اطبع هذه الصفحة


امْتِثَالُ السّلَفِ الأَبْرَارِ لأَمْرِ النَّبِيِّ المُخْتَارِ(1/2)

بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ


بسم الله الرحمن الرحيم


لقد ضرب سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين أروع الأمثلة في الامتثال لأمره  صلى الله عليه وسلم ، وكان أمره  صلى الله عليه وسلم  يتنزل عليهم بردًا وسلامًا أينما وجدوا وعلى أي حال كانوا، فيجدون في قلوبهم همة على تنفيذه والقيام به، فمن ذلك أنهم نفذوا ما أمر به أو جاء عنه حتى وهم ركوع فعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  «كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ»([1]).

وكان  صلى الله عليه وسلم  يعلم صحابته الكرام أن طاعته من طاعة الله عز وجل، وكان موقفه  صلى الله عليه وسلم  في هذا يصدر عن حبه إياهم وخوفه عليهم من أن يكون عدم طاعتهم إياه سببًا في أن يحول الله بينهم وبين قلوبهم، وتحول نعمته عنهم فيكونوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنَّ النَّبِيَّ  صلى الله عليه وسلم  مَرَّ بِهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَدَعَاهُ قَالَ فَصَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي قَالَ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»([2])
فكان هذا الامتثال، وكانت هذه الطاعة لأمره  صلى الله عليه وسلم  ديدنهم في الحياة، فطاعته هي الخير كله، ولم يزل الصحابة الكرام بعد موته  صلى الله عليه وسلم  على النهج سائرين، فحفظوا العهد الذي فارقهم عليه  صلى الله عليه وسلم  وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وفي الشدة والرخاء، فمن ذلك ما رواه عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أَبُو سَعِيدٍ وَمَرْوَانُ يَخْطُبُ فَقَامَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ الْحَرَسُ يَمْنَعُونَهُ فَقَالَ مَا كُنْتُ أَتْرُكُهُمَا وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَأْمُرُ بِهِمَا»([3])
فقد كان مروان بن الحكم أميرًا على المدينة، وكان يقدم خطبة العيد على الصلاة بدعوى أن الناس لا يجلسون له إن صلى قبل الخطبة فقدم الخطبة على الصلاة وهذا مخالفٌ لهدي المصطفى  صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو سعيد يأتمر بأمره  صلى الله عليه وسلم  حيًّا وميتًا، وإن أزعج هذا الأمراء.
وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  صَاعًا مِنْ طَعَامٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ فَلَمْ نَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ فَكَانَ فِيمَا كَلَّمَ بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ لَا أُرَى مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ إِلَّا تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ هَذَا فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  أَبَدًا مَا عِشْتُ»([4])
ولم يكن معاوية رضي الله عنه مخالفًا للسنة ولكنه اجتهاد رآه، ولكنَّ هذا الاجتهاد لم يعجب أبا سعيد وفضل التمسك بهدي النبي  صلى الله عليه وسلم .
ومعاوية كان من الوقافين عند سُنَّة المصطفى  صلى الله عليه وسلم  ممتثلا لأمره فعن جبير بن نفير أنه سمع معاوية يقول: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  له: إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم. قال معاوية: فإني لا أتبع الريبة فيهم فأفسدهم»([5])
وعن سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ قال: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ أَهْلِ الرُّومِ عَهْدٌ وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ»([6])
وعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا عَلَيْهِ بُرْدٌ وَعَلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ فَقُلْنَا يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَخَذْتَ بُرْدَ غُلَامِكَ إِلَى بُرْدِكَ فَكَانَتْ حُلَّةً وَكَسَوْتَهُ ثَوْبًا غَيْرَهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ إِخْوَانُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدَيْهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيَكْسُهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا يُكَلِّفْهُ مَا يَغْلِبُهُ فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا يَغْلِبُهُ فَلْيُعِنْهُ»([7])
وعن عَلِيٍ بْنِ زَيْدٍ قَالَ بَلَغَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ عَرِيفِ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ فَهَمَّ بِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا أَوْ قَالَ مَعْرُوفًا اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ فَأَلْقَى مُصْعَبٌ نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ وَقَالَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم   عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ فَتَرَكَهُ»([8])
وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم   فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى قَالَ حَكِيمٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم   حَتَّى تُوُفِّيَ»([9])
وعَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَأْمُرُنَا أَنْ نَصْنَعَ لَهُ الطَّعَامَ يَتَسَحَّرُ بِهِ فَلَا يُصِيبُ مِنْهُ كَثِيرًا فَقُلْنَا لَهُ تَأْمُرُنَا بِهِ وَلَا تُصِيبُ مِنْهُ كَثِيرًا قَالَ إِنِّي لَا آمُرُكُمْ بِهِ أَنِّي أَشْتَهِيهِ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»([10])
وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قال: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَسْتُ بِتَارِكِهِنَّ أَنْ لَا أَنَامَ إِلَّا عَلَى وِتْرٍ وَأَنْ أَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَأَنْ لَا أَدَعَ رَكْعَتَيْ الضُّحَى»([11])
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  حَتَّى وَضَعَ قَدَمَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ فَاطِمَةَ فَعَلَّمَنَا مَا نَقُولُ إِذَا أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً وَثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً قَالَ عَلِيٌّ فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ»([12])
وعن وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَقَدَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ نِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَسَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ سَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ»([13])

وقد يكون امتثال أمر النبي  صلى الله عليه وسلم  في أمر من الأمور التعبدية سهلاً ميسورًا وقد يستطيعه كثير من الناس، أما أن يأمر النبي  صلى الله عليه وسلم  أحدهم بالتنازل عن ماله فهذا صعب عسير على النفوس التي جُبلت على حب المال؛ قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر20] ولكن الصحابة نجحوا أيما نجاح في هذه الاختبارات الشاقة، فمن ذلك ما رواه كَعْبٌ بن مالك أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَكَشَفَ سِتْرَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى يَا كَعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَى الشَّطْرِ قَالَ قَدْ فَعَلْتُ قَالَ قُمْ فَاقْضِهِ»([14])

ولم يكتف الصحابة بأن يأمر  صلى الله عليه وسلم  بلسانه بل كانت أعينهم على إشارته ولحظه يجيبونه فيما أشار، وينقادون له فيما لحظهم به، فمن ذلك أن رجلا أتى النبي  صلى الله عليه وسلم  وفي يده خاتم من ذهب فأعرض النبي  صلى الله عليه وسلم  عنه فلما رأى الرجل كراهيته ذهب فألقى الخاتم وأخذ خاتمًا من حديد فلبسه وأتى النبي  صلى الله عليه وسلم   قال هذا شرٌ، هذا حلية أهل النار فرجع فطرحه ولبس خاتمًا من ورق فسكت عنه النبي  صلى الله عليه وسلم »([15])

ووصل الحال ببعض الصحابة أن يكون لهم فهم خاص لكلام النبي  صلى الله عليه وسلم  قد لا يستسيغه كثير من الناس ولكنها الفهوم العالية الواثقة بكلام نبيها، المؤمنة به، فمن ذلك ما رواه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ. قَالَ الرواة: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ لِخَازِنِهِ اذْهَبْ فَخُذْ لِي بِدَيْنٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً إِلَّا وَاللَّهُ مَعِي بَعْدَمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  »([16])

وما أصعب الأمر حين يُخير الإنسان بين مرضاة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ومرضاة من يحبه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كفاطمة ابنته رضي الله عنها، وقد وقع في هذا الاختبار الصعب أبو بكر الصديق ولكنه نجح نجاحًا باهرًا كعادته رضي الله عنه، فعن عائشة قالت: لما توفي  صلى الله عليه وسلم  تعلقت فاطمة آمالها بميراثه، وجاءت تطلب ذلك من أبي بكر الصديق، فحدثها أنه سمع النبي  صلى الله عليه وسلم   يقول: "لا نورث، ما تركنا صدقة" فوجدت عليه، ثم تعللت.
فلما مرضت دخل عليها أبو بكر يترضاها، وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت. قال: ثم ترضاها حتى رضيت»([17])

وكانت هذه الأزمان أزمان تقييم الرجال على أساس الالتزام بالسنة والمحافظة على تطبيقها، وكان الإهمال في تطبيقها سببًا رئيسًا للخصام بين الناس حتى لو كانوا أقرباء، فالمدار على الامتثال لأمره  صلى الله عليه وسلم  والمحافظة عليه، ولم يكن ثَمَّ نفاق اجتماعي كما يحدث بين المسلمين اليوم، حيث تجد الرجل مضيعًا للصلاة والصيام وسائر العبادات، ولا ينتهي عما نهى الله ورسوله عنه من الغيبة والنميمة وتجد الناس يبشون في وجهه ويقولون له القول الحسن، كأن جرمًا عظيمًا لم يحدث، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن الصحابة ما كان عندهم ذلك، يدل على هذا ما رواه نَافِعٍ قَالَ كَانَ لِابْنِ عُمَرَ صَدِيقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُكَاتِبُهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقَدَرِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ»([18])
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَذَكَرَ ابْنُ السَّرْحِ قِصَّةَ تَخَلُّفِهِ عَنْ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةَ حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ثُمَّ سَاقَ خَبَرَ تَنْزِيلِ تَوْبَتِهِ»([19])
وعَنْ خِرَاشِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَتًى يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ لَا تَخْذِفْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  نَهَى عَنْ الْخَذْفِ فَغَفَلَ الْفَتَى وَظَنَّ أَنَّ الشَّيْخَ لَا يَفْطِنُ لَهُ فَخَذَفَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أُحَدِّثُكَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  يَنْهَى عَنْ الْخَذْفِ ثُمَّ تَخْذِفُ وَاللَّهِ لَا أَشْهَدُ لَكَ جَنَازَةً وَلَا أَعُودُكَ فِي مَرَضٍ وَلَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا»([20])

ولما امتثل الصحابة لأمره  صلى الله عليه وسلم  بارك الله لهم في حياتهم وأعمالهم وأوقاتهم وأرزاقهم فمن ذلك ما رواه صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ قَالَ فَكَانَ صَخْرٌ هَذَا الرَّجُلُ رَجُلًا تَاجِرًا فَكَانَ يَبْعَثُ غِلْمَانَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَكَثُرَ مَالُهُ»([21])

فهل لخلف هذا السلف من عودة حميدة إلى دين الإسلام واتباع سنة خير الأنام، والتمسك بأمره  صلى الله عليه وسلم  والانتهاء عما نهى عنه، لنسعد في الدارين؟!
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين.


تابع ..  امِتْثَالُ السّلَفِ الأَبْرَارِ لأَمْرِ النّبِيِّ المُخْتَارِ (2/2)


-----------------------------
([1]) رواه البخاري 41، مسلم 252، الترمذي 340، النسائي 488، ابن ماجة 1010.
([2]) رواه مسلم 806، النسائي 912.
([3]) رواه الترمذي 511، النسائي 1408، ابن ماجة 1113، صحيح الترمذي 2/385.
([4]) رواه البخاري 1505، مسلم 985، أبو داود 1616، الترمذي 673، النسائي/ 2511.
([5]) صحيح الأدب المفرد 1/96.
([6]) رواه أبو داود 2759، الترمذي 1580، صحيح الترمذي 4/143.
([7]) رواه البخاري 30، مسلم 1661، أبو داود 5158، الترمذي 1945، ابن ماجة 3690.
([8]) رواه أحمد 13116، السلسلة الصحيحة 916.
([9]) رواه البخاري 1472، مسلم 1035، أبو داود 1676، الترمذي 2463، النسائي 2531.
([10]) رواه مسلم 1096، أبو داود 2343، الترمذي 709، النسائي 2166.
([11]) رواه البخاري 1178، مسلم 721، أبو داود 1432، الترمذي 760، النسائي 1677.
([12]) رواه البخاري 3113، مسلم 2727، أبو داود 5062، الترمذي 3409.
([13]) رواه أحمد 44، صحيح الجامع 3207.
([14]) رواه البخاري 457، مسلم 1558، أبو داود 3595، ابن ماجة 2429.
([15]) صحيح الأدب المفرد 1/352.
([16]) رواه ابن ماجة 2595، السلسلة الصحيحة 1000.
([17]) سير النبلاء 2/120.
([18]) رواه أبو داود 4613، ابن ماجة 4061، صحيح أبي داود 4/204.
([19]) رواه البخاري 2758، مسلم 2769، أبو داود 4600، النسائي 731.
([20]) رواه البخاري 5479، مسلم 1954، أبو داود 27، النسائي 36، ابن ماجة 3227.
([21]) رواه أبو داود 2606، صحيح أبي داود 3/35.


 

مقالات الفوائد