اطبع هذه الصفحة


إتباع حتى الممات

يسري صابر فنجر


الحمد لله الذي كتب الفناء على خلقه " كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ" (الرحمن:26ـ 27) الحمد لله الذي جعل الدنيا دار مفر لا دار مستقر ، وإن الآخرة هي دار القرار وما من يوم يمضي إلا ويقرب للآخرة ، وما من حي إلا ويسعى إلى موته ، ورحم الله الحسن البصري حين قال : يا ابن آدم إنما أنت أيام ، فإذا ذهب يومك ، ذهب بعضك ، والليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت فيهما .
فالحمد لله أولاً وآخراً ، والحمد لله في الحياة وبعد الممات ، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجه وعظيم سلطانه.
وأصلي وأسلم على النبي محمد القدوة والأسوة في الحياة والممات في السراء والضراء ، في المنشط والمكره ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد

فقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هيئته وشأنه وموته وكيانه كله لله " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162_ 163) وورث ذلك عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين ، وورَّثوه لجيلين متعاقبين هم ( التابعون وأتباع التابعين ) فكانوا هم حملة لواء الحق وتواصوا به فنالوا الخيرية ، كما أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" رواه البخاري (3378) ومسلم (4601)
ثم نال هذا الميراث دائماً وأبداً العلماء الذين هم شموس الحق وضياء المعرفة ونور الهداية وهم عُدول كل خلف كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله " رواه البيهقي وصححه الألباني
قال الشاعر:

ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم *** على الهدى لمن استهدى أدلاء

ولا شك أن العلماء هم أعلى الناس منزلة وأكثرهم فضلاً بعد الأنبياء لأنهم يحملون ما حملوا ويؤدون ما أدوا ، فالعلماء أقرب الناس لله خشية وأتقاهم له سبحانه قال تعالى " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (فاطر:28) ؛ لذلك استحقوا من الله ـ عز وجل ـ الثواب الجزيل والعطاء الجميل ، الذي قال الله ـ عز وجل ـ فيه :" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ" (البينة:7_ 8) ويقبض الله العلم بموت العلماء ، ويبكيهم الحجر والمدر والبحر والنهر والنجم والشجر والسهل والوادي يبكيهم الأخضر واليابس ، والساكن والمتحرك تبكيهم السماء والأرض ، والشمس والقمر ، فضلاً عن الإنس والجن .
قال الجاحظ :

يطبب العيش أن تلقى حليماً *** غَذَاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كل ريب *** وفضل العلم يعرفه الأريب

وكان من علماء هذا الخلف وأئمة هذا القرن سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فقد قضى الله قضائه بالحق ، فألحق بالرفيق الأعلى ـ سماحة الشيخ ـ مودعاً بالدعاء ، محفوفاً بالثناء ، جاءه الأجل فشق إليه الطريق ، وأماط عنه حِياطَه الشفيق ، ونضا عنه طِبَّ كل طبيب ، فقبض ملك الموت وديعته في الأرض ، ثم استودع مسامعنا من ذكره اسماً باقياً ، ومحا عن الأبصار من شخصه رسماً فانياً ، فالحمد لله بارئ النسم بما شاء ، ومصرفها فيما شاء وقابضها حيث شاء اللهم هذا عبدك وابن عبدك نشأ في المأمور به من طاعتك ، ومات على الحق في عبادتك وعاش ما بينهما مجاهداً في سبيل دينك ، ناطقاً بالحق في مرضاتك ، ذاباً بقلمه ولسانه عن كتابك وسنة رسولك . ( بتصرف من كلام العلامة محمود شاكر في وفاة العلامة أحمد شاكر رحم الله الجميع)
فكانت حياة ـ سماحة الشيخ رحمه الله ـ موصولة بحياة السلف الكرام ، لذلك كانت خاتمته ووصيته وموته وتشييع جنازته موصولة أيضاً بخاتمتهم ووصاياهم ووفاتهم وجنائزهم ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ .

أما حياة ـ سماحة الشيخ رحمه الله ـ فمعلومة للجميع ، للقاصي والداني ، للصغير والكبير ، فماذا يخط القلم عن شخصه ، وأين هي العبارات التي توافق ما كان عليه في حياته ، إن الأعرابي لما نظر إلى القمر فقال إن قلت : رفعك الله فقد رفعك الله ، وإن قلت : جملك الله فقد جملك الله ، فماذا أقول في هذا الخلق العالي والسمت الرفيع والأدب الجم .

أما خاتمته ووصاياه : فقد قضى ـ سماحة الشيخ ـ ليلته الأخيرة بين صلاة وتسبيح ودعاء وصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن من ينظر نظرة تأمل لآخر أعمال الشيخ ووصاياه ثم ينظر نفس النظرة إلى حجة وداع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد أموراً ثلاثة :
الأمر الأول : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من آخر وصاياه " الصلاة ..... الصلاة " وكان آخر ما كتب ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ رسالة عن ( الجمع والقصر في الصلاة ) .
الأمر الثاني : قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها " إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام " وكان آخر مطوية كتبها ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الأمر الثالث :قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها " استوصوا بالنساء خيرا " وكان آخر ما وقع عليه ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ بيان عن مكانة المرأة ومنزلتها وإعطائها حقوقها الشرعية ، وكأني بسماحة الشيخ رحمه الله تعالى اتبع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خاتمة حياته ، فحمد الله وسبح واستغفر إحساساً منه لقرب أجله ، كما كانت سورة النصر إيذاناً لقرب أجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما فهم ذلك ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ووافقه عمر ـ رضي الله عنه ـ .

وذلك كله من توفيق الله ورعايته لعبده المؤمن ، فمن نوى إتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعاش على ذلك ، مات على ذلك وبعث على ذلك وحشر مع من أحب .

أما جنازة ـ سماحة الشيخ ـ : فهي تذكرنا بما في بطون الكتب عن أئمتنا الأعلام وسلفنا الكرام أمثال الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم .
فقد نقل الذهبي قول السُّلمي : حضرت جنازة أبي الفتح القوًّاس مع الدار قطني ، فلما نظر إلى الجمع قال : سمعت أبا سهل بن زياد يقول : سمعت عبد الله بن أحمد يقول : سمعت أبي يقول : قولوا لأهل البدع : بيننا وبينكم يوم الجنائز ، وقد صدَّق الله ـ عز وجل ـ قول الإمام أحمد ، فكانت جنازته فوق الوصف والحصر ، قال الخلاَّل : سمعت عبد الوهَّاب الورّاق يقول : ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام مثله ( يعني : من شهد الجنازة ) حتى بلغنا أن الموضع مُسحَ وحُرِز على الصحيح ، فإذا هو من ألف ألف ، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ، ينادون من أراد الوضوء .
وقال أبو همَّام السًّكٌوني : حضرت جنازة شريك ، وجنازة أبي بكر بن عيا ش ، ورأيت حضور الناس ، فما رأيت جمعاً قط مثل هذا ( يعني :جنازة أبي عبد الله ) .

أما عن جنازة ـ سماحة الشيخ رحمه الله تعالى ـ وأصداء وفاته على قلوب الأمة الإسلامية جمعاء وألسنتها ووسائل إعلامها فقد صنف فيها تصانيف جمعت بين أحاسيس مرهفة وقلوب محزنة وأضواء متهافتة ، وألسنة ما قالت إلا ما يرضي الرب ـ عز وجل ـ فقد كان رحمه الله مثالاً حياً ملموساً عاش في خضم فتن القرن العشرين لله وبالله وعلى الله ، ومثالاً حياً أيضاً لجيل الصحوة المباركة في الوسطية السمحة بلا إفراط ولا تفريط فكان يجابه هؤلاء بالرفق واللين والحجة واليقين ،فرحم الله سماحة الشيخ وغفر له وأجزل له المثوبة

وختاما. فإن أردنا أن نموت متبعين فلا بد أن نلزم أنفسنا باتباع نبينا وما كان عليه سلفنا الكرام في منشطنا ومكرهنا ونترك كل سبيل يقذف بنا في أهواء المحن والفتن " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

مقالات الفوائد