اطبع هذه الصفحة


الصبر والتقوى : البعد الغائب في صحوة اليوم

د.سعد عطية فياض


كثيراً – بلا مبالغة – ما قابلت دعاةً وطلبة علم ترى فيهم الحفظ والفهم والحرص والمواظبة على الطاعات والعبادات ،ولكن إذا جئت إلى ساحة الإبتلاء والصبر وجدت فيهم ضعفاً...

وفي المقابل تجد بعض المنتسبين إلى الصحوة – مع انتسابهم إلى الصحوة الإسلامية- تسهل عليهم حقوق إخوانهم ويستمرئون هضمها مع تساهلٍ في الطاعات والعبادات وشيءٍ من سوء الخلق وحب العلو ،ولكنهم أهل جلدٍ وصبرٍ ومثابرة...

وهناك الأسوأ أقوامُ بلا تقوى ولا صبر ولكنهم يعرفون من أين تُؤكل الكتف ، تجدهم تحت الأرجل أياً ما كانت للعلماء أو الوجهاء أو غيرهم ،فإذا تمكنوا استأسدوا وألبسوا هزالهم لبوس التجبر ...

وتبقى الصحوة تنتظر من يجمع الصبر والتقوى معاً ،ليحمل الراية بحقها...

هذا الموجز وإليكم البيان....

الجمع بين التقوى والصبر في كتاب الله:


فالتقوى والصبرمتلازمان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر ، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ([1]) فـ (لا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم الصبر إلابمصابرة العدو وهو مقاومته ومنازلته ،فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهي المرابطة،وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو،ولزوم ثغر العين والأذن واللسانوالبطن واليد والرجل فهذه الثغور يدخل منه العدو فيجوس خلال الديار ويفسد ما قدرعليه فالمرابطة لزوم هذه الثغور ولا يخلى مكانها فيصادف العدو والثغر خاليا فيدخل منها فهؤلاء أصحاب رسول الله خير الخلق بعد النبيين والمرسلين أجمعين وأعظم حماية وحراسة من الشيطان الرجيم وقد خلوا المكانالذي أمروا بلزومه يوم أحد فدخل منه العدو فكان ما كان، وجماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به هو تقوى الله فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوىولا تقوم التقوى إلا على ساق الصبر) ([2])
 
لذا جمع سبحانه الصَّبر والتقوى فقال: [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]([3]) وقال تعالى :[إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]([4]) .

فالمؤمن لا سبيل لصلاحه على الوجه الذي يرضي الله إلا إذا جمع التقوى والصبر..

إذ (لا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور وترك المحظور ،وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور ، فالأول هو التقوى والثاني هو الصبر قال تعالى :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا] إلى قوله [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]([5])

وقال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]([6])

وقال تعالى[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ([7])

وقد قال يوسف [ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]([8])..

ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين المسارعة إلى فعل المأمور والتقاعد عن فعل المحظور والصبر والرضا بالأمر المقدور) ([9])

لذا ذكر ابن تيمية رحمه الله أن أقسام الناس في التقوى والصبر أربعة :


(أحدها: أهل التقوى والصبر: وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة

والثاني :
الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر: مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه .

والثالث:
قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى: مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصبيهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظراً أو مباشرةً وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر..

وأما القسم الرابع :
فهو شر الأقسام لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا: بل هم كما قال الله تعالى [ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا] ([10]) فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحابوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول ،وانقهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد ، مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون،ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهراً بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق فإن الله ((لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) ([11]) فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار) ([12])

فالصحوة الإسلامية أحوج ما يكون إلى من يجمع التقوى والصبر معاً ...
ولا سبيل لتحقيق التقوى على الوجه الذي يرضي الله تعالى إلا بالصبر ..
ولا سبيل للنصر إلا بالصبر مع التقوى أما من يشغلوهم العمل والبذل فيتساهلون في لوازم التقوى فلن ينتصروا وإن صبروا ...
وكذلك الذين ينشغلون بالورع والطاعات وضبط العمل الدعوي من الوقوع في المخالفات فلن يتقدموا إذا لم يكن لهم صبرٌ على لأواء الطريق..

ولن ينصلح حال الأمة ولن تتبوء الصحوة مكانتها المنشودة حتى نجمع بين الصبر والتقوى ، ونوازن بين العلم والعمل ،والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون


أسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم والعمل والتقوى والصبر وأن يستعملنا ولا يستبدلنا

--------------------------------------
([1]) [آل عمران:200] .
([2]) الجواب الكافي ص140 .
([3]) [النحل:128] .
([4]) [يوسف:90] .
([5]) [آل عمران :118- 120].
([6]) [آل عمران :125] .
([7]) [آل عمران :186] .
([8]) [يوسف:90] .
( [9]) مجموع الفتاوى 10/374-375 .
([10]) [المعارج:19-20] .
( [11]) رواه مسلم في البر والصلة ح2564 .
( [12]) مجموع الفتاوى 10/377-378
 

مقالات الفوائد