اطبع هذه الصفحة


ليس هكذا يا جهاد

عبد الله بن محمد الناصر


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


تحسست رأسي عشر مرات وأنا أقرأ ما كتبه الأستاذ جهاد الخازن في جريدة الحياة يوم الإثنين الموافق 21/6/1432هـ تحسست رأسي كي أتأكد أنني لست نائمًا أو تحت سلطة نعاس لأن ما كتبه الأستاذ فوق طاقة التصديق، والاستيعاب وفيه من الاستخفاف والتجني والإجحاف، بل والإسفاف ما يفوق كل تصور ..

وقد كان موضوع كتابته تحذيرًا من الخلافة التي يدعو إليها بعض المتطرفين .. ولكن الأمر في الواقع ليس كذلك، وإنما هو طعن في تاريخ الإسلام ورموزه .. وقبل الخوض في الموضوع فالجميع يعلم أنني لست مؤدلجًا ولا أنتمي لفئة بعينها، وإنما أنا مسلم عميق الإيمان بالله، وأنطلق في حياتي من هذا الخط الذي لا أحيد عنه.. كما أنني عربي معتزّ بعروبتي وتاريخها. مهما تضاءلت الرعناء وذوو الأنفس الخائرة ، ولقد راعني استغلال الأستاذ جهاد هذا الموضوع للنيل بل للطعن، والقدح في التاريخ الإسلامي ورموزه العظماء .. فالخازن الذي عودنا كتاباته الأرشيفية، والحديث عن ذاته وعن ذهابه وإيابه، ولقائه مع الزعيم الفلاني، ونصحه للزعيم الفلاني، وعشائه مع ذلك الرئيس أو الوزير، ورحلات صيده وقنصه إلى ما في تلك الخزانة من أحاديث هي أشبه بأحاديث "خرافة يا أم عمرو"وقد كنا نقبل ذلك على مضض .. غير أن أخانا هذه المرة تعدى حده وخاض في التاريخ الإسلامي، وخبط فيه خبط عشواء، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن تاريخ الأمة الإسلامية الذي يزيد عمره عن ألف وأربعمائة سنة ليس فيه من العدل الراشد إلا سنتان هما عهد أبي بكر رضي الله عنه .. ولم يجد في تاريخ عمر رضي الله عنه إلا القسوة والعنف فقد ضرب ابنه حتى مات وأبعد خالد بن الوليد عن قيادة جيوش المسلمين بسبب خصومة بينهما حينما كانا طفلين.!!

واستخف بالخليفة عثمان، أما الإمام علي فهو صغير في أمور السياسة .. واختزل تاريخ بني أمية فيما ينسب إلى الوليد بن يزيد في تمزيق القرآن، أما الدولة العباسية فقد سلمت مفاتيح بغداد لهولاكو ..
 

********


وأقول لكم – وكما ترون – أن هذا الكلام لا تنقصه الكراهية، ولا ينقصه الحيف والظلم والإسراف في البعد عن الحق، بل والغلو والتشويه .. إن التطاول على رموز الإسلام وبالذات الخلفاء الراشدين، وبهذا الشكل المجّاني السمج والبذيّ لم يسبقه عليه أحد حتى أكثر المتشددين والمتعصبين كراهية للإسلام من المستشرقين .. فعمر الذي هو رمز للعدل عبر تاريخ هذه الأمة، والذي أنصفه حتى الغربيين واعتبروه واحدًا من مائة عظيم عبر تاريخ الإنسانية لم يجد فيه الأستاذ جهاد إلا الإنسان القاسي والحقود..! عمر الذي قال فيه نبينا العظيم اللهم انصر الإسلام بأحب العمرين إليك ... عمر الذي كان يحمل الطحين في الليالي المظلمة ويقوم بالطبخ للجياع .. عمر الذي لا ينام الليل ويظل يطوف أحياء المدينة، من أجل البؤساء والمحرومين، عمر الذي يقول: والله لو عثرت بغلة بالعراق لسئل عنها ابن الخطاب .. عمر الذي دعا حاكم مصر وأجلسه إلى جانب خصمه القبطي وقال للقبطي بعد أن أعطاه الدرّة اضرب رأس ابن الكرام ثم قال كلمته المشهورة لابن العاص والتي لا يزال دويّها يملأ الأرض: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ .. عمر الذي استغرب الناس طول ثوبه وهو يخطب يوم الجمعة فقال إنه ثوب ابني عبد الله استعرته منه لأن ثوبي لم ينشف بعد أن غسلته!! عمر الذي جاءه قوم كسرى فوجدوه نائمًا تحت شجرة، وعليه ثوب من خمسين رقعة، وقد تصبب العرق من جبينه بسبب حرارة الشمس فلما رآه كبيرهم قال كلمته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت...!!

عمر الذي اعترضت عليه امرأة وهو يخطب في شأن المهور فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.. ، عمر الذي أُلفت عن عدله مئات إن لم نقل آلاف الكتب تتهمه هكذا بجرة قلم وكأنه عامل شركة لديك ... ثم أن تهمتك له هي فضيحة لإدراكك ووعيك بالحق والتاريخ. فكونه أقام الحد على ابنه ولم يجابه ولم تأخذه في الله عاطفة أب فهذا منتهى العدل والإنصاف في حق رعيته ...

أما عزل خالد بن الوليد بسبب خصومة بينهما أيام الطفولة. فمثل هذا القول فيه خفة وفيه استخفاف بعقولنا وفيه دلالة على ضحالة في التفكير والتحليل منك.. فهل أنت تتحدث عن طفلي مدرسة.. لقد ذهبت في ذلك إلى أوهن بيوت المسألة ، فإن كان التاريخ الواهن قد ذكر الخصومة فذكرها كان من باب التاريخ لا من باب المنازعة والانتقام ... أما مسألة عزل خالد فقد تحدث عنها المؤرخون وأشبعوها بحثًا مع أن السبب الجوهري في القضية أن خالدًا رحمه الله قتل مالك بن نويره وتزوج امرأته لاعتقاده أنه مرتد مع مسيلمة وسجاح .. بينما اجتهاد عمر رضي الله عنه أن مالكًا عاد إلى الإسلام فغضب عمر لمقتله وهذه الاختلافات القيادية موجودة عند كل الأمم ... إذن فالمسألة اجتهادية في كلا الحالتين ومن ثم فإن ذلك لم يغضب خالدًا رحمه الله ... وقد تفاجأ يا أستاذ إذا علمت أن خالدًا رحمه الله وهو على فراش الموت أوصى أن يكون أمر تركته على يد عمر. وقد بكاه عمر بكاء شديدًا وطلب إلى النساء أن يبكين عليه وقال: ما أعجز النساء أن يلدن مثل أبي سليمان .. !!

أما حديثك عن عثمان فالويل للتاريخ إذا تناوشه أو خاض فيه أمثالك. فهذا الرجل الذي كان يشطر ماله للمسلمين وفتحت في عهده أعظم الفتوحات .. هذا الرجل الذي منح الناس من الحرية والديمقراطية ما لا يصدقه العقل إلى درجة أن الرجل من الرعية كان يدخل بيته ويحاوره ويجادله بل أن أحدهم أوقفه وهو على المنبر يخطب في المسجد وأخذ العصا من يده وكسرها فلم يعاقبه ولم يطلب من أحد كفّه أو إيذاءه هذا الرجل الذي حين أحاطت به الفتن = والدنيا كلها فتن = طلب من مواليه ألا يدافعوا عنه وأن لا يريقوا قطرة دم واحدة في الدفاع عنه وقال: من ذهب عني فهو حر لوجه الله ..!!

أسألك بالله هل سمعت بمثل هذا في التاريخ .. ولكن يبدو أنك لم تقرأ .. أو أن ذلك لم يكن في المقرر الدراسي الذي تحدثت عنه ...

أما حديثك عن الإمام علي وقولك إنه لا يحسن التعامل مع الناس لصغر سنه ..!! فهذه إحدى الكبر .. أيعقل أن يصدر هذا من رجل يتحلى بأدنى حدود الحس المعرفي؟ فعلي الذي يعتبر آية من آيات الله في الصبر، والحرب والمجالدة .. علي الذي كان أهم سفراء الرسول عليه السلام إلى رؤوس العرب قاضي المسلمين، وأريبهم وأديبهم، وأعظم خطبائهم، وأكثرهم حنكة وتجربة لا يحسن التعامل مع الناس،؟!

علي الزاهد الورع الذي رفض الخلافة وقال حين ألحّ عليه الصحابة: " لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به " وحين اصروا قال: لا تفعلوا فوالله لأن أكون وزيراً خير لي من أن اكون أميراً!! " ولم يقبل إلا بعد إلحاح ومكابدة.. هذا الفارس الزاهد في الدنيا والذي كان يعرف أن إبن ملجم يريد قتله فيسير بلا خوف ولا رهبة ولا حراسة وينشد قول الشاعر :


أريد حياته ويريد قتلي *** غديرك من خليك من مُرادِ


وحينا ضربه لعنه الله قال للحسن رضي الله عنه وقد أشرف على الموت قال: " ضربة بضربة ولا تُمثّل بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور" .. فأي عدل وأي إنصاف وأي تاريخ يمكن أن يكون مثل هذا ، لو أن المتحدث منصفاً.. ثم يبدو يا أستاذ أن من زودوك بالأرشيف التاريخي كان مستعجلاً أو جاهلاً ، حيث ملت إلى تاريخ الدولة الأموية العربية العظيم بك أمجادها الحضارية الخالدة ، واختزلت هذا التاريخ في حكاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك وليس ابن يزيد الناقص كما ذكرت وهذا يؤي ما قلته من أن الارشيف لديك لم يكن مرتباً ولا صادقاً ، وميلك إلى حكاية الوليد بن يزيد لا يخلو من هوى حيث أبرزتها كحقيقة تاريخية لا تقبل الشك.. مع أن الكثيرين يعتبرها من تخاريف التاريخ الذي يكتبه الخصوم، وهي حكاية أو أسطورة لا يرفضها العقل، والمنطق فحسب بل ترفضها الحقيقة العلمية الطّبية..فلقد زعموا أم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الذي تولى الخلافة بعد عمه هشام زعموا انه كان ماجناً خليعاً وأنه كان سكيراً وقالوا أنه كان يعوم في بحيرة من خمر وأنه يشرب منها حتى يظهر النقص فيها !! وعلى هذا الاساس فبطنه ليس بطناً أدمياً وإنما هو بطن فيل .! وزعموا أنه يغتصب العجائز من زوجات أبه- وكأنه لا نساء ولا جواري في الدنيا- وزعموا أيضاً أنه فرق القرآن الكريم لأنه حين استفتح القرآن

خرجت له ألآية " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" فأخذ قوسه وراح يرمي القرآن بالسهام وينشد:


تهدنني بجبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر*** فقل يارب مزقني الوليد


كما زعموا أنه راد أن يبني كعبة فوق الكعبة فيغني بها ويشرب ..!! والمعروف أن هذه من تلفيقات المغرضين ممن كانوا يرشحون أبن هشام بن عبد الملك للخلافة بدلاً منه بإيعاز من هشام .. وقد دحض أجلاء المؤرخين هذه التهم.. وكان عميد الأدب العربي قد كتب عن هذا الموضوع وفنده فياليتك يا أستاذ تذهب إلى قراءته كي لا تعود إلى مثل هذا التخبط التاريخي الذي يقوده الهوى . إذ لا يعقل منطقاً أن يصدر هذا عن خليفة للمسلمين هما كان جنونه، وحمقه ، وويل للمطففين الذي يخسرون التاريخ..
•· ثم نراك تختزل عظمة الدولة العباسية . بكل تاريخها وأمجادها وفلسفتها وشعرائها وأدبائها وترجماتها ومكتباتها وصناعاتها التي أبهرت أوروبا فتصمها بالخيانة والجحود المتمثل في قتل ابي مسلم الخراساني ، والبرامكة ربما لأنهم شيعة ؟.!! لأنهم شيعة .. هكذا تستهجن التاريخ . بهذه البهلوانية والصفاقة وتتجاهل أن هؤلاء أنعم عليهم بنوا العباس ولكنهم كانوا يريدونها فارسية كسروية .. فتصر على انها الشيعية للكيد والفتنة وإشعال الطائفية..

يا أستاذ أنا لا أطلب منك أن تكون منصفاً في ذاتك فهذا لن يكون ، ولكني أرفض منك هذا التمويه ، وهذه المداورة والمناورة لهوى في نفسك.. لذا فإننا نرفض منك إهانة رموزنا العظام بهذا الشكل المزري الذي لم يراع حرمة التاريخ ، ولا كرامة ومشاعر المسلمين ... وإذا كنت تحاول استغلال التطرف، وتصرفات المتطرفين فاقول وانت تعلم ذلك :- أن التطرف ليس صفة ملازمة عند بعض المسلمين فقط بل نجدها عند الغربيين أكثر شراسة ومرارة وأذى ... فلقد أتهم الجد الخامس لبوش نبينا بأبشع التهم وقال عنه أنه ساحر ودجال . أما العرب فهم سفلة وأبناء جارية وعقارب .. وحفيده بوش هو الذي غزا العراق ودمره بأمر إلهي كما يزعم .. وهو وجميع من سبقوه من الصهاينة واليمين المتطرف إنما يقتلون العرب على أيدي الإسرائيليين إنتظارً لمعركة هو مجدون التي تعرفها .. والصهيوني تشرشل الذي قاد بريطانيا إلى النصر على هتلر مع الحلفاء والذي كافأه شعبه بأن أسقطه في الانتخابات فعاش بقية حياته يعاني من الاكتئاب والعزلة ولم يقل أحد بأنه عزل بسبب أحقاد كما زعمت في أمر خالد بن الوليد أقول إن تشرشل كان من أشد المتعصبين ضد العرب وهو الذي قال عن عرب فلسطين : " لا أظن أن كلبا في حجره يستطيع الادعاء بأنه له الحق في تملك هذا الحجر مهام طالت أقامته فيه .." ثم يا أستاذ الست تسمع وترى ما يكتب اليوم عن نبينا محمد عليه السلام كأوسخ ما تكون الكتابة وكأقذر ما تكون التهم ... أم أن هذا في نظرك ليس تطرفاً وإنما هو من مستلزمات حرية التعبير ..؟

لقد كنت في في غنى عن الازدراء والاستهجان بخلفاء قوم يكرونك ويحترمونك ولكن –العداوة – اعيت من يداويها...

ولله در أبي محمد " مارون عبود " الذي كان عملاقاً فوق الصغائر فقد كتب عن هؤلاء الخلفاء أجمل ما كتبه قلم ناصع ونظيف وشريف ..

إنك قد تعتذر يا أستاذ ، وتعتبرنا دراويش يمكن الضحك على ذقونهم ولكن ماذا يفيد الاعتذار من الكأس إذا حّطمت، وانسكب ما فيها ثم انه قديماً قد قيل:
 

قد قيد ما قيد إن صدقاً وإن كذباً **** فما اعتذارك من قول إذا قيلا ..
 

إننا يا أستاذ اكثر ذكاءً وفطنه من ان نخدع باعتذار يجعلنا نبتلع كل هذا الإفك والافتراء الذي إبيت إلا أن تخرجه من جوفك ؟


عبد الله بن محمد الناصر
كاتب وعضو مجلس الشورى السعودي
 

مقالات الفوائد