صيد الفوائد saaid.net
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







منهجية التغيير التربوي

محمد الغباشي
ghobashy79@hotmail.com


بسم الله الرحمن الرحيم


لا يعيش المصلحون الحقيقيون على مر التاريخ في أبراج عاجية بعيدين عن واقعهم، مكتفين بالتنظير وتقعير الأحاديث وتنميق الكلمات، بل إنهم أكثر عناصر الأمة بذلاً وتضحية وعطاءً في سبيل ترجمة أفكارهم في شخوص تغدو وتروح، فلئن كان الفلاسفة الماضون والمعاصرون قضوا أوقاتهم ويقضونها في الكشف عن علل الحوادث وتوصيفها تفصيليًّا دون الخوض في وضع حلول جذرية واقعية لها؛ مكتفين بالشهرة منقطعة النظير التي حققوها، أو تذييل أسمائهم لبحوث ومؤلفات فلسفية تتفنن في وضع أسماء الأمراض المجتمعية، أو الغوص في دقائق جدل لا طائل من ورائه، فإن المصلحين على النقيض من ذلك؛ لا يهتمون كثيرًا بسبر أغوار العلل بقدر ما يهتمون بإزالة عوارها ونسف أسبابها وآثارها المَرَضِيَّة، وسواء عليهم في ذلك أذكرهم الناس وتداولوا أسماءهم في مجالسهم وأحاديثهم أم نسوهم وطوتهم صفحة التاريخ محتفظة بآثارهم وما فعلوه على الأرض؛ يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء".

وحركة التغيير والإصلاح لم تتوقف منذ خلق الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا ينتظر لها أن تتوقف، ولكنها تتشكل وتتغير صورتها وفق تغير الزمان والمكان وتبدُّل الأحوال، فما يناسب موضعًا قد لا يناسب آخر، وما يؤثّر في زمن قد لا يؤثر في زمن أو عصر آخر... وهكذا، إلا أن ثمَّ اتفاقًا على أن عملية التغيير التربوي تتداخل بشكل مؤثر مع غالبية أنواع التغيير الأخرى كالتغيير السياسي والجهادي والعلمي، وقد تتخذ شكلاً مستقلاً في بعض المجموعات وحركات الصحوة التي يشكِّل هذا النموذج مرحلة جوهرية في حياتها تستمر معها إلى عقود من الزمن، باعتباره مقدمةً وتمهيدًا لأنواع أخرى من التغيير قد تأتي في مراحل لاحقة.

وبالنظر إلى المرحلية النبوية في التغيير خلال الفترة المكية –التي تشبه في كثير من جزئياتها حالة الاستضعاف الإسلامي المعاصر في كثير من الدول- سيتبين من خلال الخطاب الإلهي أن حركة التغيير التربوي كانت مركَّزة ومكثَّفة في القرآن المكي في مرحلة ما قبل المواجهة والتمكين وإنشاء الدولة، والتي هي مرحلة إعداد الأنفس لحمل ثِقَل وعِبْء الأمانة والانطلاق بها في الناس تبشيرًا وتعليمًا وجهادًا، حيث التركيز على ربط القلوب بخالقها، والولاء له، وحبه والخوف منه -عزّ وجل-، مع نبذ الجاهلية الأولى وتعاليمها وعاداتها وشركياتها، ومطالبة مشركي مكة بحقوق المسلمين في التخلية بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين الناس ونبذ الظلم والتشنيع على الظالمين، ومن ثَمَّ الانطلاق من هذه الركيزة إلى فضاءات المراحل الأخرى التي صاحبت الهجرة ونشر الدعوة وإزالة قوى الطغيان التي وقفت حجر عثرة في سبيل امتدادها الطبيعي.

وقد تميزت هذه الفترة بالحسم والحزم إزاء محاولات التوفيق أو الوصول لحلول وسط بين الكفر والإيمان؛ وذلك فيما يبدو كان نوعًا من الإعداد للمعركة الحاسمة في بدر فيما بعد، لتتميز الصفوف، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42]، فمن ذلك محاولة إثنائه -صلى الله عليه وسلم- عن الصدع بالحق وتسمية شركهم شركًا وجاهليتهم وإلحادهم كفرًا وجاهلية وإلحادًا، ومن ذلك أيضًا محاولتهم الحصول على مكاسب لحظية بعبادة المؤمنين آلهتهم عامًا وعبادتهم الله -عز وجل- عامًا، فجاء الرفض حاسمًا ومجلجلاً: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [سورة الكافرون]. فقد تميزت هذه الفترة بنوع مختلف من المواجهة المعهودة لتعاليم الجاهلية، حيث هي مواجهة فضح وتعرية لا التباس فيها ولا مداراة، إلا أنها لم تكن لتصل إلى حد المواجهة المسلحة التي جاء دورها بعد اشتداد عود المسلمين ورسوخهم في الإسلام قولاً وعملاً وتصلُّب شوكتهم.

وقد حفلت السيرة النبوية بكثير من المواقف التربوية يهتدي بها المربون، ويستنير بها طالبو التغيير على مدى التاريخ؛ استجابةً للحكمة الإلهية والقاعدة الكونية: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، (ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].

وليس مقصودنا في الحديث عن التغيير التربوي ذلك الذي تضطلع به المؤسسات التربوية التعليمية الرسمية في الدول، كالمدارس والجامعات والمعاهد العلمية، وإنما نقصد في هذا البحث التغيير الذي تتبناه فصائل الصحوة الإسلامية، والذي يُقصد به غرس القيم والمبادئ والأسس الإسلامية في نفوس الأفراد، والقضاء على الأمراض النفسية والمجتمعية المتأصلة فيها، وتغيير السلوكيات المرضية التي ربما نشأت عن طريق التفاعل السلبي مع عناصر المجتمع المختلفة والتخلي عن مبادئ الإسلام لفترة من الزمن؛ بغرض إنتاج أفراد أسوياء مؤهلين لقيادة الأمة ومزاولة أصناف التغيير الأخرى التي لم يحن بعد دورها.

لماذا هو الأصعب؟!

وهذا النوع –التغيير التربوي- هو أصعب أصناف التغيير التي سبق ذكرها؛ إلا أنه أنجحها وأنجعها على الإطلاق، وتكمن صعوبته في عدة أسباب:

السبب الأولى:
أن عملية التغيير التربوي تعالج النفس البشرية، وتستهدف إحداث تغيير في سلوك الفرد أو مجموعة من سلوكياته، ولا شك أن النفس البشرية هي الأصعب، سواء في التعامل أم في عملية التغيير؛ وذلك لما قد يكمن فيها من مشاعر متضادة ومتضاربة ومتناقضة في آن واحد، فمشاعر الفرح والغضب والتطلع والانزواء كلها قد يشعر بها الفرد متزامنةً، وعلى المربي أن يراعي وجود تلك المشاعر حينما يرتجي إحداث تغيير في إحداها.

السبب الثاني:
أن عملية التغيير التربوي عملية طويلة المدى، قد تستغرق من حياة المربي سنين طويلة في حالة المتربي الواحد، وعقودًا أطول في حالة تغيير المجتمعات الكبرى، فقد تستهلك عملية التغيير التربوي العشرات والمئات من المربين في سبيل القضاء على حالة من الوهن غشيت مجتمعًا ما، أو تعديل سلوكيات عصبية تفشت في مجتمع آخر، أو إعادة برمجة النفوس على نبذ سلوك عدواني تجاه مجتمع مغاير... وهكذا.

السبب الثالث:
أن عملية التغيير التربوي تحتاج إلى تفرغ شبه كامل من المربي لإحداث الأثر المرجو، فانشغال المربي بالدنيا وسعيه لإدراكها والتنعم بزينتها قد يفسد العملية برمتها، وقد يكون ذلك حجر عثرة في سبيل استمرار عملية التغيير بوضعها الراهن؛ لذلك فإن المربي نفسه ينبغي أن يكون على استعداد تام للتضحية بحياة الرفاهية التي قد يطلبها البعض، وعلى المؤسسات الدعوية أن تضع في حسبانها منهجًا جديدًا في التعامل مع مثل هذه القضايا، وقد يكون مشروع كفالة المربي من فروض الكفايات شأنه شأن كفالة اليتيم وكفالة طلبة العلم، بل قد يكون في بعض المواضع أولى من كفالة طلبة العلم وحَفَظَةِ كتاب الله تعالى، فالمربي الواحد قد يتخرج من تحت يده في مدة زمنية ما عشرةٌ من حفظة كتاب الله، وثلاثة مربين، وسياسي ومفكر و...، وكل مربٍّ من الثلاثة يتخرج على يديه مثل ما قلنا، وهكذا في متوالية حسابية قد تصل إلى عشرات الآلاف، لذا فهو أولى بالرعاية والعناية والكفالة من غيره، لا سيما في ظروف هذا العصر الذي زادت فيه متطلبات الأسر، وكثرت فيه أعباء البشر. لذا فإننا ندعو المؤسسات الدعوية الكبرى لتبني مثل هذا المشروع، ووضعه قيد الدراسة، والبحث في إمكانية تطبيقه على المربين المشهود لهم بالخبرة والكفاءة وحسن الأداء.

السبب الرابع:
قلة الكوادر التربوية وندرتها على مستوى العاملين للإسلام؛ فـ"الناس إبل مائة قلَّما تجد فيها راحلة"، فعلى تعدد فصائل الصحوة الإسلامية وتنوعها قلما تجد عالمًا ربانيًا عاملاً يربي الناس على صغار العلم قبل كباره، ويراعي ما بينهم من فوارق اجتماعية واقتصادية وعقلية، ويرسخ فيهم العلم والعمل والأدب، ويعلهم الإيمان والقرآن معًا، بل الغالب هو حشو الأدمغة بالمعارف والعلوم، وتصدير الشباب اليافعين للعمل الدعوي والسياسي قبل تمام النضج، والتجرؤ على النقد اللاذع الهدّام للحركات وتكريسه بل والحث عليه وجعله ديانة يتقرب بها الداعية إلى الله زلفى؛ هذه الحالة من التناقض نلمسها في بعض الأدبيات الدعوية التي تؤصل -على سبيل المثال- لأدب الخلاف في المؤلّفات والأبحاث، بسوق نماذج من التسامح بين المتخالفين من السلف والخلف، وأدلة ذلك من الكتاب والسنة، فإذا نزلنا إلى "أرض المعركة" فإن لغة التلاسن والتباغض والتشاحن وإساءة الظن وإعجاب كل ذي رأي برأيه هي المسيطرة، فهي سفسطائية دعوية أو جدلية تربوية فحسب، لا تتعدى التنظير الورقي، أما الواقع العملي فإنه يبتعد ويقترب من تلك الحقائق بحسب ما في النفوس من إيمان وورع، وما زُرع فيها من مبادئ تربوية عميقة.

السبب الخامس:
سهولة ما دونه من المناهج المغايرة، وكثرة أتباعها وتحمسهم لها؛ نظرًا لما يلاقونه من ثمرة سريعة ونتيجة منظورة، وفي المقابل قلة أتباع المهتمين بذاك النوع من التربية، ومللهم من تأخر النتيجة، واستعجالهم لقطف الثمرة، فيلجأون إلى غيره استعجالاً، فالأتباع يقارنون بين ما هم فيه من سير حثيث علميًّا ودعويًّا وتربويًّا وسياسيًّا، وبين ما يجنيه أقرانهم علميًّا ودعويًّا وظهورهم في المنابر الدعوية والسياسية، ورحم الله من قال:

من لي بمثل سيرك المدللِ *** تمشي رويدًا وتجي في الأولِ

فالعبرة بالنتيجة النهائية، فالأفراد الذين تتم تربيتهم والاهتمام بهم من جميع جوانب الصقل وتنمية القدرات وزرع الأخلاق والقيم ليسوا كغيرهم من الذين يُهتَم بإنمائهم في أحد الجوانب وإهمال بقيتها، أو أولئك الذين يتم تكليفهم بالمهام السياسية والدعوية بمجرد انتمائهم للحركة أو بعد مرور مدة لا تتناسب والقدر الكافي من التحصيل العلمي والأخلاقي والإداري، فهذا من شأنه أن يحدث تشوهًا فكريًّا لدى الأفراد قد لا يمحوه الزمان، ورغم هذا الضرر إلا أن الفطرة البشرية العجولة تأبى إلا الانسياق وراءه والافتتان به؛ (وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً)؛ ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها، وقد يفعل الفعل ويعجل به على نفسه وهو لا يدري، أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماح تطلعه وضبط زمامه.

لماذا هو الأنجع؟!

ومن أسباب كون المنهج التربوي أنجع الأساليب في تغيير المجتمعات وإعدادها لتحمل المسؤوليات الدعوية والسياسية والجهادية:

1/ أنه يرسخ المبادئ والقيم عن طريق المخالطة والمعايشة والمتابعة المستمرة للأفراد؛ حيث يهدف إلى معاجلة ما قد يشوب النفس من أمراض مجتمعية وقلبية ودعوية، وزرع الأخلاق الفاضلة، عن طريق التكرار وباستخدام أساليب متعددة؛ منها التلقين العلمي، والممارسة الحياتية بالمواقف الواقعية، والمتابعة المستمرة والدقيقة لحال المتربي، بالإضافة لاتباع المربي أساليب تربوية أخرى كالهجر والتحفيز والإثابة، وذلك بخلاف أسلوب التغيير العلمي مثلاً، فهو يعتمد بشكل أساسي على تلقين العلوم وحفظها واستيعابها وإعادة تدريسها والتعمق فيها بدراسة الشروح والحواشي وشروح الشروح والحواشي على الحواشي، وما كان من اهتمام بالنفوس وإصلاح المعطوب منها وخلخلة أمراضها وتنمية قدراتها -التي قد لا تكون بالضرورة قدرات علمية- فإنه يأتي تاليًا وتابعًا للأسلوب الأساس، هذا إن كان محل اهتمام من حيث الأصل.

2/ أن هذا النوع من التربية الجادة المستضيئة بكتاب الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- هي الضمانة الحقيقية لنشوء مجتمع يعيش بالإسلام ومنهجه قلبًا وقالبًا، قولاً وعملاً، تنظيرًا وتطبيقًا، حيث ربانية المنبع، ووضوح المنهج، وواقعية الأهداف، ووعي للواقع واستيعاب تام لاحتياجاته ومتطلباته، هذه التربية التي أنشأت قادة ومفكرين ومجاهدين وعلماء ربانيين على مدى التاريخ الإسلامي المشرق، وهكذا نشأ المجتمع الإسلامي الأول على يد سيد البشرية ومعلم الإنسانية -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، وما كان صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- إلا مجرد نتيجة لعشرات السنين من التربية الجادة والعميقة على منهج الله تعالى وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وإعداد الجيل الذي أعانه وعضَّدَه في تجميع الأمة الإسلامية وإعادة بعثها وإرجاع بيت المقدس إلى الحظيرة الإسلامية.

3/ قدرة الأفراد على الصمود أمام الضربات الأمنية المختلفة، حيث القدرة على ابتكار أشكال غير نمطية من العناية بالأفراد ومتابعتهم وتنمية قدراتهم العلمية والإدارية غير الشكل التقليدي المتمثل في شيخ وتلاميذ وكتاب، فغاية ما يربط التلاميذ بالشيخ هو الكتاب والدرس، فإذا انفضّ الدرس انفض التلاميذ عن الشيخ، وإن كانت هذه الطريقة مطلوبة وأثبتت نجاحها في بعض المناطق من العالم، إلا أن الاعتماد عليها كليًّا دون ربط التلاميذ بنوع من المتابعة المستمرة لأحوالهم، واختراق المربي لدواخلهم ومشكلاتهم والقيام معهم بدور اجتماعي مؤثر، هذا من شأنه أن يسهِّل من عملية فضِّهم وضربهم أمنيًّا بسجن الشيخ أو التضييق عليه أو حتى سفره ووفاته.

4/
إخراج أفراد وعلماء ومفكرين ومجاهدين لديهم من التوازن النفسي والفكري ما يؤهلهم لقيادة الأمة والتأثير في آحادها ومجموعاتها وقبول الآخَر الدعوي، وما يتيح لهم الانفتاح على كافة فصائل الصحوة المُتَّفِقَة في المبادئ الأساسية والمنتمية لمذهب أهل السنة والجماعة، مهما كانت الخلافات في الفروع وأسلوب إدارة العمل وطريقة التغيير المُنْتَهَجة، وهو الأمر الذي يتيح لهم حرية الحركة بين عناصر الصحوة المتعددة وإسداء النصيحة التي هي أساس الدين، فأساس قبول النصح الاحترام المتبادل، فإن تحقق الاحترام فهو أدعى لقبول النصيحة أو حتى لدراسة مقتضياتها واستحقاقاتها.

ولعلي أختم هنا بكلام نفيس للأستاذ محمد أحمد الراشد ساقه تدليلاً على أهمية التربية في إخراج منتَج مفيد بغض النظر عن ميدان إفادته، مراعيًا في ذلك مدى ما لديه من قدرات ومقدرة على استيعاب العلوم وهضمها وإعادة إنتاجها في صورة جديدة تنفع الأمة وتسد ثغرًا في احتياجاتها؛ حيث يقول: "وجوهر هذه التربية: نقل الداعية من أن يكون مجرد مستهلك إلى أن يكون منتجًا، وتحويله من النظرية إلى التطبيق العملي، ومن التعميم إلى التخصيص، بأن يتعهد بوضع لبنة في الصرح، ولا يكفي أن يكون محلقًا مع العواطف العالية من دون أن يتميز بنوع إضافة، ونحمله على أن لا يغادر الدنيا هذه إلا من بعد أن يقدم شيئًا محسوسًا يبقى بعده، من كتاب فيه علم، أو تجارة فيها حفظ مال، أو مصنع يقرب الأمة خطوة نحو التمكين ويوحي بجهاد، أو أبيات شعر تسير، أو مؤسسة تخدم غرضًا، أو اختراع فيه إبداع، أو لوحة رمزية تجريدية تثير الخبء، وأقل ذلك المشاركة في بناء مسجد أو تأسيس صندوق خير، ونقبل من صاحب العذر: الترميم والإحياء والصيانة لإنجاز مَنْ سلف... وكل منهجيتنا التربوية كان الفقهاء يسمونها "جهاد النفس"، وقد شرحوا أوصافها وبينوا مراتبها؛ قال ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "وجهاد النفس أربع مراتب: حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمته". اهـ.

هذا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.


 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك

مقالات الفوائد

  • المقـالات
  • الصفحة الرئيسية