اطبع هذه الصفحة


قَلَمٌ يكتب ضد هويتنا

سيد عبد المعين


كثرت زُمَرُ الضباب الهائمة في أودية الليل.. تريد أن تسرق ضوء محاجرنا، وتقذف به في أودية الأبد السحيق.
فلطالما قرأتُ مقالاتٍ تنتسب إلى الحق، بأقلام الكتبة المهرة الذين يريدون الخير فانطلقوا زُرَافاتٍ ووُحْدَانًا يقتبسون من هَدْي المذاهب والأفكار التي لا طائل من ورائها إلا كما تقبض بيديك هشيمًا قد أكلته عاديةُ الريح..!
فنكون كقابض على الماء خانته فروج الأصابع..
أو كالذي يستحلب السرابَ الماء، ويستنبت البذورَ في الهواء!!
إن القلم المسلم يهتدي بضوء هذا الكتاب الذي نزل على سيد الخلق منذ أذن الله بإخراج البشرية من ظلمات الجهل إلى آفاق العلم والتوحيد.. فتأتي كلماته قناديلَ معلقةً بالعرش.. موصولة بالوحي.. تفوح منها عطور الفراديس الهادية إلى الخير والإيمان...
لكن الكثيرين من بني جلدتنا الآن يقعون في حبائل الغرب، فلا يحسّ الواحد منهم حياة في مقالِه إلا إذا اتَّكأ بقلمه على جُملة لـ "سارتر"، أو حكمة- زعموا- لـ "بودلير"، أو تعليق لـ "كانت" أو صيحة صارخة من أودية الهلاك من فم القديس المبجل "هيجل"!
فإذا ما فرغ صاحبنا من مقاله، وألقى بقلمه بعيدًا على أريكةِ الراحةِ يَتَمَدَّد، مُحْتَسِيًا بعض أنفاس خمول تسري بالخدر اللذيذ في جسده وعقله! ثم نظر إلى مقاله، يظنه متألقاً يتنفس بين يديه..! وما هو إلا الزيف الذي يختل من عَشِيَ بصره.. وارتكستْ هِمَّتُه..!
ما هذا الغثاء؟! إن هذه كلمات تُصَلِّي إلى غير قبلتنا.. وتنظر من وراء جُدُر إلى حضارتنا التي أَظَلَّت العالمَ حينًا من الدهر .. انطلق فيها النور مشبوبَ النشاط في آفاق الكون!
وكلما طرقتُ باب صحيفة أو منتدى أجد كلمات متبرجةً بزينتها، ملفوفةً في أردية الضوء الزائف لكل أصلع فكرٍ غربي أو أوربي..!
وكأنَّ لغتنا صارتْ تابوتًا مدفونًا في مقابر الظلام الموحش... لا نجد فيها كلمةً حيَّة نرسمها على جبين صحائفنا.. أو بين حنايا المقالات...!
وكأنني إذا ألقيتُ هاهنا حكمة يونانية، تتبعها ترنيمة إنجليزية فقد أتيت بما لا قِبَلَ للعقولِ به!!
إن هذا الداء الذي يتدسَّس إلى أقلامنا.. وينسرب إلى عقولنا ..باسطًا أشعته الحالكة.. دليل على أن أرواحنا عَصْفٌ هشٌّ لا يستطيع أن يُقَاوِمَ إعصار الشمالِ المتأنق!!
وهذا هو الداء الذي يعصف بأقلامنا.. ويديرها عن قبلتنا إلى منهج غيرنا.. وما إلى كهنة التغريب قصدت..! بل إلى إخواننا الذين نتوسََّم منهم الخير.. فوقعوا في أحابيل مَن لا يرجون لله وقارًا ورحم الله حافظًا فقد نادى بولوج هذا الباب نداء لزجاً دخل تحت ستاره الداخلون، فقال:
فَارفَعوا هَذِهِ الكَمائِمَ عَنّا
وَدَعونا نَشُمُّ ريحَ الشَمالِ
وكأن ابن خلدون -رحمه الله- كان صادقًا حين عقد فصلاً نفيسًا في مقدمته الباذخة فقال: الفصل الثالث والعشرون في أن المغلوب مولع "أبدًا" بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده!
وانظر إلى كلمة "أبدًا" هذه التي تصفع وَجَناتِ الغافلين أحلاسِ المقاهي!!
ولقد نظرت إلى أعلام كتابنا فلم أجد عندهم هذه الذِّلَّة التي تترنح في دفاترنا الآن..!
إن هذه العُجْمَة المستعربةَ التي اندلعت نيرانها في حياتنا الثقافية كائن غريب لم يعرفه آباؤنا الأولون الذين كانت أفكارهم متحدرةً من سماء القرآن الذي قال فيه ربنا المجيد: إنك أنت الأعلى!


مجلة الدعوة ..
العدد 2169 | 22 ذو القعدة 1429 هـ

 

مقالات الفوائد