اطبع هذه الصفحة


تجديد الخطاب الدعوي

مبروك عبدالله الصيعري


لعل هذا العنوان أصبح يتردد كثيرا عند المسلمين في قنواتهم ومؤسساتهم ومنتدياتهم خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وكأن هذه الأحداث هي من صنعة هذه الأزمة _أزمة تجديد الخطاب الدعوي أو الخطاب الديني_ وفي نظري أن الأزمة كانت قبل هذه الأحداث ولو لم تقع هذه الأحداث لكنا أمام ما يسمى بالعولمة التي سوف تقفنا وجها لوجه أمام تحديات عالمية سنكون معها مضطرين إلى إعادة النظر في أساليبنا وصياغاتنا..وفي هذه المقالة أريد أن أنبه على مجموعة من الضوابط والمحاذير لطلبة العلم والمشايخ وهم يخوضون معترك هذه الحياة في تبليغ رسالتهم للناس صافية من الشوائب والدسائس التي قد يجرنا لها مجموعة ممن يدعون التمدن والتحضر ومواكبة العصر .فأقول مستعينا بالله :

أولا : ماذا نقصد بالخطاب الدعوي ؟
إننا حين نتحدث عن الخطاب الإسلامي فنحن لا نقصد به ممارسات نمط من الدعاة أو مجموعة من الأشخاص أو المدارس الفقهية وكثيرا ما يطرح الخطاب الإسلامي في الإعلام ويقصد به الثقافة التي يتلقاها المسلم في مجتمعه سواء من التلفاز أو المسجد أو المنهج الدراسي أو من الأسرة أو من الكتب..الخ المهم أن مفهوم الخطاب الدعوي اشمل وأوسع من ذلك وهنا أشير إلى مسألة مهمة في هذا الصدد وهي : الفصل بين جانبين :
أ) جانب النص الشرعي
ب) وجانب الفعل البشري
أما جانب النص الشرعي فهذا النص منه ما هو قطعي في ثبوته ومنه ما هو ظني في ثبوته أي يختلف العلماء في إثباته , ومنه ما هو قطعي في دلالته فيتفق العلماء وتتفق الأمة فيه على معنى واحد ومنه ما هو ظني في دلالته فيختلف العلماء حول دلالته بل قد يصل الخلاف بهم إلى حد التضاد أحيانا كما حصل للفقهاء في تفسير القرء فمنهم من قال الطهر ومنهم من قال الحيض والأمثلة كثيرة في دلالة النص .
ومن هذا النص ما هو قطعي في ثبوته ودلالته ومنه ما هو محل تردد فهناك من يرى قطعيته وآخر لا يرى قطعيته كما حدث لعلماء الحديث عندما تكلموا في الحديث المتواتر .
إذن الخلاصة أن المقام الأول فيما يتعلق بالخطاب الديني هو مقام النص الشرعي هذا النص له قداسته وله حرمته وله أصوله في طريقة الإثبات والفهم التي يجب أن تكون واضحة ولا لبس فيها ..
أما الجانب الثاني الذي يجب أن يراعى في الخطاب الدعوي هو جانب الفعل البشري وهو ما يقوم به المجتهدون من أهل الحل والعقد تجاه النص الشرعي فقد يكون فعلهم: تصحيحا للنص كما هو الحال عند علماء الحديث في دراسة الأسانيد والعلل أو قد يكون هذا الفعل البشري استنباطا من النص وهو الفهم الذي يعطاه الرجل في كتاب الله ثم يتطور هذا الفعل البشري ليكون دعوة أو خطابة أو قدوة أو تعليما أو تأليفا أو إلقاء أو أي عمل من الأعمال .
ومصدر الخلل عند كثير من المسلمين هو وجود خلط بين ما هو مقدس وشرعي ومتفق عليه وبين ما هو محاولة بشرية اجتهادية قد تكون خطأ وقد تكون صوابا . ومن هنا قد يقع البعض لإخضاع النص للفعل البشري فيقع العدوان على النص من قبل غير الفاقهين أو أن يرفعوا الفعل البشري الذي هو اجتهاد فقيه أو عالم إلى منزلة النص فيصبح بمنزلة الذي لا يسأل عما يفعل ولا يستدرك عليه ولا يراجع أو يصوب .
إذن هناك فرق بين النص الشرعي والفعل البشري فالنصوص الشرعية متناهية أي ثابتة لا مجال للخوض فيها والأفعال البشرية التي هي اجتهادات مجموعة من العلماء متغيرة تبعا لتغيرات الزمان والمكان والقدرة والأشخاص ففتوى المريض تختلف عن فتوى الصحيح وفتوى المسافر تختلف عن فتوى الحاضر وفتوى الجاد تختلف عن فتوى المستهتر .
أو نقول هناك فرق بين النص والفتوى فالنص ثابت والفتوى التي هي إنزال الحكم الشرعي على الواقعة متغيرة .

وهنا ثمة وقفة تختص بفقه المراجعة :
- اعتقاد البعض أن المراجعة هي نوع من الفشل والاعتراف بالهزيمة والتنازل عن المبادئ هذا غير صحيح لعدة أسباب :
أولاها : أن المراجعة في الفعل البشري ضرورة شرعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليها أصحابه ويقول : (إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)

بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح( أميره بريده أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله , وقال : فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا , ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك ( فتأمل كيف فرق بين حكم الله وحكم المجتهد , ونهى أن يسمى حكم المجتهد حكم الله.
ثانيا : أن المراجعة خاضعة للمرحلية فقد يجتهد العالم أو الفقيه أو الشيخ في مرحلة زمنية معينة ثم يغير اجتهاده في مرحلة أخرى فهل اجتهاده السابق خطأ ؟ قد يكون لأنه فعل بشري وقد يكون صوابا في سياقه وفي وقته وفي الظروف التي أحاطت به .
ثالثا : المراجعة التي ننشدها ليست مراجعة فئة معينة من الناس أو الأشخاص وإنما مراجعة على كافة الأصعدة فمجتمعاتنا تحتوي على مجموعة من الأخطاء على الصعيد السياسي والمعرفي والاقتصادي والتعليمي والإعلامي هذه الأخطاء جعلتنا في مؤخرة الركب .
رابعا : أن لا تتحول المراجعة إلى مشاتمة وسب وتعيير أو أن يكون هناك هجوم و قصف متبادل بالتهم و الألفاظ النابية ومحاصرة بعضنا البعض بالأدلة والبراهين وكأن الحق هو كل قول أو فعل صدر منا وما صدر من غيرنا هو باطل يجب أن يمحى هو وصاحبه من الوجود .

أخيرا أقول : المرحلة المقبلة من الدعوة الإسلامية حبلى بكثير من التغيرات في الطرح من قبل كثير من الرموز نظرا لتغير المرحلة بل قد يؤول بهم الأمر إلى خيارين :
- الجمود للموجود والموروث وأن أي تجديد هو تمييع لهذا الدين وإفساد له .
- أو الذوبان المطلق في الآخر .
ولا بد أن نبتغي بين ذلك سبيلا ..
وفي نظري أن هناك ثمة فريق سيسلم من الجمود والذوبان وهو ذلك الفريق الذي بنا أساسه على مجموعة من القواعد الشرعية والأصولية جعلته تلك القواعد والأصول يتعامل مع متغيرات العصر وفق الضوابط الشرعية فسلم من الجمود والذوبان .
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من حراس عقيدتك ومن المدافعين عن كتابك وسنة نبيك وأن تعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. والله أعلم .

 

مقالات الفوائد