اطبع هذه الصفحة


حينما يتقمص الأفراد  ثوب المؤسسية

محمد ناجي عطية
abo_gassan@hotmail.com


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


المفهوم المعاصر للعمل الجماعي هو العمل المؤسسي ، لقد حلت المؤسسة في وقتنا الحاضر في كل مناشط حياتنا اليومية، أصبحنا نمارس حياتنا كلها ليلا ونهارا، صغارا وكبارا ، ذكورا وإناثا ، شبانا وكهولا، في مؤسسات منذ أن ترى عيوننا نور الحياة حتى يتوفانا الله، لا عجب، فان السمة العصرية الأبرز لهذا الزمان هي المؤسسة.
وأكثرنا يمارسون قيادة المؤسسات أو بعض أجزائها، وقد تكون تلك المؤسسات من المؤسسات التي يعول عليها في إصلاح أوضاع الأمة وحملها الله أمانة ومسئولية تنوء عن حملها الجبال الرواسي، سواء كانت حكومية أو غير حكومية.
ومع ذلك تجد الكثيرين من قادة تلك المؤسسات لم يسعفهم الوقت في التعرف على أسس ومبادئ إدارة المؤسسات والطرق الميسرة الكفيلة بجعلها قادرة على تحقيق أهدافها وفق ما هو مأمول منها.
لذلك يلجأ الكثير إلى تقليد أقرانهم في إدارتها، وربما اجتهدوا من خلال الخبرة والواقع العملي والعمل بمبدأ التجربة والخطأ، حتى تمضي السنون وقد قطعوا شوطا أهدرت خلاله الكثير من الموارد، مقابل نتائج ضعيفة مخيبة للآمال.
ولهذا السبب تجد الناجح الموفق من مؤسساتنا قليل، بينما الكثير منها تعاني من مشكلات جسيمة ومعوقات كبيرة، والسبب في ذلك يرجع إلى الإهمال في تعلم أبجديات طرق إدارة المؤسسات والتي هي ثمرة الخبرة الإنسانية المتراكمة عبر العصور حتى جمعت لنا في هذا الزمان، وأصبح الحصول عليها  وتبادلها ، متاح بأيسر وأفضل وأمتع الطرق والوسائل.
ونتيجة لذلك ظهرت المنافسة بين المؤسسات الجادة على مستوى العالم باحترام المعايير المؤسسية وأصبحت تلك المعايير مؤشرا على نجاح أو فشل المؤسسات ، ومقياسا على مدى تقدمها أو تأخرها أمام أقرانها ومنافسيها.
وأمام ذلك كله برز صنف من قادة المؤسسات، مزجوا بين الجهل بمبادئ العمل المؤسسي، والرغبة في تحقيق معاييره، فلم يسلكوا السبيل السهل المتاح في الجميع بين هذين النقيضين، لكنهم ركبوا موجة الظهور والتفاخر وإظهار أنهم ملتزمون بالمعايير المؤسسية، وذووا عقليات جماعية ، ولكن على جهل ودون وعي ودراية، فوقعوا في خطر داهم  هو الوقوع في مزلق الشعارات الجوفاء عن المؤسسية وهم عنها بعيدة كل البعد.
لذلك لبس قادة هذه المؤسسات ثوب المؤسسات فصاروا ، كاسين عارين ، كاسين برفع شعاراتها عارين عن حقيقتها، مائلين عن جادة الطريق مميلين لمؤسساتهم عن تلك الجادة، فهم بذلك لا يجيدون قيادة  المؤسسات ولا يتيحون المجال لغيرهم من العارفين بتولي تلك المسئوليات الجسيمة .
فما أحوجنا في هذه الحالة الوقوف أمام معنى المؤسسة والمؤسسية والعمل المؤسسي والعمل الجماعي، واستلهام المعاني منها حتى يتضح لنا أمر الأفراد الذين يتقمصون ثوب المؤسسية وهم ابعد الناس عنها.

لقد عرف علماء الإدارة العمل المؤسسي بأنه :

"شكل من أشكال التعبير عن التعاون بين الناس، أو ما يطلق عليه العمل التعاوني، والميل بقبول العمل الجماعي وممارسته، شكلاً ومضموناً، نصاً وروحاً، وأداء العمل بشكل منسق، قائم على أسس ومبادئ وأركان، وقيم تنظيمية محددة" ([1])

وعرفوه أيضا، بأنه:

"التجمع المنظم بلوائح يوزع العمل فيه على إدارات متخصصة، ولجان وفرق عمل، بحيث تكون مرجعية القرارات فيه لمجلس الإدارة، أو الإدارات في دائرة اختصاصها؛ أي أنها تنبثق من مبدأ الشورى، الذي هو أهم مبدأ في العمل المؤسسي "([2]).

وانه:

"كل تجمع منظم يهدف إلى تحسين الأداء وفعالية العمل لبلوغ أهداف محددة، ويقوم بتوزيع العمل على لجان كبيرة، وفرق عمل، وإدارات متخصصة؛ علمية ودعوية واجتماعية، بحيث تكون لها المرجعية وحرية اتخاذ القرارات، في دائرة اختصاصاته"([3]).
 
ولو تأملنا التعاريف الوارد ة أعلاه لوجدنا أنها اشتملت على مجموعة من الحقائق تبرز بمجملها مفهوم المؤسسية الذي نناشد به، ونرجو من قادة المؤسسات الاعتبار بتلك المعاني لأنها أصبحت من ضرورات العمل الجماعي الذي يحترمه الجميع ويناشد به الكل، وان تهربوا من لوازمه وضاقوا بمقتضياته.

فمن تلك الحقائق :
1-   أن العمل المؤسسي يعني ممارسة العمل الجماعي نصا وروحا ، فلا جدوى لمن يدعي العمل المؤسسي وهو لا يمارسه على أرض الواقع، فسيكون حينئذ يكون سالك لطريقة الشعارات الجوفاء التي يبهرك بريقها، بينما يغيب الحد الأدنى من ممارستها في الواقع.
وقد يكون أيضا ملتزم بطريقة التنظير التي يحلو للكثير ممارستها، بينما الواقع على خلاف ذلك، فتجد الكثيرين ممن تعايشهم يميلون إلى هذه الطريقة فيغرقك بسيل من النظريات والحلول غير العملية بينما تجد ممارسته خلاف ما يكتب أو يقول.
 
ولذلك يتضح لنا أن ممارسة العمل الجماعي لابد أن يكون نابع عن قناعة ذاتية ترتبط معها الأقوال بالأفعال ، وإلا دخلت في الذم بقوله تعالى : ( يا أيها الذين لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ([4])
 
2- 
  مبدأ التعاون، فليس العبرة من اجتماع القوم هو مجرد  الاجتماع فحسب، بل أن الغاية من ذلك الاجتماع هو أداء العمل بروح الفريق الواحد، الذي تكون فيه مصلحة المجموعة أو المؤسسة أو ربما المبادئ، أعلى من مصلحة الفرد، مع الاعتراف الكامل بحقوق الأفراد المعنوية قبل المادية.
 
  إن هذا التعاون هو ثمرة من ثمرات حسن القيادة واحترام مشاعر أفراد الفريق، وكسب رضاهم باستمرار، ليس بالمال فحسب، بل ببذل المعروف والكلمة الطيبة والثناء الحسن وعدم التهميش أو ظهور القادة على حساب الأفراد، أو تسلق البعض المستقوي على حساب البعض المستضعف، وممارسة بعض الأخلاقيات المشينة ، مثل الالتفاف على مصالح الأفراد، أو تمييز بعضهم على بعض أو الاستئثار بالمصالح والمميزات دون مراعاتهم ، أو تمييز القادة لأنفسهم أو مقربيهم على حساب بقية أفراد الفريق.
 
3-
   العمل المبني على النظام والأسس والمبادئ والأركان والقيم التنظيمية الواضحة والمحددة  مع احترام العمل وأدائه بشكل منسق، يوازن بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة،  ويوازن بين متطلبات الأفراد ومتطلبات العمل، في بيئة من الوضوح والشفافية، تحكمها المعايير الدقيقة واللوائح العادلة المرنة، وتصبح كل الفرص متكافئة أمام الجميع، في العطاء والمنع محكومة بمدى القرب أو البعد من تلك المعايير أو الإخلال بتلك اللوائح.
 
وتلك المعايير والأنظمة تكون منبثقة عن منظومة من القيم والمبادئ التي تهيمن على حياة الجميع، فالجميع صغارا وكبارا قادة وأفرادا، كلهم يجب أن يكونوا محكومين بتلك القيم والمبادئ، والتي يجب على كل مؤسسة الاقتناع بها ، ثم صياغتها، ثم إعلانها وإعلان الالتزام بها ، وتثقيف الأفراد بها، ثم حراستها وصيانتها من عبث العابثين وتحريف المبطلين، ويجب أن تكون هذه من أشهر وظائف القائد في العمل المؤسسي، فان لم تكن هذه البدهية واضحة لدى قادة المؤسسات ، فأين هم من المؤسسية إذن؟.
 
4-
   تقسيم (توزيع ) العمل على المجالس القيادية والإدارات والأقسام واللجان وفرق العمل، بحيث يراعى في التقسيم التخصص لكل جزء من العمل، وحدود الصلاحيات الممنوحة بحسب حجم المسئولية التي تحملها ذلك الجزء، وتبقى وظيفة المجلس القيادي التنسيق والتشجيع، والتحفيز، والتطوير، وحل المشكلات ، فضلا عن قيادة المؤسسة باتجاه المستقبل الذي  تطمح إليه ويطمح أن يبلغه الأفراد من خلال مؤسستهم (المحبوبة) التي نالت رضاهم واحترامهم بعد أن أشبعت احتياجاتهم المادية والمعنوية، وشاركتهم كما شاركوها ساعات الأفراح والأتراح.
 
5-
   مرجعية القرارات في العمل المؤسسي لمجلس الإدارة، فالمؤسسية تعني أن تتخذ القرارات بصورة جماعية لا فردية، سواء تلك القرارات التي تهم الأفراد أو المؤسسة، فلا مجال لتسلط الأفراد إلا بحدود من الصلاحيات الممنوحة من تلك المجلس لرئيس المجلس وفق ضوابط يعدها المجلس واليات محددة للرقابة على ذلك الرئيس.
 
إن  القيادة عن طريق المجالس هي ضمان سلامة ، وصمام أمان لحماية المؤسسات من شطحات الأفراد واجتهاداتهم غير المنضبطة، وصهر كل تلك الاجتهادات والإبداعات في بوتقة من الفكر الجماعي المنضبط والمبارك بالبركة التي  تحل عليهم ، لقول النبي الخاتم ، عليه الصلاة والسلام : (يد الله مع الجماعة) ([5])
 
 والسر الكامن وراء كل ذلك، تجنب استغلال رئيس المجلس لمكانته وسلطته في تمرير القرارات التي تناسبه وتهميش أعضاء المجلس، وهو الأمر الذي يفضي به إلى أن يكون مرتديا لثوب المؤسسية، في الوقت الذي تكون الممارسة في الواقع فردية.
 
6-
   وللإدارات الفرعية نصيب من تلك المجالس بما يجسد التخصصية واللامركزية، فأما التخصصية فانه لا يعلم تفاصيل عملها جهة أعلى منها، وهو سر تميز المؤسسات بوجود الأفراد والهيئات التخصصية التي تعمل على متابعة كل جديد ومتطور في تخصصها ودفع المؤسسة باتجاه تلك التطورات .
 
وأما اللامركزية فإنها من لوازم العمل المؤسسي الجماعي ، إذ انه من الغبن للمؤسسة انفراد المجالس العليا بتصريف شئون المجالس الدنيا دون أن يكون لها الأثر الفاعل بحكم التخصص والخبرة التي لا يشترط توفرهما في المجالس العليا، طالما وجد من يكفيهم عناء ذلك من المتخصصين.
 

-----------------------------
[1] عطية ، محمد ناجي ، البناء المؤسسي في المنظمات الخيرية ، دار الإيمان ، الإسكندرية، 2006 ، منشور على الانترنت ، موقع الإسلام اليوم
[2] المرجع السابق
[3] المرجع السابق
[4] الصف (2،3)
[5] صححه الألباني

 
 

مقالات الفوائد