اطبع هذه الصفحة


عبدالله.. وليم.. حرام يا بلدي

فهد بن عبدالعزيز السنيدي


لا أحدَ يُنكِر أهميَّةَ الابتعاث في نهضة بلادنا، ولا أحدَ يقول: إنَّنا لم ولن نستفيد من الغرب، بل الإنصاف أن نقول: إنَّ الغرب قدَّم للحياة حضارة كبرى لم نكن لنصلَ إليها في واقعنا المعاصر، ولا بعدَ مئات السنين، ومع هذا فإنَّ الأممَ التي تبتعث أبناءَها، إنَّما تبعثهم ليعودوا بناةً لوطنهم، مُسهِمين في نهضته، فهي تسعى لهذا الابتعاث من أجل تحقيق مصالِحها، وليس من أجل تحسين صورتها، أو ردَّة فِعْل لحادث معيَّن، فتقوم بالزجِّ بأبنائها كيفما اتفق دونَ ترتيب أو حساب، حتى إذا رأتِ النتائجَ المحزِنة بدأتْ في إعادة حساباتها، ولاتَ ساعةَ مندم.

لقد تشرفتُ بزيارة عدد من ملتقيات المبتعَثين السعوديِّين (النادي السعودي) في أغلب ولايات كندا، فسررتُ كثيرًا بشباب عامل باذل، يَحرِص على اللِّقاء بأبناء وطنِه كلَّ جُمُعة من أجل تحقيق التواصُل، والتأكيد على إبراز الصُّورة الحقيقيَّة للشابِّ المسلِم، وهو ما رأيتُه - بحمد الله - من المبتعثين لدِراسة الطِّبِّ والهندسة، والنفط والفيزياء، وغيرها مِمَّن أكملوا دراسة البكالوريوس في بلادهم، وحضروا لإكمال الدِّراسات العُليا في الغرْب.

ولكن مِن أين أبدأ لأسردَ قصَّة عبدالله، الشاب ابن التسع عشرة سنة، الذي تخرَّج من بلدته في السُّعودية بين أهله وذويه، وهو لا يعرف من أمور الحياة أيَّ شيء؟

كان يرى أنَّ شُرْبَ السيجارة خطيئةٌ كبرى ليس بعدَها خطيئة، وكان لا يعرف في الحياة مِن النِّساء إلاَّ محارِمَه، أو الصور التي يختلس النظرَ إليها في الشاشات والمجلاَّت.

عبدالله شابٌّ تخرَّج من الثانوية وكرَّمته بلدُه بالالتحاق بالبَعثة إلى... ليس الرياض التي ما رآها إلاَّ مَرَّة أو مرَّتين، ولا جدة التي يسمع عنها؟ بل إلى كندا! إلى حيث شواطئُ العُراةِ في فانكوفر، والملاهي اللَّيليَّة في تورينتو، والجيرل فريند في المعاهد!!

عبدالله خَرَج من أرْضِه بلا أيِّ رصيد من التحصين، وزجَّتْ به وزارةُ التعليم إلى هنا ليعودَ إلى بلاده - إن عاد - عاملاً باذلاً، لكن عبدالله أُصِيب بذهول، فهو يَسكُن مع عائلةٍ لا تعترف بشيء مِن قِيَمه التي جاء بها مهلهلةً مُكسَّرة، ولا بشيء ممَّا تعلَّمه في دراسته - تلقينًا لا يقينًا - عن الأخلاق الإسلاميَّة، والقِيَم العظيمة لهذا الدِّين والرِّسالة التي يجب أن يحملَها.

عبدالله انتقل إلى المعهد المختلط الذي تدرس فيه فتاةٌ فاتنة مِن المكسيك، وأخرى من ألمانيا، وغنوج "مدلعة" من السَّامبا البرازيليَّة، ورابعة مِن تشيلي، ولك أن تُكمِل المشهد.

عبدالله يسْتلِم مبلغًا مُجزيًا من دولته؛ لإكمال ابتعاثه، وتشترط عليه فقط أن يكونَ حضورُه في المعهد، وتقاريرُ المسؤولين في المعهد مطمئنةً لضمان تحصيله. عبدالله يعيش الآن ذهولَ الطفولة، وفزعَ المراهقة، وشرودَ الشباب، فهو يحرِص على كَرمِه الحاتِميِّ ليتكفَّلَ بدعوة تلك الفتاة المكسيكية الجميلة لسهرةٍ في أرقى الملاهي اللَّيليَّة، ويصرف من مكافأتِه لإرضاء طموح جميلات المعهد!

عبدالله عاش هنا، ولكنَّه كره هناك! وفي ليلة مُحزِنة قرَّر عبدالله تغييرَ اسمه إلى وليم، وتغييرَ دِينه وتعليق الصليب على رقبته، وهي القِلادة "الجميلة" التي تلبسها صديقتُه، كما قرَّر أن يُلغِيَ التكلم باللُّغة العربية، ويرفض أن يُصرِّح باسم بلده!!

عبدالله شابٌّ وسيم، حَلَق شعر رأسه بشكل غريب، ولَبِس من الملابس المخيفة، وعلَّق على صدره قِلادةً فِضيَّة، حاولتُ الجلوس معه، ولكنَّه اشترط عليَّ ألاَّ أتكلَّم بالعربية، فهو لا يحبها، واشترط ألاَّ أذكرَ له اسمَ بلده، ولا أُعيد له أيَّ ماض أسود عاشه - حسب تعبيره - لم أستطعْ أن أُكملَ الحوار؛ لأنَّه يرفض أيَّ طريق مفتوح له، وربَّما قام وتركك!

ليس عبدالله - آسف وليم - صورةً واحدة نشازًا تدعونا إلى القول: لا تُضخِّموا الأمور، لا وألف لا، نحن نخاف على عبدالله، وعلى جميع أبناء وطننا الذين امتلأتْ بهم شوارعُ فانكوفر، كما يقول الكاتب والطبيب الفلسطيني هاني التبَّاع، حيثُ قال لي في لقاء مع بعض العرب الكنديين: "أنا هنا منذُ أكثرَ من عشرين عامًا، وأتمتَّع بكلِّ ما يتمتَّع به المواطنُ الكندي، وزوجتي كنديَّة مسلِمة محجَّبة، ولنا مسجدُنا ولقاءاتنا المتكرِّرة؛ لكن ما شاهدناه في السنوات الأخيرة كان مزعجًا من أبنائكم، الذين قلَّدوا أقرانَهم الكنديِّين في اللِّباس و"الموضات"، وتخريم الأنف والأذن، وغشيان الأندية الليليَّة، والبعد التام عن كلِّ ما له عَلاقةٌ بالدِّين الإسلامي، وبعضُهم يلبس القلادة، وربَّما عليها الصليب؛ تلبيةً لدعوة صديقته! وهذا أصبح مشاهَدًا في السنوات الأخيرة بشكل مخيف".

قلت له: يا دكتور، هل هم كِبارُ السِّن، أم صِغارُ السِّن؟ قال: "كِبارُ السِّن من زملائِنا الأطبَّاء نعرفهم قبلَ عشرات السنوات ممَّن يأتون بأهلهم، وتستقرُّ أحوالُهم، هم كِبارٌ مُتَّزِنون بعيدون عن هذه الأمور؛ ولكن ما حصل الآن صادرٌ عن الشباب الأغرار أبناء التاسعة عشرة والعشرين".

وأمَّا الفتاة الصغيرة التي رُمِيت مع زميلاتها لتكملَ دراستها هنا، فهي مأساةٌ أخرى أخشى أن يُقال: إني مبالغٌ لو ذكرتُ لكم شيئًا ممَّا شاهدتُه وسمعتُه من مسؤولي النادي السعودي في أغلب مدن كندا.

يا بلدي الغالية:

إنَّهم أبناؤك، إنَّهم فلذاتُ الأكباد، إنَّهم رجال المستقبل، لا تَقذفِيهم في اليمِّ؛ لأنَّك لا بدَّ أن تخافي وتحزني إذا عادوا - إن عادوا - وهم يحملون فِكرَ وليم، وتَفلُّتَ سارة!

يا ربِّ، احفظْ أبناءَ بلادي، وأبناء المسلمين؛ ليكونوا مشعلَ حضارة حقيقيَّة لأمَّتهم.

 

مقالات الفوائد