيه البيوت إلا الفلل !! وإنه لمن الإجحاف كذلك أن نُطالب الدعاة أن يجلسوا على الخصف ، ويجلس الناس على الكنب الوثير ! أو أن نُطالب الداعية أن يلبس لباساً ممزقاً قديماً ! أو يكتفي بثوب واحد طوال السنة ! مع العلم أن الله واسع عليم ، وأن الله يحب أثر نعمته على عبده .
ولكن على الداعية ألا يتشاغل بالدنيا تشاغلاً يعميه عن طريقه ، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة ، أو بعض المشايخ ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنيه ، له من المؤسسات وله من الشركات ، وله من الدور ، ما يشغله عن الدعوة !
لا نعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة ، وأن يكون لهم مشاريع في الارض ، وأن يكون لهم دخل ، فهذا مطلوب ، كما فعل عثمان وابن عوف ، وغيرهم من الصحابة ، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقتاً في هذه الأمور .. فتجده دائماً في مكاتب العقارات في البيع والشراء ، في السندات ، مع الشيكات ، ويترك الأمة للمهلكات ! هذا ليس بصحيح ، وهذا مخجل ، فإن الله – عز وجل – استخدمك في أحسن طاعة .
وكذلك يجب على الداعية أن يهتم بمظهره الشخصي ، وأن تكون حليته إيمانية ، وأن يظهر عليه الوقار والسكينة ، وأن يلبس لباس أهل الخير ، وأهل العلم ، فإن لكل قوم لباساً ، ويمشي مشية أهل العلم ، ويكون مظهره جميلاً ، ويعتني بخصال الفطرة ، كالسواك وتقليم الأظافر ، وأن يكون متطيباً ، محافظاً على الغسل ، يحافظ على مظهره .. حتى يمثل الدعوة تمثيلاً طيباً أمام الناس .
أن يكون للدعاية شخصيته المستقلة :
إن على الداعية ألا يتقمص شخصية غيره ، وألا يذوب ذوباناً في بعض الشخصيات ، فتجد بعض الدعاة إذا أحب داعية آخر ، أو عالماً آخر قلده في كل شيء حتى في صوته ! وحتى في مشيته ! وحتى في حركاته ! فذاب في شخصية ذاك !
ويُروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : (( لا يكن أحدكم إمعة ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساءوا أسأت )) أخرجه الترمذي 2007 من حديث حذيفه وإسناده ضعيف .
ولكن إن أحسن الناس فأحسن وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم ، فذوبان الشخصية ليس مطلوباً للداعية .
فإن عليك أن تستقل بشخصيتك ، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك ، وأن الأرض ما تستطيع - بإذن الله عز وجل - أن تخرج واحداً مثلك ، فأنت من بين الملاين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك ، صوتك لا يشابهك فيه أحد ، وملامح جسمك واستعدادك ، وما عندك من مواهب ، كل هذه تختلف فيها عن غيرك ، وقد كانت العرب تكره أن يتقمص الإنسان شخصية غيره .
قالوا عن الطاووس : إنه أراد أن يقلد الغراب في مشيته فنسي مشيته ، وما ستطاع أن يقلد مشيت الغراب !!
وهذا ينطبق على القراء .. فإن القارئ يريد أن يقلد قارئً آخر فيتعب فلا أحسن صوت ذاك ولا أسمع صوته المعهود الذي منحه الله – عز وجل – إلا إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفه ، وصوته جميل مثل صوت ذاك ، فلا بأس إنشاء الله .
فينبغي أن تكون للداعية شخصيته المستقلة ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، كلاٌ على حسب شخصيته ، فأثنى على قوة عمر فقال : (( مثلك يا عمر كمثل نوح وكمثل موسى )) وأثنى على أبي بكر في رقته ، فقال : (( ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم وكمثل عيسى عليهم السلام )). فالقوي يبقى على قوته لكن فيما ينصر به الدين .
والإسلام بحاجة إلى من هو قوي في رأيه وإرادته ، وفي حاجة لمن هو رقيق رحيم ، فإن هذا له باب ، وهذا لهُ باب ، كما نحتاج إلى طاقات الناس قد سلف معنا كثيراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوع اختصاصات الناس وجعلهم على جبهات بسبب مواهبهم ، فسيد القراء أبي بن كعب ، وحسان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن ثابت أفرض الناس ، وأبو بكر له مهمة الإدارة ، وعمر لهُ مهمة القوة والصرامة والحزم ، وقس على ذلك .

30 – أن يهتم بأمور النساء :
كذلك على الداعية أن يهتم بجانب النساء ، بعالم النساء ، فلا يغفل هذا الجانب بكلامه ، ولا في محاضراته ، لأنهن نصف المجتمع ، وكل ما في هذا الكتيب إنما هو موجه إلى المرأة المسلمة أيضاً .

نسأل الله سبحانه وتعالى- أن يرضى عنا ، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال ، وأن يتولانا فيماً تولى ،وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .

عائض بن عبدالله القرني

احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد
 

زاد الـداعيـة
  • شحذ الهمم
  • زاد الخطيب
  • فن الحوار
  • فن الدعوة
  • أفكار إدارية
  • معوقات ومشكلات
  • رسائل ومقالات
  • من أثر الدعاة
  • الصفحة الرئيسية