اطبع هذه الصفحة


جاهليّة الثّورة!

د. أحمد الزهراني


بسم الله الرحمن الرحيم

ثورات عديدة تدور هذه الأيّام، بدأت في تونس ومصر – وما زالت – والآن يُحصد من الليبيين آلاف الأرواح نسأل الله أن يخلّصهم من هذا الكابوس عاجلاً غير آجل .

في خضمّ هذه الثورات التي كان اسمها مظاهرات سلميّة ثمّ بعد أن حققت انقلابات بيضاء كما يُقال أصبحت تُسمى ثورات .. أقول : في خضمّ هذه الثّورات حدثت ثورة أخرى .. ثورة على مبادئ شرعيّة استقرّت وأصبحت ثوابت عند أهل السنّة ، وإيّاهم أعني بحديثي هذا وخاصة أهل العلم والفقه منهم.

أعجب الفقه هو الفقه الّذي ظهر هذه الأيّام ، فهو فقه يبني كلامه على نتيجة الفعل وبعده لا قبله، بمعنى إنّه لو حدثت كارثة وانهار نظام الدولة وشبت النزاعات فيه كما حدث في تجارب سابقة فإني على يقين أنّ رأيه أصحابه كان سيختلف .
وهذه طريقة لا تمت للعلم والسنّة بصلة، وأنزّه طلبة العلم الشرعي السلفي بالذات أن يقعوا فيها ، وإلاّ فغيرهم من الجماعات والانتماءات الأخرى غير مُستغرب عليهم مواقفهم تلك .

أعود لأقول: إنّ كثيراً من السلفيين بدءوا في مدح الثورة والثناء على أصحابها بعد ما ظهر لهم أنّها حقّقت نتائج إيجابية كبيرة بلا مفاسد تُذكر ، أو هكذا تصوّروا ..
في الحقيقة موقفي من هذه الأحداث يلخّصه قول أبي سفيان ذات مرة : لم آمُر بها ولم تسؤني .
لم أشارك في الدّعوة إليها ، ولن يسوءني أن يتنفّس النّاس ويتخلّصوا من الظّلم .
بل إني سعيد جداً بذهاب أنظمة محاربة لله ورسوله وأنظمة قمعيّة فاسدة ..
لكن الذي ساءني كثيراً أنّ الثورة صاحبتها ثورات على أحكام الشريعة التي لا يُخالف فيها إلاّ مخالف لمنهج أهل السنّة أصلاً .
من أكثر الأصول الّتي حدث الانقلاب عليها أصل الطّاعة والعلاقة الّتي نظّمها الله تعالى بين الحاكم والمحكوم .

وأرجو أن يتخلّص أخي القارئ من تأثير ملاحظته أو حياته في ظل الأنظمة القمعيّة وأن يتجرد للنظر في المسألة من حيث أصلها الشرعي ، فلست معنيا في واقع الأمر بتطويع النّاس لطغاة وجلادين – كما يحلو للبعض التعليق - وإنّما تطويع نفسي وغيري لله رب العالمين ، ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه الميامين.

لأنّ من سيشرّع ويسوّغ في أصل المسألة لن يستطيع – مهما فذلك وتفذلك – أن يميّز للعامة - وهم مادّة الثورة وليس النخب - الثورة والمظاهرة المشروعة ذات الأهداف النبيلة من غيرها ..

وهذه المادّة التشريعية والواقعية الّتي بثّها كثير من الإسلاميين في الأسابيع الماضية هي الّتي يُتّكأ عليها الآن في البحرين وسيُعتمد عليها كذلك في بلدان أخرى لن تكون فيها الثورة أو المظاهرة وطنيةً حقوقيةً ولن يُقبل بها تحت هذا الشعار مهما برّر أصحابها ومهما حاولوا إثبات انفصالها عن الأيدي الخارجيّة، لسبب سهل الملاحظة ، ألا وهو إنّ التاريخ القديم والحديث يكذّب أيّ دعوى من هذا القبيل ، وهذا كلّه أقوله على فرض التسليم بمشروعية هذه المظاهرات والثورات .

للشيخ محمد بن عبدالوهاب كتاب صغير في حجمه كبير في معناه بديع في وضعه ، اسمه : «
مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية» ذكر كثيراً من الخصال التي كان عليها أهل الجاهليّة والّتي جاء النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بمخالفتها ،وأوّل مسألتين ذكرهما بعد الشّرك بالله :
-       أنّهم يرون السمع والطاعة مهانة ورَذالة .
-       وأن مخالفة ولي الأمر ، وعدم الانقياد له - عندهم - فضيلة ، وبعضهم يجعله ديناً .
قال رحمه الله : «فخالفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ، وأمرهم بالصبر على جَور الولاة والسمع والطاعة والنصيحة لهم ، وغلّظ في ذلك ، وأبدى وأعاد .
وهذه الثلاث – يعني مع الشرّك بالله - هي التي ورد فيها ما في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم : «
يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم » .
وروى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «
من كره من أميره شيئا فليصبر ، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية ».
قال الشيخ : «ولم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا من الإخلال بهذه الوصية» ، وصدق رحمه الله .

أحبّ أن أنبّه إلى شبهة يروّجها البعض ، وهو أنّهم إنّما يثورون على ولاة الجور والظّلم والاستبداد ، وأنّهم يقرون بأصل الطاعة للحاكم الذي جاء من خلال بيعة شرعيّة، أمّا الذي أخذ الحكم بالقوة وبدون إرادة الشعب فإنّه لا يستحق السمع والطّاعة، وهذا تضليل لأنّ أنّ النصّ الشرعي الخاص إنّما تحدث عن هذه النّوعية من الولاة ، الظلمة المعتدين على الحقوق ، وأمر بعدم نزع الطّاعة في المعروف .
إنّ هذه المفاهيم الثورية التي روّجها أدعياء الثورة مفاهيم جاهليّة ، لا يرضى عنها الشارع الحكيم لا رعاية لخاطر الظالم، بل الشرع يريد بذلك رعاية منصب الولاية ، وأن يحوطه بمهابة تمكنه من فرض الحكم ورعاية الحقوق .
قد يأتي ظالم يستغل منصب الولاية بالظلم هذا صحيح ، لكن قد يأتي بعده عَدْل لا يستطيع إقامة الحكم لأنّ المنصب قد تمّ تحطيمه من قبل أصحاب الثورات .
وهذا ما كان يفعله أهل الكوفة على ولاتهم حتّى رماهم الله بالحجاج فكان عذاباً عليهم .
الظالم الفرد لابد أن ينتهي بموت أو بغيره ، لكن منصب الولاية باقٍ يجب صيانته من اللاعبين ، حتى لا يصبح لعبة بيد كلّ دخيل يريد أن يقلقل الدولة وأركانها عن طريق مجموعات تستخفّ العامّة وتضرّ بالبلاد والعباد .. تحت ذريعة الإصلاح ومحاربة الظلم .
إنّ حالة التمرد والثورة والعصيان المدني – وكل هذا يسمونه مظاهرات سلمية وهذا كذب – مصادم لحقيقة السنّة والشريعة، وعودة بالناس إلى حال الجاهليّة حتى لو تحقق من وراء ذلك مصالح محققة أو موهومة ، وهو مخالفٌ لنصّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي نهى عن نزع اليد من الطّاعة وهذا واضح لا لبس فيه .

بالله عليك من الذي سيتضرّر من ترك أصحاب المهن مِهَنَهم وأصحاب الوظائف لوظائفهم، أليس النّاس ؟
هل يجوز الضغط على الظالم عن طريق الإضرار بشعبه ؟

وحالة الفوضى الّتي تعم بسبب هذه الثورات كيف يمكن الإفادة منها وهي تشبه السيل الجارف الذي لا رأس له كيف يمكن القول إنّ لها أهدافاً مشروعة إذا تحققت ستتوقف ؟
ومن جاهليّة الثورة – كذلك – العودة إلى الاعتماد على الكثرة ، والاحتجاج بالسواد الأعظم ، إنّها الجماهيرية ، حين تتغوّل لتصبح طاغوتاً يُعبد من دون الله ويُطاع من دون الله ، وهذا الطّاغوت هو الّذي أسكت صوت الشريعة - حتى الآن - وأعلى من صوت المطالبين بالديموقراطيّة والعلمانيّة ..

وهذا الّذي يعوّل عليه الإصلاحيون المزعومون ، إذ يرون أنّ مفاسد الحكام تزول في ظل نظام ديموقراطي، وهذا مقبول لا يُستغرب من مثلهم ، لكن الغرابة والعجب حين يغفل عن هذا دعاة وطلبة علم سلفيون انخرطوا في حملة تشريع ومباركة المظاهرات السلمية كما يسمّونها والاعتصامات والإضرابات ثمّ : الثورة !

من العجيب أن ينسى من ينتسب للعلم والسنة أصوله وينخرط في ثورة جمهور يطالب بحقوق دنيوية تضيع في خضمّها حقوق شرعيّة وتُنسى بل يُتعمّد إقصاؤها !

العلمانية في ظل الحاكم الظالم كان جريمة ، لكنها الآن في ظل حالة الثورة مطلب جماهيري لا بل أصبح مطلباً لمن كان الإسلام - يوماً - عنده هو الحل !
لا يجرؤ أحد الآن أن يطالب بشيء من تحكيم الشريعة لأنّ الثوار شركاء في غنائمها بالتساوي ، نصارى ومسلمين ، دينيّين ولا دينيّين ، قد يجتمع آلاف السلفيين وغيرهم من محبي الإسلام لينادوا في مصر وغيرها بالشريعة ، هذا جهد مشكور وصاحبه مأجور ، لكن صيحاتهم هذه ستذهب أدراج الرياح ، فلن يرضى أحد من الثوريين بذلك ، حتّى الإخوان أعلنوا بصراحة أنّ الإسلام ليس هو الحل ، سمعت ذلك بنفسي من أحد كبارهم حين قالت له قبطية : «أحسن شيء أنّكم لم ترفعوا شعار الإسلام هو الحل ، لأنّه مش الحل» فوافقها ضاحكاً ..
ياللخيبة!!
وهذا الطاغوت – أعني الجماهيرية - هو الّذي جعل معمما أزهريا يرفع الصّليب بيده معلنا أنّ المسلم والنصراني سواء تحت مظلة المواطنة !
وهذا الطّاغوت هو الّذي سمح بإقامة شعائر الشّرك في بلد الإسلام على مسمع ومرأى من المسلمين والمعممين في ساحة التحرير .
وصدق الإمام محمد بن عبدالوهاب حين قال : «فالمقصود أن من له بصيرة ينظر إلى الدليل ، ويأخذ ما يستنتجه البرهان وإن قل العارفون به ، المنقادون له ، ومن أخذ ما عليه الأكثر ، وما ألِفَتْهُ العامة من غير نظر الدليل فهو مخطئ ، سالك سبيل الجاهلية ، مقدوح عند أهل البصائر».

ذهب بن علي إلى غير رجعة ، ولحقه حسني مبارك ، وسيلحقه معمر ، وقد نشهد زوال آخرين من حكام الدول ، وكل هذا لا يهمني ، وإنّما يهمني أن تبقى أحكام الإسلام مشهورة وأعلام السنّة منشورة ، وأن لا يستغلّ الجهلة وأفراخ الخوارج والمارقين الفرصة لإحياء مذاهب البدعة تحت ستار مبادئ وقيم محترمة من الجميع كالحرية والمساواة والعدل وغير ذلك .
لا يجوز الاستدلال بحال أهل الكفر وأنظمتهم ولا بسماحهم للمظاهرات ، لأنّ هذه الدّول لا ترعى الفضيلة وليس عندهم دينٌ يُحافظ عليه فكلّ شيء عندهم قابل للتغيير بلا حدود ..
أمّا عند أهل الشريعة الّذين يعرفون للدين وثوابت الملة حرمتها فإنّ القبول بأن تكون الشرائع محل الاستفتاءات وصناديق الاقتراع كما يُقال فهذه دنيّة أعطاها أصحاب الثورات في دينهم للأسف الشديد .
كنت أحبّ لأهل الشريعة أن يسكتوا في خضمّ هذه الفتنة عن تأييد أو معارضة وأن يسألوا الله السلامة ، وأن لا يتكلموا إلاّ بما لا يخالف فيه أحد من حرمة إراقة الدماء وعصمة الأنفس والأموال والأعراض ..
لكن بعضهم اغترّ وأخذته نشوة الفرح والخلاص من وجوه طالما سامت شعوبها مر العذاب والذل والحرمان ، ونسوا أن يتدبّروا في مجمل المكاسب الّتي كسبتها الدّعوة الإسلامية أو الخسائر التي خسرتها في الأمد البعيد ..
لا أستبعد أن يكون في طيّ هذه الفتنة خيراً للأمّة ، وأسال الله تعالى أن تكون فلتة وقى الله شرّها ، لكنّ هذا لا يغيّر من الموقف من الفتنة .

وقد قلت سابقاً في مرات عديدة إنّ النتائج والغايات لا تشرّع الأسباب والوسائل ، بل يشرّعها الشرع الحكيم ، ولو جاءت هذه الثورات بخلافة راشدة - فضلاً عن حكم طاغوتي ناعم - فإنّ قولي لن يتغيّر وسأنظر لها دوما من خلال منهج أهل السنّة فقط !
نحن ندعو في كل جمعة أن يهيئ الله للأمة أمراً رشيدا يؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ،
فهل هذه الثورة هي الأمر الرشيد الذي يُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر ؟
لا أظنّ ذلك .. والله اعلم .


 

مقالات الفوائد