اطبع هذه الصفحة


الخُرَافَةُ فِي الحَدِيثِ عَنِ الفرَاسَةِ

بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
adrrem@yahoo.com


إنَّ الحديثَ عن الفراسة ومواقف المتفرسين كأنه حديث عن الخرافة في أبهى صورها، من العسير تصديقه فالقلوب التي تربَّت على الماديَّة وزخم الحياة الحالية لا تستطيع استساغة مثل هذه الشفافية والرُّوحية بسهولة ويسر، أما القلوب العامرة بالإيمان فتصدِّق ذلك، فهو قريب إلى نفسها وإن كانت لم تجربه.
 
والفراسة على أنواع، الأولى: فراسة الصالحين والعاملين بكتاب ربّ العالمين وسنة سيد المرسلين  صلى الله عليه وسلم  ومن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وهي أصدق أنواع الفراسة، وأصلها من الحياة والنور الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك، ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء. قال أبو الفوارس الكرماني: من غضَّ بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمَّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوَّد نفسه أكل الحلال لم تخطئ له فراسة.([1]) قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام122]
 
الثاني: فراسة الرّياضة والجوع والسّهر والتخلِّي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة وهي فراسة لا تكشف عن حقٍّ نافع ولا عن طريق مستقيم بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا.
 
 الثالث: الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه على سعة خُلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها.([2])
 
ولقد صنف في هذا النوع الأخير من علماء المسلمين الإمام الفخر الرازي وأبدع أيما إبداع في رسالة له أسماها: (علم الفراسة)، وصنف أيضًا محمد بن الصوفي كتابًا أسماه: (السياسة في علم الفراسة) ولكنه خلطه بالتنجيم وتأثير الأبراج والأفلاك، وكذا علي بن محمد الثعلبي الشافعي المعروف بابن الدريهم له كتاب بعنوان: (سلم الحراسة في علم الفراسة)، وقد أفرد الإمام ابن القيم لها فصلاً في كتابه مدارج السالكين.
والفراسة عند هؤلاء المصنفين عبارة عن الاستدلال بالأحوال الظاهرة على الأخلاق الباطنة([3])والاستدلال بهيئات الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله على أخلاقه وفضائله ورذائله([4]).
وقد دل الكتاب والسنة على هذا، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر75]، قال مجاهد: المتفرسين. وقال ابن عباس: للناظرين وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مقاتل: للمتفكرين.
وللفراسة سببان أحدهما: جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته.
والثاني: ظهور العلامات والأدلَّة على المتفرّس فيه؛ فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطيء للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته بين بين.([5])
وإن كان أئمة المسلمين فصلوا في السمات والعلامات المادية الظاهرة في جسم الإنسان والتي يُعرف بها شيء من الفراسة، وهي فراسة مكتسبة عن طريق التعلم والبحث والتجربة والاستقراء، فإن ما يهمنا في هذا المقام هو الفراسة الفطرية في صفائها ونقائها عند أصحابها، الفراسة النابعة من السجايا والطباع التي وهبها الله لبعض عبادة والمرتبطة بصفة مباشرة بالإيمان والتقوى والصلاح.
فها هم أصحاب نبينا  صلى الله عليه وسلم  تتمثل فيهم هذه الخصلة واضحة جلية، فعن أبي سعيد قال: خطب رسول الله الناس فقال: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ وَقَالَ النَّاسُ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ»([6]).
 
وهذا عمر: قيل: إنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين، فيقول عمر: احبس هذه؛ احبس هذه، فيقول الرجل: والله كل ما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه. ([7])
وعن ابن عمر قال: بينما عمر رضى الله عنه جالس إذ رأى رجلاً فقال قد كنت مرة ذات فراسة وليس لي رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة شيئًا. أدعوه لي فدعوه فقال: هل كنت تنظر وتقول في الكهانة شيئًا؟! قال: نعم. ([8])
وروى الطبري أنَّ عمر لما استعرض الجيوش للجهاد سنة 14 مرت أمامه قبائل السكون اليمنية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها، فاعترضهم عمر، فإذا فيهم فتية دلم سباط، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض، حتى قيل له: ما لك ولهؤلاء؟ فقال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إليَّ منهم. فكان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملجم وكلاهما من البغاة على عثمان([9]).
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه، يحكي عنه أنس بن مالك فيقول: دخلت على عثمان وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت: أوحي بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة([10])
وهذا علي رضي الله عنه، يقول عنه الأصبغ بن نباتة بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه إذ سمع ضجة فقال: ما هذا؟ فقالوا رجل سرق ومعه من يشهد عليه فأمر بإحضارهم فدخلوا فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعًا، فجعل الرجل يبكي ويناشد عليًّا أن يتثبت في أمره فخرج علي إلى مجتمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين فناشدهما الله وخوفهما فأقاما على شهادتهما فلما رآهما لا يرجعان دعا بالسكين، وقال ليمسك أحدكما يده ويقطع الآخر فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا فقال علي من يدلني على الشاهدين الكاذبين فلم يوقف لهما على خبر فخلى سبيل الرجل.
وهذا من أحسن الفراسة وأصدقها فإنه ولى الشاهدين من ذلك ما توليا وأمرهما أن يقطعا بأيديهما من قطعا يده بألسنتهما، ومن هنا قالوا: إنه يبدأ الشهود بالرجم إذا شهدوا بالزنا. ([11])
 
وهذا جرير بن عبد الله البجلي يجلس مع عمر في بيت ومعهما بعض الناس، فوجد عمر ريحًا فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ. فقال جرير: يا أمير المؤمنين أو يتوضأ القوم جميعًا فقال عمر: يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية ونعم السيد أنت في الإسلام. ([12])
وهذا الحسن بن علي رضي الله عنهما لما جيء إليه بابن ملجم –قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه- قال له: أريد أن أسارك بكلمة فأبى الحسن وقال: تريد أن تعض أذني. فقال ابن ملجم: والله لو أمكنتني منها لأخذتها من صماخها.
 
قال أبو الوفاء بن عقيل: فانظر إلى حسن رأي هذا السيد الذي قد نزل به من المصيبة العاجلة ما يذهل الخلق وفطنته إلى هذا الحد، وإلى ذلك اللعين كيف لم يشغله حاله عن استزادة الجناية. ([13])
 
ومن فراسة أخيه الحسين رضي الله عنهما أن رجلاً ادعى عليه مالاً فقال الحسين: ليحلف على ما ادعاه ويأخذه فتهيأ الرجل لليمين، وقال: والله الذي لا إله إلا هو فقال الحسين: قل والله والله والله إن هذا الذي تدعيه عندي وفي قبلي ففعل الرجل ذلك وقام فاختلفت رجلاه وسقط ميتًا فقيل للحسين: لم فعلت ذلك أي؛ عدلت عن قوله والله الذي لا إله إلا هو إلى قوله: والله والله والله فقال: كرهت أن يثني على الله فيحلم عنه.([14])
 
وهذا الشافعي العربي القرشي، يقول عنه الربيع: كنت أنا والمزني والبويطي عند الشافعي، فقال لي: أنت تموت في الحديث. وقال للمزني: هذا لو ناظره الشيطان قطعه وجدله. وقال للبويطي: أنت تموت في الحديد. فدخلت على البويطي أيام المحنة، فرأيته مقيداً مغلولاً. ([15])
 
وهذا ابن بطة العالم الحنبلي الثقة، يقول أحدهم: رأيت النبي  صلى الله عليه وسلم  في المنام، فقلت: يا رسول الله قد اختلفت علي المذاهب، فقال: عليك بابن بطة، فأصبحت ولبست ثيابي، ثم أصعدت إلى عكبرا، فدخلت وابن بطة في المسجد، فلما رآني قال لي: صدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، صدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم .([16])
 
وهذا الإمام القدوة عبد الغني المقدسي، يقول عنه محمد أخو الياسميني: كنت يومًا عند الحافظ المقدسي، فقلت في نفسي: أشتهي لو أنه يعطيني ثوبه حتى أكفن فيه. فلما أردت القيام خلع ثوبه الذي يلي جسده وأعطانيه، وبقي الثوب عندنا كل من مرض تركوه عليه فيعافى. ([17])
 
وهذا الجنيد يأتيه يومًا شابٌ نصرانيًا في صورة مسلم، فقال له: يا أبا القاسم ما معنى قول النبي  صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "؟ فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه، وقال: أسلم فقد آن لك أن تسلم: قال فأسلم الغلام. ([18])
 
أيها الإخوة الكرام أما لنا في سلفنا الصالح عبرة وعظة، أما سألنا أنفسنا لماذا هم على هذه الحال ونحن من الحال ما نرى؟!.
أيها الإخوة الكرام آن لنا أن نعود إلى ديننا وإلى تراثنا نستجدي منه العبرة والعظة، ونتعلم من سلفنا الصالح ونتخلق بأخلاقهم ونسير على دربهم لنلحق بهم ونعلو كما علو في الدنيا والآخرة إن شاء الله.
 
أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يردنا إلى ديننا مردًّا جميلاً.

------------------------------
([1]) صفة الصفوة 2/247.
([2]) مدارج السالكين 2/ 478.
([3]) الفراسة –للإمام الفخر الرازي- ص20.
([4]) قاله الراغب الأصفهاني.
([5]) مدارج السالكين 2/ 489.
([6]) رواه البخاري 3904، مسلم 2382، الترمذي 3660.
([7]) البداية والنهاية 7/138.
([8]) الأذكياء لابن الجوزي.
([9]) الطبري 4 / 86 كما في العواصم من القواصم 121.
([10]) مدارج السالكين 2/486 .
([11])الطرق الحكمية لابن القيم ص 91.
([12]) مدارج السالكين لابن القيم 2/ 53.
([13]) مدارج السالكين لابن القيم 2/ 53.
([14]) مدارج السالكين لابن القيم 2/ 53.
([15]) تاريخ الإسلام، جـ 7 .
([16]) سير النبلاء 16/530.
([17]) سير النبلاء 21/466.
([18]) البداية والنهاية 11/122، مدارج السالكين لابن القيم 2/ 485.

 

مقالات الفوائد