اطبع هذه الصفحة


رسالة عاجلة للدعاة

 
الاستلاب الفكري

ليس أضر على الأمة الإسلامية من تأجير العقول وتجيير الأفهام، ولقد ذم الله سبحانه وتعالى قوم فرعون بقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}(1).
وهذا الاستخفاف نوع من أنواع الاستلاب الذي قاده إلى القول:
{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىَ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ}(2).
أيها الإخوة؛ لا غرابة في هذه المقدمة ـ وإن كانت قاسية ـ فالقرآن كلُّه فوائد وعبر، ولقد قال الرسول ‘ لصحابته الأخيار عند موته: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد الله ورسوله)) رواه البخاري، هذا هو خطاب الناصحين المشفقين حتى لو كان قاسيًا.
وإننا في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وضلت فيه الأفهام، وزلت فيه الأقدام، بدأنا نشم رائحة الاستلاب تزكم الأنوف وترهق الأجيال في زمن قل فيه الرجال.

وإليكم بعض الممارسات الاستلابية:
- أصبح كثير من الشباب لا يفكر بعقله بل بعقل غيره، ويطبق ما يراه الغير لا ما يدين الله به.
- بعض المربين يمارس الاستلاب عن طريق توجيه الأوامر غير القابلة للنقاش.
- البعض ليس لـه حق الانتقاد ولا حتى المشاركة في تحقيق واقع أفضل فهذا محرم عليه.
- بعض طلبة العلم والمربين يلزم طلابه بالاطلاع على ما يغذي التوجه الخاص بهم دون الاطلاع على الرأي الآخر المختلف أو حتى المتنوع.

ثم إن هناك إفرازات سيئة في الواقع بسبب هذا الاستلاب، ومنها:
1- ظهور الولاء الخاص دون الولاء العام:
لا أحد ينكر أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله؛ إذ أن هذا الميزان الرباني هو الأمر الذي سار عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم اقتداءً بالنبي ‘ وخلفائه الراشدين، إن انتشار الولاء الخاص دون الولاء العام أصبح ظاهرة لا يمكن تجاهلها، وهي في ازدياد وتوسع، إلا أن يتداركها العقلاء والناصحون.
يقول الشيخ سلمان في مقاله (الأمة الواحدة):
(وقد رأيت بعض الإخوة من جراء انغماسهم في الولاء الخاص عن الولاء العام يضخمون ويبالغون في بعض الوارد، فليس من الفقه فيما يبدو لي الحرص على التميز عن جمهور المسلمين بمعنى معين لذات التميز؛ لأن هذا النوع من العلو أو التفوق عليهم أو طلب الرياسة فيهم، وإنما يتميز الإنسان بسنة أهملوها فيعمل بها أو بتقصير شاع عند الناس فيتخلى عنه، أو بعمل خير عمله وقصد أن يقتدي الناس به وهذا باب واسع وبين هذا وذاك فرق ليس يخفى).
وإليك بعض صور الولاء الخاص دون الولاء العام:
1- أن يحب أحدهم فلان من الناس لأنه يوافقه في المنهج والفكرة حتى وإن كان مقصرًا في جانب من جوانب الطاعة، ولا يحب الشخص الآخر وإن كان تقيًا لأنه يخالفه المنهج، فما هو معيار المحبة يا ترى؟!
2- أن يجد الراحة في الصلاة خلف إمام يعرفه ويتفق معه في المنهج بينما لا يصلي خلف إمام آخر ولا يرتاح لذلك حتى ولو كان حافظًا لكتاب الله.
3- أصبح حضور المحاضرات حسب الولاء الخاص وتكثير السواد عند البعض بغض النظر عن استصحاب النيَّة، أو طلب العلم، وهل هذا المحاضر مؤهل أم لا، المهم الحضور وتكثير السواد بسبب الولاء الخاص.
4- ظهور الخلاف والفرقة في بعض الأسر بين الأشقاء بسبب الولاءات الخاصة، ولا شك أن هذا الأمر خطير، فإن الدعوة المباركة لا تفرق بين الإخوة والأقارب بل تجمعهم.

2- الأجيال بين مطرقة التدجين وسندان الاستنساخ:
إن من أخطر آثار الاستلاب هو تدجين شرائح من المدعوين الذين لا يملكون شيئًا من مقومات الشخصية، بينما في الطرف الآخر يتم استنساخ نماذج من الأشخاص المؤثرين حتى يستمر ذلك الخط الدعوي المؤدلج على نفس الوتيرة.
إن خطورة هذه الأساليب تكمن في أن أجيال ستظل وقفًا لفكرة جامدة ترفض التغيير وتقاوم التجديد، بل وتخلق كثيرًا من المشاحنات والمشاكل التي لن تتوقف ما دام أن هذه الأساليب مستمرة.
ناهيك عن انتهاكات أخرى كسلب الحريات وقتل المواهب وظهور الإمعة، قال ‘: ((لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا))(3).

3- تقديس الأشخاص:
إن الإفراز الطبيعي للاستلاب الفكري هو ذلك التقديس الذي يلقاه من يمارس هذا الأسلوب، هذا الواقع بدأ ظاهرًا في ساحة كثير من الشباب وأصبح شعار البعض المقولة المشهورة: (إن كنت معي فأنت قديس، وإن كنت ضدي فأنت أبليس).
وهذا لا شك مخالف لمنهج محمد ‘ الذي قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم))، ولمسيرة خلفائه الراشدين؛ كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم)، إن مما يميز الأمة الإسلامية عن غيرها هو عدم وجود سلطة كهنوتية أو رجال دين، فالجميع سواسية ولا يكون تمايزهم إلا بالتقوى، فهذا الأعرابي يوقف عمر يسأله، وتلك خولة توقف عمر في الطريق تناصحه، وتقول: اتَّقِ اللهَ يا عمر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر)!!
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: (إن الواجب على الداعية الإسلامي أ ن يدعو إلى الإسلام كلِّه ولا يفرق بين الناس، وأن لا يكون لمذهب دون مذهب أو لقبيلة دون قبيلة أو لشيخه أو رئيسه أو غير ذلك؛ بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه واستقامة الناس عليه، وإن خالف رأي فلان أو فلان)(4).
ويقول الشيخ أحمد الصويان: (إن التحرر من تقديس الذوات والأبنية الحزبية والتخلص من آسارها، يفتح أمام الناس آفاقًا رحبة من العطاء الفكري والمعرفي، ويدفعه إلى الإبداع المتميز والإنجاز المستمر بعيدًا عن الصراعات الكلامية والمحاورات البيزنطية)(5).

وليس من نافلة القول الإشارة إلى منزلة أقل من التقديس ألا وهي مجاملة المربين.. إن هناك فرق بين تقدير المربين واحترامهم وبين مجاملتهم على حساب الحق والدين، وإن أسباب المجاملة ترجع إلى أمرين في ظني ـ والله تعالى أعلم ـ :
1- أن يكون هذا الداعية المربي ممن يوزع المناصب الدعوية في حيزه الضيق، فيسكت البعض حتى ينال حظوة دعوية وحتى لا يفقد المنزلة التي هو فيها التي ملكت عليه حياته، فهل نضحي بالمبادئ لأجل المناصب؟ وهل نسكت عن قول الحق لأجل مصالحنا الشخصية؟
2- أن يكون عند هذا الداعية المربي شيء يسير من مفاتيح الدنيا الفانية، عندها يفضل البعض السكوت عن الأخطاء ويجامله لكي يستفيد.. (وللبيت رب يحميه).
أما من قال كلمة الحق أو حاول أن يوضح بعض الممارسات الخاطئة فإن البعض ربما يهجره أو ربما يحذِّر منه أو يشكك فيه بحيث لا تستوعبه المجالس ويرمى بنظرات أشد من السهام وما ذنبه إلا أنه قال (لِمَ).
يذكر أحد المريدين رأى في المنام أنه يقول لشيخه الصوفي لِمَ، فلما أصبح ذكر هذا الحلم لشيخه، فغضب الشيخ فهجره شهرًا.
عافانا الله وإياكم من هذه الأساليب.
يقول الشيخ أحمد الصويان: (ولن نكون كذلك إلا حينما يكون ولاؤنا للمنهج الرباني الكريم مقدمًا على ولائنا للرجال والفئات، ومن أهم أسباب الفشل المتكرر الذي تعاني منه الأمة، وأن نضع رؤوسنا في الرمال ونتغافل عن أخطائنا، إننا لسنا في حاجة إلى الثناء والمديح وتعميق الغثائية ونشرها، والخضوع لسلطان الهوى والاستسلام لتبادل المجاملات التي تؤدي إلى الإنهاك الفكري! ولكننا في حاجة ماسة إلى كلمة صادقة ومكاشفة مخلصة تتجلى فيها علامات الرحمة وآيات المحبة والإخاء والرغبة الجادة لتسديد الخلل ودرء النقص للوصول بالعمل الإسلامي إلى مرحلة النضوج والتكامل)(6).

أيها الدعاة..
هلمَّ بنا إلى المنبع الصافي والمنهج القويم لنعد إلى سيرة المصطفى ‘ وجيله الفريد، لننهل من ذلك المعين لنتجاوز في طريقنا المناهج الجديدة والأسماء والأفكار التي أثقلت كواهل الأمة وفرقت شبابها..
لا أقول نتركها.. ولكن نأخذ ما وافق المنهج النبوي ونترك ما شذ عن السبيل المبين.

------------------
([1])  الزخرف.
([2])  غافر.
([3])  رواه الترمذي.
([4])  ابن باز الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، 52.
([5])  أحمد الصويان، نحو منهاج شرعي في تلقي الأخبار وروايتها، ص140.
([6])  أحمد الصويان، نحو منهج شرعي في تلقي الأخبار وروايتها، 140.

تابع الرسالة
 

خالد السبيعي
  • مقالات دعوية
  • رسالة للدعاة
  • في كل بيت راق
  • الصفحة الرئيسية