اطبع هذه الصفحة


ملامح تخاطبية عند الأصوليين[1]

د.علاء إسماعيل الحمزاوي


نظرية التخاطب pragmatics [2]  ـ بإيجاز ـ هي نظرية لغوية غربية معاصرة تُعنى بتحليل الخطاب (النص) في ضوء مراد المتكلم ومقصده؛ فهي تعتمد على "القصدية والمرادية" في الخطاب؛ انطلاقا من أن المؤلف له أهمية كبيرة في تفسير النص؛ فلا يمكن تجاهله، فهو المنتج والمبدع والمالك الحقيقي؛ ومن ثم فهو يشكل مرآة لنصه من عدة نواح: نفسية واجتماعية وتاريخية وسياسية، وغير ذلك، وهي نظرية تضاد نظرية "موت المؤلف" التي تعنى بتحليل النص بمعزل عن المؤلف[3].

ومن أبرز الملامح التخاطبية عند الأصوليين:

ـ النظرة الشمولية للنص، فهي من سمات المنهج التخاطبي، وهي محققة عند الأصوليين؛ إذ يرون أن نصوص القرآن والسنة ينبغي أن تعامل على أنها نص واحد مترابط أجزاؤه، وينبغي ألا يفسر نصّ بمعزل عن بقية النصوص التي تتناول الموضوع، فمثلا قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً﴾ لا يفسر بمعزل عن قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾، وقد استنتج الفقهاء أن مدة الحمل تصلح ستة أشهر، ومن حق الأب أن ينكر المولود إذا كان حمله أقل من ذلك.
ـ الفهم السليم للنص ـ الخطاب ـ لا يقاس بفهم معنى الجمل فقط، بل بالإدراك السليم لمراد المتكلم منه، وهذا نابع من حرصهم على بلوغ تفسير سليم لمراد الله ورسوله من القرآن والسنة.
ـ فهم النص يتم وفق السياق الذي ورد فيه، ولا يمكن تفسيره بمعزل عن السياق، وإذا جرّد اللفظ من السياق لا يعد جزءا من اللغة.
ـ لا يمكن فهم النص دون استخدام القدرات العقلية للمخاطب؛ لأن اللغة مؤسسة على أمور مشتركة بين المتخاطبين مثل المعارف الإدراكية والأعراف اللغوية.
ـ النص له دلالة قطعية إذا أيدت بقرينة ما، وله دلالة ظنية ما لم يكن له ذلك، ومن أنواع القرائن عندهم : القرينة الصارفة وهي التي تصرف اللفظ عن دلالته الظاهرة (القاموسية)، والدلالة الهادية وهي التي تهدي القارئ أو السامع إلى المعنى المراد.
ـ اللغة عند الأصوليين نظام من الدلالات، وليست نظاما من العلامات كما هي عند اللغوي دي سوسير وأتباعه؛ وهذا راجع إلى أن دي سوسير اهتم بالدال (الكلام)، بينما اهتم الأصوليون بالدلالة، والدلالة تحققها أشياء أخرى مع الكلام مثل القصد والمعرفة والإدراك وعادة المتكلم وغير ذلك.
ـ أشهر المصطلحات التخاطبية عند الأصوليين: الوضع (الدلالة)، والاستعمال (التخاطب)، والحمل (التفسير)، وهو اعتقاد السامع مراد المتكلم، أي الدلالات التي يحمّلها السامع النص، ويعتقد أنها مراد المتكلم، وللحمل شروط :
أ ـ ينبغي أن يكون النطق بالنص مقصودا.
ب ـ أن يقصد المتكلم مخاطبة السامع.
ج ـ أن يكون السامع عاقلا قادرا على فهمه.

وللحصول على الحمل (التفسير) السليم لمراد الله ورسوله من القرآن والسنة يرى الأصوليون استيفاء شرطين:
أ ـ استحالة أن يقول الله ورسوله شيئا دون قصد.
ب ـ استحالة أن يقصد الله ورسوله شيئا خلافا لما يفهمه الناس، فلا يكون الكلام ملبسا يفهم منه الناس خلاف المراد. (وهذا الشرط لا يتعارض مع تنوع التفسير، فالتنوع غير التناقض في التفسير)
ـ ومن مصطلحاتهم "الدلالة باللفظ، ودلالة اللفظ"، والأولى للمتكلم، أي أنه أراد من كلامه أن يدل على شيء ما، والثانية للسامع، حيث يرى أن اللفظ يحمل دلالة ما، ويعد "القصد" شرطا من شروط "الدلالة باللفظ". وأول من فرق بينهما شهاب الدين القرافي.
ـ يرى الأصوليون أن النص القرآني موجه إلى مقاصد الشريعة، وهي حفظ الضرورات الخمس (الدين والحياة والنسل والمال والعقل)؛ ومن ثم إذا تعارض نص مع ضرورة من الضرورات ينبغي على الحامل (الفقيه المفسر) أن يوفق بينهما؛ لأن الشارع أنزل النص مع قصد المحافظة على تلك الضرورات، وهي مقدمة على الحاجيات، والحاجيات مقدمة على التحسينات.

المنهج التخاطبي في الفقه الظاهري:

هو منهج قائم على المعطيات غير الاستعمالية للغة، إذ يشدّد على مواضعات اللغة المحددة سلفا (الدلالات القاموسية للمفردات) بوصفها المتطلبات الأساسية الوحيدة للتخاطب، أما القرائن غير اللغوية فقد أهملت إجمالا، كما أن القدرات الاستنتاجية للسامع لا أهمية لها في الحمل.
وقد رفض ابن حزم الظاهري التأويل، معتبرا أن أي عدول عن مفهوم اللفظ في اللغة هو ضرب من التحريف، وأصرّ على أن اللغة وُضعت للتفاهم والبيان، وهذا لا يحدث إلا إذا كان لكل لفظ معنى خاص، وإلا ما كان هناك بيان، وأن مراد المتكلم موجود في المعنى الظاهري للنص.
 
المنهج التخاطبي عند ابن تيمية:
ابن تيمية هو فقيه متكلم مصلح، يصنف على أنه حنبلي المذهب لقبوله الأصول الأساسية للمذهب، رغم مخالفته لبعض آراء ابن حنبل، وقد نَقَـدَ بحدّة المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة المسلمين لتقليدهم للفلاسفة اليونانيين دون نقْـدٍ. واستطاع ابن تيمية أن يصوغ عددا من الآراء المقنعة عن اللغة والتخاطب ينسجم معظمها مع أحدث النزعات العلمية في البرغماتية الحديثة، ومن ذلك:.
ـ أن الألفاظ لا تدل على المعاني بنفسها، بل تدل عمّا يقصده المتكلم، فسماع الألفاظ دون معرفة قصد المتكلم لا يدل على شيء.
ـ الاعتماد على السياق في فهم المعنى، ولا يُعد المرء متكلما بنطقه كلمة واحدة معزولة عن السياق المعرّف لمراده؛ ومن هنا رفض وجود فارق بين الحقيقة والمجاز، فكلمة (أسد) ـ مثلا ـ بدون قرينة توصف على الحقيقة وهي غير مفيدة، واللفظ لا يفيد على نحو مجرد مطلق قبل "العقد والتركيب" مع ألفاظ أخرى، ولابد من معرفة المتكلم وعادته التخاطبية ... وغير ذلك مما يخصه، فكل هذا يسهم في بيان مراده، وكلما زاد تقييد اللفظ زادت إفادته، فالعلاقة مطردة بين التقييد والإفادة؛ لأن اللغة وظيفتها المحافظة على مصالح البشر بالفهم والإفهام، وهما لا يحدثان إلا باللجوء إلى المعاني المقيدة والألفاظ المقيدة، أما اللفظ المطلق فهو صورة ذهنية ليس له وجود في العالم الخارجي. وذكر ابن القيم أن اللفظ المجرد لا يسمى "لفظا مستعملا" بل "لفظا مقدرا"، ويرى أن أغلب سوء الفهم في تفسير الجمهور للمجاز عائد إلى الخلط بين "الكلام المقدر" و"الكلام المستعمل"، ورفض فكرة أن اللفظ وُضع وضعا مطلقا لا مقيدا.
ـ رفض ابن تيمية وابن القيم إمكان دراسة المعنى مستقلا عن الاستعمال (التخاطب الذي يعتمد على القصدية والمرادية)، فالدلالة لا تتحقق أبدا دون استعمال؛ لأن الدلالة عندهما قصدية وإرادية.
ـ يرى ابن تيمية أن اللفظ المفرد ليس بكلام، إنما هو مجرد صوت ينعق، ولا يفيد إلا إذا نظم مع كلام لتأليف جملة على الأقل، وابن تيمية هنا يزعزع مفهوم ابن جني للغة بأنها "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"، فاللغة ليست أصواتا ولا كلمات متناثرة، بل هي جمل وتراكيب؛ ومن ثم قرر ابن تيمية أن الألفاظ لا تفيد إلا بشرط أن يكون المتكلم عاقلا، وأن يستعمل اللغة على نحو مفهوم متواضع عليه وفقا لعادته، وأن يكون السامع عالما بعادة المتكلم في استعمال الكلام، وأن يفترض ذلك منه.
ـ فرّق ابن تيمية بين ثلاثة معان للكلمة: "المعنى المجرد" و"المعنى المطلق" و"المعنى المقيد"، فالمعنى المجرد يشير إلى المقصود الذهني لمعنى اللفظ الناشئ بمعزل عن سياقاته الفعلية مثل(السواد والبياض)، فليس لهما وجود في العالم الخارجي، وإنما يظهران من خلال وصفهما لشيء آخر أسود أو أبيض، أما المعنى المطلق فهو استخدام الكلمة غير مقيدة في جملة مثل (رأيت أسدا أمس)، فكلمة (أسد) حقيقة مطلقة، وتختلف عنها في نحو (رأيت أسدا يخطب على المنبر)، فالمعنى هنا مقيد.
ـ رفض ابن تيمية ـ وتبعه ابن القيم ـ أن يكون للكلمة استعمال حقيقي وآخر مجازي كما قرر الجمهور، فمثلا كلمة (أسد) في عبارة (الأسد حيوان مفترس) حقيقة، وفي عبارة (رأيت أسدا يخطب) هي مجاز عند الجمهور، ومثلها كلمة (بحر) إذا قصد بها الماء الكثير فاستخدامها حقيقي، وإذا قصد بها سعة العلم والمعرفة كما في عبارة (فلان بحر) فاستخدامها مجازي، وكلمة (ذوق) حينما تعني الطعم في الأكل والشرب فهي حقيقة، وحينما تخرج عن هذا المعنى فتكون مجازا، كما في قوله تعالى: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾، وسؤال القرية في قوله تعالى:﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ مجازي، والمقصود (أهل القرية)، ففي الكلام حذف؛ لأن القرية لا تستطيع أن تجيب، أما ابن تيمية فيرى أن كلمة (أسد) حقيقة سواء أقُصِد به الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع، وكلمة (بحر) تعني الاتساع، سواء أكان اتساع علم أو الماء الكثير، وكلمة (ذوق) تستخدم على وجه الحقيقة في جميع الأحوال، فهي تستعمل فيما (يُحَسُّ) من طعم وغيره، وسؤال القرية في الآية حقيقي؛ لأن (القرية) تطلق على المكان وعلى الناس الذين يعيشون فيه اعتمادا على القرينة، فالقرينة تقيد اللفظ بمعنى ما.
       ورأي ابن تيمية هذا يحتاج لمناقشة، ولا نسلم به إلا إذا أخذنا في الحسبان أن رفْضَه للمجاز هو رفض للمصطلح، ولم يرفض المضمون، فهو يقر بالاستعمالين للكلمة، لكن على أنهما حقيقيان، وليس أحدهما مجازا، ويبدو أن ما دفعه لذلك أمران أحدهما لغوي والآخر شرعي، أما اللغوي فهو أن الإقرار بالمجاز يقتضي أن للكلمة وضعا سابقا وآخر لاحقا، الأول حقيقة والثاني مجاز، وأن هذا لم يحدث، ولم يقرّ به أحد، وأما الشرعي فهو أن المجاز ادعاء، والادعاء كذب، ولا يجوز أن يوصف به القرآن في أي موضع من مواضعه.

 
أرجو من الإخوة القراء أن يفيدوني بملاحظاتهم على المقال عبر البريد الخاص بي:
alaahamzawy2@gmail.com
 hamzawyalaa@hotmail.com
والعـلــــم رحـب بين أهـــــــله
 
---------------------------------------------
[1] من أجمل ما قرأت وأكثر إفادة في هذا الموضوع كتاب للدكتور محمد محمد يونس بعنوان "علـم التخاطب الإسلامي" Medieval Islamic Pragmatics  
[2] اختلف الباحثون في ترجمة هذا المصطلح، فتُرجم بـ(النفعية) و(التداولية) و(الذرائعية)، وبعضهم أبقى على الاسم الأجنبي فقال: البرجماتية، ويرى بعضهم أن أصلح ترجمة له (التخاطبية) أو (نظرية التخاطب).
[3] تبلورت نظرية "موت المؤلف" على يـد الناقد الفرنسيّ رولان بارت مع الطرح البنيويّ، وهي تعتبر النص نظاما مغلقا لا علاقة له بالكاتب المبدع ولا بالتطور التاريخي والاجتماعي، وقد أثارت إشكالا كبيرا في الفكر الإسلامي حينما طُرحت فكرة استثمارها في تحليل النصّ القرآني؛ حيث رفضها بعض الباحثين ـ وهم محقون ـ لأنها تهدف إلى إقصاء سلطة المؤلف في إنتاج الدلالة بعد أن هيمنت على النص أمدا طويلا ـ من وجهة نظر أصحابها ـ  إلى حد أن أصبحت فعالية القارئ لا تتمّ إلا بمحاولة اقتناص ما يريد أن يقوله المؤلف فيما يكتب، حتى جاء بعض النقاد ورأوا أن عملية القراءة ترتكز على ثلاثة محاور: المؤلف والنّص والقارئ، فتوجهوا في تحليلاتهم إلى النّص، فأعطوا القارئ كامل السلطة في عملية التأويل والاستنتاج الدلالي، بغض النظر عن "قصدية المؤلّف"، أي أن المؤلف منتج للنّص فقط وليس منتجاً لدلالاته، وهذا مقصدهم ومرادهم من "موت المؤلف"، بل اعتبر رولان بارت أن "موت المؤلف" هو الشرط الوحيد لولادة القراءة؛ وهذا ما جعل بعض النقاد يقررون أن هذه النظرية لا تنسجم مع الفكر الإسلامي، ولاسيما في تحليل النص القرآني، في حين رأى آخرون أن تعدد التفاسير للقرآن الكريم تطبيق ـ بشكل ما ـ لهذه النظرية، على اعتبار أن التفسير/إنتاج الدلالة هو رؤية المفسر/القارئ، بل إن القرآن قرر أن ثمة آيات محكمات وأخر متشابهات، وأن تأويل هذه الآيات موقوف على الله تعالى والراسخون في العلم حسب قراءة الآية السابعة من آل عمران وقفا وابتداءً، وقد اختلف العلماء في تفسير الآية حسب قراءتها. وأنا أميل إلى رفض هذه النظرية في تحليل النص الديني، لأن الألفاظ ـ كما يقول ابن تيمية ـ لا تدل على المعاني بنفسها، بل تدل عمّا يقصده المتكلم، فسماع الألفاظ دون معرفة قصد المتكلم لا يدل على شيء، ولا شك أن مراعاة المؤلف وعادته وثقافته له دلالة كبيرة في إضاءة النص وتوضيحه؛ ومن ثم وصف بعض النقاد الغربيين هذه النظرية بأنها دعوة إلى العبث.

 

مقالات الفوائد