اطبع هذه الصفحة


من ينجو من طوفان الثورات ؟!

د. فهد بن عبد الرحمن اليحيى


بسم الله الرحمن الرحيم


حين فار طوفان الثورات وانفجر بركانها وهبت رياحها وشاهدنا كيف تهاوت أنظمة في بضعة أسابيع تملكنا الشعور بأنه طوفان جارف لم يقف أمامه شيء ولن ينجو منه نظام ...
شعور لا إخال أحدا سلم منه فمستقل ومستكثر ، ومن ظنه بعيدا فهو على خشية من انتقاله كعدوى المرض التي قد تنتقل بأدنى سبب تنتقل أحيانا إلى شخص يظن مناعته قوية وبنيته أشد ..
في ظل هذا الشعور ليس لنا ملجأ إلا كتاب الله تعالى ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله ) .
في ظل زخم الأخبار والقنوات والشبكات قد منحنا الله الملاذ الآمن .. أفلا نتأمل فيه ؟!
آية من كتاب الله تعالى أحسب أنها تجيب عن سؤال هذا المقال : \" من ينجو من طوفان الثورات ؟\" .
يقول الحق تبارك وتعالى وهو العالِم بحال العالَم والمقدر لأحوالهم : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}.
إنها سنة الله الكونية في الأمم السابقة ينزل بها ما نزل بمن قبلها حين استجمعت أسباب هلاكها على تنوع تلك الأسباب ، ويحدثنا القرآن الكريم أن أكثر تلك الأمم لم تعتبر بمن قبلها فحق عليها العذاب ، وإذا حانت ساعة العذاب فلا مفر .
ولكن حتى لا يقع اليأس بسبب الشعور بأن الكل كذلك استثنى الله تعالى قوم يونس عليه السلام حين بادروا بالرجوع إلى الله والإنابة إليه واستدركوا عاجلا قبل حلول العقوبة فنجو ولم يكن مصيرهم كمصير غيرهم { ومتعناهم إلى حين } .
هكذا نحن اليوم فالطوفان قادم إلا من استدرك أسبابه وصدق في كل ما عساه أن يرفعه .
ولربما حاول العقلاء والحكماء جاهدين للحيلولة دونه ولكن لا حيلة لهم فيه حين يزحف .
فليس الشأن أن ما أصاب غيرنا ؛ بل جيراننا سيصيبنا لا محالة فلا فائدة من أي عمل ..
هذا ما تنفيه الآية السابقة وتؤكد أن الرجوع الصادق ( والصادق فحسب ) منجٍ بإذن الله كحال قوم يونس .
يجب أن تشرئب أعناقنا إلى السماء ، لا ينبغي أن نتلمس أسباب الأرض فقط ... إنا أمة مسلمة مؤمنة ، والمؤمن يراقب الله تعالى فيصدق في الإنابة إليه ويلجأ إليه فيما نزل به .
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} .
وما أعظم كتاب الله تعالى ( وما يوضحه من السنة والشريعة ) فليس فيه العلاج فحسب ؛ بل فيه تشخيص الداء قبل ذلك .

المصداقية هي النجاة :

إن الصدق في الإصلاح الشامل ومن أهم أركانه العدل ورفع المظالم . . هو سر النجاة . . .
قد نختلف في سلسلة من الإصلاحات ... نختلف في اعتبار أن فقدانها كان من أسباب الثورات التي حدثت . . .
وقد نختلف في اعتبار أحقيتها أو واقعيتها .. وقد نختلف في الأولويات فيها . . .
لكن لا أظن أبدا أن نختلف في أن الصدق والمصداقية هي المفتاح الحقيقي فهي المنطلق المتفق عليه . .
من صدق في الإصلاح الشامل فلن يعدم الوسائل بل سيتقاطر عليه الصادقون المصلحون زرافات ووحدانا يشدون من أزره ويتسابقون لخدمة أهدافه.
والصادق يقرب الصادقين ويتقربون إليه ويسلم من غيرهم بل ومن أنصاف الصادقين لأنهم لن يجدوموضعا لديه .
والشعوب تشعر بالصادق الذي يعمل من أجلها فتعينه وتعذره ، وهذا سر النجاة من غضبة الشعوب.
نعم إن الناس لا يخفى عليهم صدق الصادق كيف لا وهذا الطفل وهو طفل يعرف صدق من يتعامل معه.

كنت أسمع في مجالس الناس المقترحات الكثيرة في قطاعات مختلفة . . .
ونجد تلك الهموم أيضا بين أصحاب التخصصات كل في جهته أو تخصصة. . . مللت حقيقة من كثرة ذلك .. وخلصت إلى النتيجة التالية :
أهم شيء هل المسئول الذي نقترح عليه صادق في البحث عن الأصلح والأفضل ؟! أم له أجندات أخرى مختلفة . . ؟
فإن كان صادقا فوسائل معرفة الأفضل والأولى من المقترحات والمقدم منها والمؤخر كثيرة لا تخفى على الصغار ، ويبقى في النهاية قرارة المبنى على تلك الرؤى من خلال الآليات الصحيحة وهو اجتهاده الذي لا ينازع فيه ، ولا ينبغي أن ينازع فيه بعد أن بذل جهده الصحيح وصدق في تلمس الأفضل حتى وإن خالفته الرأي والاجتهاد وليس لي بعد ذلك عليه من سبيل إلا الإصلاح من خلال الآلية الصحيحة أيضا.
وحين أزعم أن الصدق هو المنطلق فقد انتزعته من كتاب الله تعالى استقراءً من آيات كثيرة ، كقوله تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} .
وقوله : {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} .
وفي الفتن ينكشف الصادق من الكاذب، قال سبحانه :
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
وهو النجاة في الدنيا والآخرة كقوله سبحانه :
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } .
وقوله :{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

أزمة المصداقية :

هذا عنوان مقال كنت أزمعت كتابته منذ زمن ولعل الله أن ييسر ذلك أو أن يتطور إلى كتاب لكن ما أريد قوله هنا أن أزمة المصداقية هي الإشكال الأكبر في الخلل الذي نراه على مستوى الأمة بل والله على مستوى العالم.
ففي الأمم المتحدة مثلا لو كان هناك مصداقية حقيقية في صلاح العالم ولم يكن لدى المتنفذين في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أجندة لهم خاصة لكان لهيئة الأمم أثر في الحد من الفقر ومن الحروب ومن المخدرات وغير ذلك .
وهكذا لو تحققت المصداقية \" ولو بنسبة معقولة \" لدى أي جهاز في أي مكان كما بينت سابقا إذ ليست الأزمة في المقترحات التي قد تختلف الأراء حولها كما تختلف اجتهادات أهل الاختصاص في فروع تخصصهم كاختلاف الفقهاء في أحكام كثيرة.
ولذا حين قال البعض : كيف يبيح البنك الإسلامي ( س ) المعاملة المالية (ص) ، فقلت : لا تثريب على البنك فإنه قد عين هيئة شرعية وأخذ بفتواها وسواء وافقنا تلك الفتوى أم خالفناهم فليس هذا هو المعيار ولكن المعيار في مصداقية البنك في التعامل مع تلك الهيئة الشرعية هل عينهم وفق مواصفات خاصة تخدم أهدافه ؟ وهل يمارس وصاية عليهم أو ضغوطا ؟ وهل منحهم استقلالا حقيقيا؟ وهل يأخذ بجميع قراراتهم وفتاواهم؟ وهل يطبق تلك القرارات بمصداقية ؟
فإن فعل ذلك فقد برئت ذمته وهذه هي المصداقية التي ننشدها.


د. فهد بن عبد الرحمن اليحيى
أستاذ الفقه المشارك
في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم
feqh@hotmail.com

 

مقالات الفوائد