اطبع هذه الصفحة


كُنا نشْكُو " الجَدْبَ " ثم صِرْنا نَشتَكِي " التُّخْمَة " !!

أبو همام السعدي


بسم الله الرحمن الرحيم
 

اللهم ربنا لكَ الحمدُ على ما أسبغت من العَطَاء , وأسبلت من الغِطَاء , ونعوذ بكَ اللهم من كفران النِّعم , وجحد العطايا والمِـنَن , ونطلب منكَ ربَّنا العفو عند التَّقصير , واليسرَ عندَ التَّعسير .


 
فلو كانَ يستغني عن الشكر ماجدٌ *** لعزةِ مُلكٍ أو عُلو مكـانِ

 
لمـَا أمر الله العبادَ بشكـرِهِ ** فقـال: اشكروني أيها الثقـلانِ


* إنَّ المسلمينَ ليشاهدون ما وسَّع الله به على الأمةِ الإسلاميةِ المحمديةِ توسيعاً فسيحاًً , فزادهم من عندِهِ وأعطاهم من فضلِهِ , وما ذاكَ إلاَّ ليشكروا ولا يكفروا , ويحمدوا ولا يسخطوا , ويجتهدوا ولا يتكاسلوا , فاشتعلتْ عندَهم الظنونُ وما حُقَّ لها أن تشعتل ! وتسامتْ بظنهم الأفكار وما حقَّ لها أن تَسومَ ! إلى أنهم من خيرِ خلقِ اللَّهِ , وأنهم يسكنونَ بينَ نعمِ اللَّه , تكريماً وإكراماً , وتحسيناً وإحساناً....

 
هكذا ظنُّوا وإليهِ رمُوا !


* فأَخبتْ بظنِّهم ورميهِم لما لم يُصوِّبوه , وأسفلْ بحدِّ نَظرتهم لما لم يعتبروه , فوالله ما رعوها حقَّ رعايتها, ولا فكَّروا بها حقَّ رمايتها , إي وربي ...! لقد تاهوا بينَ النعمِ تِطوافاً وتِرحالاً, وسكنوا بينها ذهاباً وإياباً .

 
تصفو الحياةُ لجاهلٍ أو غافلٍ *** عمَّـا مَضَى فيها وما يُتوقَّـعُ

 
ولمن يغالـط في الحقائقِ نفسَهُ *** ويسومها طلبَ المحال فتطمعُ


* ما علموا ولا تيقظوا أنهم في الأرضِ ليُختبروا ! نعم.. إنهم عن هذا غفلوا فأخطئوا ..!
* ما سمعوا ولا تبصروا أنهم تحتَ السماءِ ليبتلوا ! نعم..إنهم عن ذاكَ جهـلوا فكَذبوا..!

قال تعالى في محكمِ التنزيلِ {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وقال { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقال { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } وقال { نَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } وقال {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }

* إني لأصيحُ بالنداءِ إلى رجالِ خلقِ اللهِ -أعنِي منهم الفطنَ الحصين- , وأشعل لهم الأنوار ليستضيئوا بنورِ اليقينِ , ليقارنوا بينَ هذا وذاكَ , بعدَ تغيِّر الزمانِ والمكانِ , واختلافِ الأحوالِ والأزمانِ


 
فما الناس بالناس الذين عهدتهم *** ولا الدارُ بالدارِ التي كنتُ أعرفُ


 
نعم ذهبَ الناسُ...


 
ذهبَ الناس فاستقلّوا وصِرنـا *** خلفـاً في أراذلِ النّسناسِ



 
· كانَ المسلمونَ فيما عبـَر الزمانَ يشكونَ جدب (اللباسَ) وقلَّتهُ, ثم صرنا نشتكي تخمةَ (الألبسةِ) وتنوعها وزينتها وكثرتها .



 
ليسَ الجمـال بمئـزرٍ *** فاعلم وإن ردِّيت برداً
إنَّ الجمـالَ معادنٌ *** ومناقبٌ أورثنَ مجـداً


لقدْ كانَ سلفنا في زهدٍ وشكوةٍ من قلةِ الغطاءِ, فما يجدُ الواحدُ منهم إلا إزاراً أو رداءًا.
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ فَقَالَ إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم جاءَ خلفُ السلفِ فأصبحَ الرجل لا يكفيه السبعةُ أثوابٍ ولا العشرةِ , ولا يكفيه العباءةُ ولا العباءتان , بل تراهُ يتذمَّمُ إن لم يكنْ عندَه من كلٍّ لِبسٍ صنفانِ , ومن كلِّ خرزٍ خرزتان !!


 
ألا إنما الدنيا غضارةٌ أيّكة *** إذا اخضرَّ منها جانبٌ جفَّ جانبُ


يا عبادَ الله !!
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ حُلَلِ الإِيمَانِ يَلْبَسُ أَيَّهَا شَاءَ.



 
* كان المسلمونَ فيما غبـرَ الزمان يشكونَ جدب (الطعام) من المأكل والمشرب, ثم صرنا نشتكي تخمةَ (الأطعمةِ) والتكثر من أصنافها والتمني لكثرةِ غلائها.



 
فإنَّ الداء أكثر ما تراه *** يكونُ من الطعامِ والشراب


لقدْ كانَ سلفنا الصالح في زهدٍ من التكثرٍ وفي طلبٍ من التقلل فضلاً عن وجودِ قلةِ ذاتِ المأكلِ عندهم فعَنْ عَائِشَةَ –رضيَ الله عنها- قَالَتْ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِى يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.
ثم جاءَ خلف السلفِ فتجاوزوا في الحلالِ وما اقتصدوا, فأصبحوا على مأكلٍ ومشربٍ وأمسوا على ذلكَ, فلا تطيب أكلاتهم إلا بالتنوعِ منها كلِّ يومٍ بل وفي كلِّ أكلة لا يهمُّه رخصها من غلاءها!! همُّهُ إملاءُ البطونُ وقضاء الحاجاتِ في المراحيضِ والحفوش.

 
كحمار السوءِ إن أعلفتَه *** رمحَ الناسَ وإن جاعَ نهق


عبادَ الله !! –تذكروا هذه الحادثة-:

 
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}

فأخبتْ بمنْ حرصَ إلى ملذاتِ الدنيا , أعاذنا من شرِّ الحرصِ والانفلات إليها ....وصدَق الشاعرُ إذ قال:


 
سقَامُ الحرص ليسَ له دواء *** وداءُ الجهل ليسَ له طبيبُ

وأصدق منه الآخرُ:

 
ثلاث هنَّ مهلكةُ الأنــامِ *** وداعيةُ الصحيح إلى الأسقــام

 
دوامُ مـداومـةٍ وداومُ وطـئٍ *** وإدخالُ الطعامِ إلى الطعـام



 
· كانَ المسلمون فيما سبَقَ الزمانُ يشكون جدبَ (الوقتِ) وبضاعته, ثم صرنـا نشتكي تخمةَ (الفراغِ) وكثرته.


لقدْ كانَ السلف الصالح من أحرصِ الناس على الوقتِ واستغلاله, فلا يعرفون راحةً ولا استراحةً بل لما سئِلوا وهم في كدِّ مصبوب في علم الحديث: يا إمامُ ألا ترتاح!؟ فيجيبهم بقناعةٍ عجيبةٍ وهمةٍ عزيمة: راحتهـا أريد !
ولـما جاءَ خلفهم أصبحوا لا يعرفونَ للوقتِ حرمةً ولا عزةً , فتلهوْ بملذاتِ الدنيا وزينتها , وشغل دينهم الحرص على الدنيا والانكباب إليها !!

 
والوقتُ أنفس ما عُنيت بحفظِهِ *** وأراهُ أسهل ما عليـكَ يضيـعُ

ألم يقسمِ الله بالوقتِ في كتابه العزيز:

 
{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

عبادَ الله !!
قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغ...فلا تكنْ من المغبونينَ الخاسرين..

 
إن الشبابَ والفراغَ والجدة *** مفسدةٌ للمرءِ أيّ مفسدة



 
* كانَ المسلون فيما ادلَهمَّ به الزمانُ يشتكون جدبَ (الفتوى) وقلةِ رجالها والوصول إليها, ثم صرنـا نشتكي تخمةَ (الأفتية) من الصغير والكبير والجهلةِ الخمير.


لقد كانَ السلف الصالح يخافون الفتيا ويهابونها, فكانَ الإمام مالك –رحمه الله- يعلِّم تلامذتهَ قول "لا أدري", وكانَت الفتيا توكيلٌ من والي الدولةِ مختاراً له .
ثم جاء خلف السلفِ فتزاحموا الفتيا في المجالسِ وفي القنواتِ الفضائية فعجَّت ومجَّت بكل عالمٍ ومتعالمٍ وجاهل, فتزاحمتْ أسماعنا بالأباطيل والأعاجيب بين الحين والآخر, فهذا يُفتي بحلِّ الحرام وآخر يحرِّم الحلال...- والله المستعان -.



 
تصدَّر للتدريس كل مهوس *** جهولٌ يسمَّى بالفقيه المدرِّسِ
فحقَّ لأهْلِ العلمِ أن يتمثَّلوا *** ببيتٍ قديمٍ شاعَ في كلِّ مجْلسِ
لقد هَزلَت حتى بدا من هُزَالِها *** كُلاها وحتَّى سامها كلُّ مفْلِسِ


عبادَ الله!!-ألم يقلْ رسول ربكم محمد عليه الصلاة والسلام-:

 
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.

عبادَ الله !!-ألم يقلْ رسول ربكم محمد عليه الصلاة والسلام-:

 
« مَنْ أُفْتِىَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ » .



 
* كانَ المسلمون فيما ادلَهمَّ به الزمانُ يشكُون جدبَ (الدروس) وقلتها من أهلِ العلمِ مباشرةً أو سماعاً, ثم صرنـا نشتكي تخمةَ (الدروس) متنوعة الفنون مختلفة العلوم .


كان السلف الصالح من أهل الحرصِ الجادِّ في الطلبِ, ويظهرُ ذلكَ بارزاً في رحلاتهم الطويلة والكثيرة, فكانوا يجوبوا العالمَ ليتعلموا عندَ الإمام الفلاني, فرحلَ طلبة جهابذة للتلمذةِ على يدِ الإمام أحمد بن حنبل.
ثم جاء سلفهم من الخلف فتوفَّر لهم المشايخُ وأهل العلمِ بل تيسَّر الوصول إليهم فما يدري الطالبُ إلى أيِّهم يذهبُ ويدرسُ؟! لا أقول في شكوتنا هذه أننا نرجو زوالها !! لا والله ولكن تذممهم المستمر في أمرين:

(1) تقصيرِ أهل العلم في التدريسِ, وما أصابوا المحجَّةَ في قولهم .
(2) انفلاتهم إلى أيِّ كل درسٍ يسمعوا بهِ, سواء أكانَ في ابتداءِ العلوم أو في انتهائها, وسواء أكانَ في شرحِ "ثلاثةِ الأصول" أو في شرحِ "المنطق" ذهبوا وانطلقوا كأنهم خُلقوا ليستمعوا لا ليتعلموا فأفقدوا التدريجَ في العلوم وهكذا حالُ الكثير –والله المستعان- .

* فلا والله لا أجملَ من الاقتصادِ في كلِّ الأمورِ , في الملبسِ والمأكلِ والمشربِ والوقتِ [ساعةً وساعةً] والفتيا بإفضائهِ إلى الغيرِ عندَ عدمِ المقدرةِ , والتصدرُ له عندَ الحاجةِ , "وفي كلِّ الأمور كنْ مقتصداً ...



 
قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}
وقال تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا
ْْ}


 
وصدقَ الشاعر إذ قال:

 
عليكَ بأوساطِ الأمور فإنها *** نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعباً


ثم إنِّي أذكِّر بجامعُ ما وصفناه وأردناه بكلامٍ من جامعِ الوحيِ لطيف مذكِّر:
قال تعالى:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
وفي الحديث الصحيح:
عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي قَوْمٌ يُغَذَّوْنَ فِي النَّعِيمِ، وَيُولَدُونَ فِي النَّعِيمِ ، لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ سِوَى الطَّعَامِ وَأَلْوَانِ الثِّيَابِ، -ويَتَشدَّقونَ فِي الكَلامِ- أُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي.

 
خطبتني الدنيا فقلت لها ارجعي *** إني أراكِ كثرة الأزواج


 
أبو همام السعدي
الموافق 28 / 12 / 2010 م

 

مقالات الفوائد