اطبع هذه الصفحة


الكلم الطيب من الوابل الصيب

عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ


بسم الله الرحمن الرحيم


إن الذي يعرف أثر الكلمة وخطورتها، يحتاط لها وينزلها منزلتها التي تليق بها، فالله تعالى خلق الكون بكلمة، ورفع السموات بكلمة، وبالكلمة كان آدام، وبالكلمة نحيا وبالكلمة ندين، وبالكلمة يُرفع الميزان بين الناس يوم القيامة.
وبكلمة يدخل العبد الجنة، وبكلمة يدخل العبد النار؛ قال  صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»([1])
وقال  صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»([2])
وقد غضب الله على بني إسرائيل بسبب كلمة حين قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة58] وكلمة (حطة) أي: حُط عنا خطايانا، فبدلوا القول محرفين ومغيرين : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة59] قال العلماء: إن بني إسرائيل قالوا: (حنطة) فزادوا حرفًا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا!.
والكلام يُعد شهوة من الشهوات كالطعام والجماع، لذا كان الصوم عن الكلام من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى في الأمم السابقة، قال تعالى عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم26] وقد نُسخت هذه العبادة من شرعنا، وبقيت من الآداب السامية والأخلاق الفاضلة في الإسلام. فحين يُعجب الإنسان بنفسه وبمنطقه بين الناس يكون السكوت هاهنا واجب للمحافظة على القلب من الرياء والفساد، قال عبيد الله بن أبي جعفر: «إذا كان المرء يحدث في مجلس، فأعجبه الحديث، فليمسك. وإذا كان ساكتا، فأعجبه السكوت، فليتحدث»([3])
والسكوت في هذه المواقف صعب لا يستطيعه كثير من الناس بل الذي يقدر عليه من يعرف أثر الكلمة وخطورتها، ويعرف أنها قد تكون فيها هلاكه، قال خلف بن إسماعيل: قلت لسفيان الثوري: «إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتُكَ، وإذا كُنْتَ في غير الحديث كأنك ميت! فقال: أما علمت أن الكلام فتنة»([4]) وقال عبد الله بن أبي زكريا: «ما عالجت من العبادة شيئًا أشد من السكوت»([5])
لذا؛ كانت قلة الكلام من وصايا العلماء والحكماء لأتباعهم فعن صالح بن أبي الأخضر قال: قلت لأيوب السختياني: أوصني، قال: «أقل الكلام»([6]) وكان الأوزاعي يقول لأتباعه وتلاميذه: «من عرف أن منطقه من عمله، قل كلامه»([7]) وكان الفضيل بن عياض يقول: «لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غمًا ممن سجن لسانه»([8]) وقال بشر الحافي: قال مرة رجل للمعافي: «ما أشد البرد اليوم، فالتفت إليه المعافى، وقال: أستدفأت الآن؟ لو سكت، لكان خيرًا لك»([9])
وقول مثل هذا جائز، لكنهم كانوا يكرهون فضول الكلام وكثرته، ويحذرون منه لأنه من الخطإ الكبير أن يطلق الإنسان لسانه فيما لا يعنيه، وأكبر منه أن يطلقه فيما لا يحل له.
قال ابن القيم لأن فضول الكلام يفتح للعبد أبواب الشر كلها وهو مدخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وقد قال  صلى الله عليه وسلم : «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»([10])
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَعْنِي رَجُلًا أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم : «أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ»([11])
قال الذهبي: «واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتبه الملكان، أم لا يكتبان إلا المستحب الذي فيه أجر، والمذموم الذي فيه تبعة؟ والصحيح كتابة الجميع لعموم النص في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق18] ثم ليس إلى الملكين اطلاع على النيات والإخلاص، بل يكتبان النطق، وأما السرائر الباعثة للنطق، فالله يتولاها»([12])
وقد تكون الكلمة سببًا في هلاك إنسان أو إزهاق روحه، فعن خرزاذ العابد قال: «حدث أبو معاوية الرشيد بحديث: "احتج آدم وموسى" فقال رجل شريف: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين، حتى سكن»([13])
وهذا المتنبي هم ليفر ممن أرادوا قتله فقال له مولًى له: أين تذهب وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: ويحك قتلتني ثم كَرَّ راجعًا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله، ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه([14]).
وبكلمة واحدة يمكن أن تكون سببًا في إحياء نفس، قال القرطبي: روي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفًا على رأس الحجاج حين أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمئة فقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف حتى قدم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج، لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرًا قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى قال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} في حق الذين كفروا، فوالله ما مننت ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم * إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فقال الحجاج: أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟ خلوا سبيل من بقي. فخُلي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين، بقول ذلك الرجل»([15])
ويمكن للكلمة أن تغير مجرى حياة إنسان فيتحول من حال إلى حال، وتكون سببًا في هدايته أو شقائه، فهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وكان قبلُ من المترفين المختالين في مشيته، يلبس الحرير ويتقلب في النعم، قال له عبد الله بن كثير: «ما كان بدء إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي فقال لي: اذكر يومًا صبيحتها يوم القيامة»([16])
وهذا إبراهيم بن أهم كان ابن ملك من ملوك خراسان، وكان قد حبب إليه الصيد، قال: «خرجت مرة فأثرت ثعلبًا فهتف بي هاتف: ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. قال: فوقفت وقلت: انتهيت انتهيت، جاءني نذير من رب العالمين»([17])
والصيد من اللهو المباح ولكن اللهو لا يصح لكثير من الناس، ولا تنسجم نفوسهم معه، فهذه الأمة لم تخلق للهو والعبث، ولا يجب أن يأخذ اللهو من حياتها أكثر من الجد، بل الجد هو القاعدة والشاذ هو اللهو، أما أن يأتي العابثون واللهون ويحولون اللهو إلى اهتمامات وغايات ويشغلون الأمة به فهذا من الخطإ الذي لا يغتفر!.
وهذا الفضيل بن عياض، ذكروا أنه كان شاطرًا يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارًا إذ سمع قارئا يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد16] فقال: بلى! وتاب وأقلع عما كان عليه»([18]) فكان بعد ذلك أحد أئمة العباد الزهاد، وأحد العلماء الأولياء، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيدًا جليلا ثقة من أئمة الرواية رحمه الله.
وهذا أبو سليمان الداراني يقول: اختلفت إلى مجلس قاص فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق»([19]) فأصبح بعدُ أحد أئمة العلماء العاملين، وقد حكى هذه الحكاية ليحيى بن معاذ فقال: عصفور اصطاد كركيا، يعني بالعصفور القاص وبالكركي أبا سليمان. (والكركيا طائر كبير).
وهذا الإمام العلامة الحافظ الكبير، محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر الطحاوي الحنفي، صاحب التصانيف، وكان شافعيًا يقرأ على خاله أبي إبراهيم المزني، فقال له يومًا: والله لا جاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك، وانتقل إلى ابن أبي عمران الحنفي، فلما صنف مختصره، قال: رحم الله أبا إبراهيم: لو كان حيًا لكفر عن يمينه»([20]).
وهذا جعفر بن حرب الكاتب كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة، فاجتاز يومًا وهو راكب في موكب له عظيم، فسمع رجلا يقرأ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد16]  فصاح: اللهم بلى، وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه، وردها إلى أهلها، وتصدق بالباقي ولم يبق له شيء بالكلية، فاجتاز به رجلٌ فتصدق عليه بثوبين فلبسهما وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله»([21]).
وهذا الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف، أبو محمد بن حزم، الأندلسي الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير الظاهري، صاحب التصانيف، قال رحمه الله: إن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة، فدخل المسجد، فجلس، ولم يركع، فقال له رجل: قم فصل تحية المسجد»([22])
وهذا الحسن بن علي وكان مزواجًا مطلاقًا، ذكروا أنه طلق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسد وأخرى من بني فزارة وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف وبزقاق من عسل، وقال للغلام: اسمع ما تقول كل واحدة منهما، فأما الفزارية فقالت: جزاه الله خيرًا، ودعت له، وأما الأسدية فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق. فرجع الغلام إليه بذلك، فارتجع الأسدية وترك الفزارية»([23]).
وبكلمة طلق إسماعيل عليه السلام زوجته التي شكت حالها لإبراهيم عليه السلام ولم تكن تعرفه، وبكلمة ثبَّتَ إسماعيل زوجته الأخرى التي حمدت الله على حالها لإبراهيم الذي قال لها إذا جاء إسماعيل فقولي له إن شيخًا كبيرًا جاء وهو يُقرئك السلام ويقول لك: ثبت عتبة بابك.
وبكلمة لبث يوسف في السجن بضع سنين.
وبكلمة في حمية وعصبية أسلم حمزة بن عبد المطلب عم النبي  صلى الله عليه وسلم .
وبكلمة يكتبها كاتب في ختام كتابة قائلاً: (هذا ما كتبه الفقير إلى عفو ربه القدير) أستطيع أن أنقده وأقول له هلا قلت: (هذا ما خطه يراع العزيز بالله) فالكلمة الأولى ليست من الورع والأخيرة ليست من الكبر!.
وبكلمة الختام أقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين.

----------------
([1]) رواه البخاري 6478، مسلم 2988، الترمذي 2314.
([2]) رواه البخاري 6474، الترمذي 2408.
([3]) سير النبلاء 6/10.
([4]) سير النبلاء 7/267
([5]) سير النبلاء 5/286.
([6]) سير النبلاء 6/22.
([7]) سير النبلاء 7/122.
([8]) سير النبلاء 8/436
([9]) سير النبلاء 9/84
([10]) رواه الترمذي 2616، ابن ماجة 3973، السلسلة الصحيحة 772.
([11]) رواه الترمذي 2316، صحيح الترغيب 2882.
([12]) سير النبلاء 9/84 
([13]) تاريخ بغداد 14/7.
([14]) البداية والنهاية 11/273.
([15]) التفسير على آية 4 من سورة محمد.
([16]) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن جوزي ص 149.
([17]) البداية والنهاية 10/139
([18]) البداية والنهاية 10/206
([19]) البداية والنهاية 10/266
([20]) سير النبلاء 15/29.
([21]) البداية والنهاية 11/251.
([22]) سير النبلاء 18/199.
([23]) البداية والنهاية 8/39.

 

مقالات الفوائد