اطبع هذه الصفحة


شَبَابُ سَلَفِنَا الصَّالِحِين قُدْوَةٌ للنّاشِئِينَ (2/2)

بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ


بسم الله الرحمن الرحيم

السابق :  شَبَابُ سَلَفِنَا الصَّالِحِين قُدْوَةٌ للنّاشِئِينَ (1/2)

في مقالة سابقة تكلَّمنا عن الشباب الذين أبدعهم الإسلام في كافة مجالات الحياة، واعتنينا بأخصِّ خصائص سلفنا الصالح والتي تمثلت في كونهم رهبانًا بالليل فرسانًا بالنهار على علم وبصيرة؛ لذا ذكرنا بعضًا من حياتهم مع الجهاد، والعبادة، وفي هذه المقالة نستأنف ما بدأناه، ونتكلم عما تركناه وقد أبدعه الإسلام في الأُمَّة الأُميَّة، وجعل منها أمة تسيطر على العالم بالعلم النافع والعمل الصالح، وذلك من خلال حياتهم مع العلم والعلماء.

فقد كان  صلى الله عليه وسلم  يعتمد على الشباب فى نشر الدعوة فى بدايتها بمكة حيث أقام الدعوة فى دار أحد الشباب وهو ابن الأرقم، ولا شك أن الدعوة تعتمد على العلم ونقل الوحي، فكان الشباب في ذاك الوقت هم نقلة هذا العلم إلى الناس.

فعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ([1]): أَتَيْنَا إِلَى النَّبِـي  صلى الله عليه وسلم  وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  رَحِيمًا رَفِيقًا فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ قَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ».

فجعل النَّبِـي  صلى الله عليه وسلم  هؤلاء الشبيبة معلمين لقومهم؛ يؤذنون للصلاة ويقيمونها، ويؤمونهم ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وهذا من باب تحميل الشباب بالمسئولية.
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قال: قدم النبي  صلى الله عليه وسلم  المدينة، وأنا ابن إحدى عشرة سنة. فأَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ قَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي قَالَ فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ قَالَ فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ»([2])

ولما أراد أبو بكر وعمر جمع القرآن أثناء حرب الردة كلفاه بهذه المهمة الشاقة، وهذا العمل من أخطر الأعمال فى تاريخ الإسلام تنوء بحمله الجبال.
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ   صلى الله عليه وسلم  إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَبْعَثُنِي وَأَنَا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَلَا أَدْرِي مَا الْقَضَاءُ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ» قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ بَعْدُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ.([3])
فاعتمد النَّبِـي  صلى الله عليه وسلم  على عَلِيٍّ؛ وهو شاب فى منصب من أخطر المناصب وهو القضاء بين الناس لما لهذا المنصب من الجهد والبحث المتواصل عن الحقائق، وتعلم الفقه والعلوم التى بها يقضي بين الناس ولا يتأتى هذا إلا على يد شاب عاقل قوى التحمل رابط الجأش.

وإذا ذُكر العلم ذُكر ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فعنه رضي الله عنه قال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم  قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَا فُلانُ هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ فَقَالَ: وَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ  صلى الله عليه وسلم  مَنْ تَرَى فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ مَا جَاءَ بِكَ أَلا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ فَأَقُولُ لا أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ فَأَسْأَلُهُ عَنْ الْحَدِيثِ قَالَ فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي وَقَدْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ فَقَالَ كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي»([4]).

لذا كان عمر رضي الله عنه يجلسه معه ومع أكابر الصحابة، ويستشيره في الأمر إذا أهمه، ويقول: غص غواص»([5]).
وعن الشعبي قال: قيل لابن عباس: أنى أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول»([6]).
وهذا معاذ بن جبل يقول عنه أبو سلمة الخولاني: دخلت مسجد حمص، فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلاً من الصحابة، فإذا فيهم شاب أكحل العينين، براق الثنايا ساكت، فإذا امترى القوم، أقبلوا عليه، فسألوه، فقلت: من هذا؟ قيل: معاذ بن جبل، فوقعت محبته في قلبي»([7]).

وهذا عثمان بن أبي العاص الأمير الفاضل المؤتمن. أبو عبد الله الثقفي الطائفي. قدم في وفد ثقيف على النبي  صلى الله عليه وسلم  في سنة تسع فأسلموا، وأمره عليهم لما رأى من عقله وحرصه على الخير والدين وكان أصغر الوفد سنًّا»([8]).

وهذا سيبويه إمام النحاة، لزم الخليل بن أحمد فبرع في النحو، ودخل بغداد وناظر الكسائي، وكان شابًّا حسنًا جميلاً، وقد تعلق من كل علم بسبب، وضرب مع كل أهل أدب بسهم، مع حداثة سنه. وقد صنف في النحو كتابًا لا يلحق شأوه، وشرحه أئمة النحاة بعده فانغمروا في لجج بحره، واستخرجوا من درره، ولم يبلغوا إلى قعره، توفي وعمره ثنتان وثلاثون سنة»([9])

وهذا سفيان الثوري يقول عنه أبو المثنى: سمعتهم بمرو يقولون: قد جاء الثوري، قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه.

قال الذهبي: كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه وحفظه، وحدث وهو شاب. وأجل إسناد للعراقيين: سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.

وقال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، ويحيى بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومئة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان. وعن أيوب السختياني قال: ما لقيت كوفيًّا أفضله على سفيان. وقال البراء بن رتيم: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما رأيت أفضل من سفيان»([10]).

وهذا الشافعي يولد بغزة، ويموت أبوه وهو صغير فتحمله أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فينشأ بها ويقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، ويحفظ الموطأ وهو ابن عشر، ويفتى وهو ابن خمس عشرة سنة»([11])، وقد أجاز له شيخه مسلم بن خالد الزنجي أن يفتي فقال: أفْتِ يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفْتِيَ، وهو ابن خمس عشرة سنة»([12]) قال أبو عبيد: ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعي، وكذا قال يونس بن عبد الأعلى، حتى إنه قال: لو جمعت أمة لوسعهم عقله»([13])

وهذا الإمام  محمد بن إسماعيل البخاري الحافظ صاحب الصحيح، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، ولد البخاري رحمه الله في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات أبوه وهو صغير فنشأ في حجر أمه فألهمه الله حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة حتى قيل: إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديث سردًا، وحج وعمره ثماني عشرة سنة؛ فأقام بمكة يطلب بها الحديث، ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث. وقد كان رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء.

قال الفلاس: كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث. وقال أبو نعيم أحمد بن حماد: هو فقيه هذه الأمة. وقال مرجى بن رجاء: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء - يعني في زمانه. وقال: هو آية من آيات الله تمشي على الأرض. وقال الدارمي: محمد بن إسماعيل البخاري أفقهنا وأعلمنا وأغوصنا وأكثرنا طلبًا. وقال إسحاق بن راهويه: هو أبصر مني. وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.

وكان يختم القرآن في كل ليلة من رمضان ختمة، وكان له مال جيد ينفق منه سرًّا وجهرًا، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس»([14])

وهذا ابن الجوزي الحنبلي، مات أبوه وعمره ثلاث سنين، فلما ترعرع لزم الشيخ محمد بن ناصر الحافظ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث وتفقه بابن الزاغوني، وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، وكان وهو صبي دينا مجموعًا على نفسه لا يخالط أحدًا ولا يأكل ما فيه شبهة، ولا يخرج من بيته إلا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان، وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف، وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون، وربما تكلم من خاطره على البديهة نظمًا ونثرًا، وبالجملة كان أستاذًا فردًا في الوعظ وغيره.
جمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلد، وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة»([15]).

وهذا ابن تيمية يبدأ درسه وكان عمره اثنين وعشرين سنة، وحضر عنده قاضي القضاة، وشيخ الشافعية، وكبار الأعيان والشيوخ، وكان درسًا هائلاً، وقد كتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكثرة ما استحسنه الحاضرون. وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره.

وكان درسه بعد ذلك يجتمع به الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة، وقد سارت بذكره الركبان في سائر الأقاليم والبلدان»([16])

أيها الإخوة الكرام: هذا غيض من فيض، وفي سيرة سلفنا الصالح من الشباب ما يجل عن الحصر، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وعلى شبابنا وناشئينا الاهتمام والعناية بهذه السيرة المباركة واتخاذهم قدوة؛ حتى يلحقوا بركبهم وينهلوا شيئًا من بركاتهم التي حلت عليهم بفضل جهادهم وعبادتهم، وعلمهم.
فأسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يرزق الأمة شبابًا كهؤلاء؛ ليستأنفوا إعادة بناء تاريخ الأمة التليد المجيد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


-----------------------------
([1])  رواه البخارى 631، مسلم 674، أبو دادود 589، الترمذى 205، النسائى 634، ابن ماجة 979.
([2]) رواه أبو داود 3645، الترمذي 2715، صحيح سنن أبي داود 3/318.
([3]) رواه  أبو داود 3582، الترمذى 1331، ابن ماجة 2310، صحيح سنن ابن ماجة 2/774.
([4]) رواه الدارمي 570، ورجاله ثقات.
([5]) سير النبلاء 3/346.
([6]) البداية والنهاية 8/301.
([7]) أخرجه الحاكم 3 / 269، أبو نعيم 1/230.
([8]) سير النبلاء 2/374.
([9]) البداية والنهاية 10/182.
([10]) سير النبلاء 7/236.
([11]) البداية والنهاية 10/263.
([12]) تاريخ بغداد 2/64، سير النبلاء 10/16.
([13]) المناقب للبيهقي 2/185، سير النبلاء 10/15.
([14]) البداية والنهاية 11/27.
([15]) البداية والنهاية 13/31.
([16]) البداية والنهاية 13/320.



 

مقالات الفوائد