اطبع هذه الصفحة


سؤال من ليبيا : من أكبر : الشعوب أم قادتها ؟

هشام محمد سعيد قربان


بسم الله الرحمن الرحيم


إن صح الاستشهاد بالقول بأن العبرة بعموم القول لا بخصوص السبب فلقد قالت الجموع في مصر وتونس وليبيا قولة كريمة مستقاة من كتاب لا ريب فيه ، لقد قالوا بصوت لا مفر لقادتهم من سماعه: ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ، لقد سئموا وملوا من جريمة كبر مقتها وإثمها عند الله لأولئك الذين يقولون مالا يفعلون ، إن استمرار غياب البرهان فى أرض الواقع والمنجزات يعمق هوة عميقة وسحيقة بين الإدعاء بالقول والتصديق بالعمل , فلم يعد للترقيع فائدة فلقد بلي واهترأ ثوب الكذب, وكثر فتقه, وانشق كل سابق رتقه, وبانت سوأة لابسه للملأ, وفجأة حدث مالم يكن فى الحسبان, وانقلب السحر على الساحر, بل وأمن بعض اتباع السحرة .

هاتوا برهانكم على إدعاء محبة أوطانكم ومواطنيكم, هذه مقولة وضعت تحت المحك الكثير والكثير, وسألتهم سؤالا لا تنفع المراوغة والتضخيمات والمزايدات الإعلامية في التهرب منه، هذا السؤال هو : من أكبر : الشعوب أم قادتها ؟
في ثنايا هذا السؤال ومضات مضيئة تهدى الساري في ليل الظلم, وتعلمه أن المصلحة العامة هي أعلي وأولي بالتقديم على كل المصالح الخاصة، وتذكر الجميع بمعني مغيب لحب الوطن والمواطنة هو ان الميزان الحق للمواطنة ليس شعارات جوفاء وانتماءات اسمية وصور معلقة واناشيد مسجوعة, بل هو تقديم وتغليب مصلحة الأوطان على مصالح أشخاص القادة والقلة المتنفذة وكل المواطنين مهما كان موقعهم في الهرم الاجتماعي والوظيفي, ويعظم حجم البرهان المطلوب ومقداره كلما علا موقع الفرد في هذا الهرم - فكل راع مؤتمن ومسؤول عما إسترعاه الله- والبون شاسع بين سؤال راعي العشرة وسؤال راعي شعب بأكمله، ولا يخفانا الحديث النبوي الشريف الذي يتوعد من رعى أمر عشرة من الخلق فغشهم فكيف يكون وعيد وعقوبة من ولي رعاية شعب بأكمله فغشه جيلا بعد جيل؟ ولقد سررت وأثلج صدري بأن هذه المفاضلة لاتزال حاضرة فلقد سمعتها فى نداء مؤدب من أحد رفاق الأخ العقيد يقول له بحرقة ويذكره بأن ليبيا كوطن وشعب هي أكبر من أشخاصنا, وحبنا لها لا يستقيم ولا يكمل إلا إذا كان أكبر من حبنا لأشخاصنا ورؤانا وتطلعاتنا .
إن عظمة الفرد تكون بمقدار نفعه لغيره لا بقدر نفعه لذاته الصغيرة لأن أحب الخلق الى الله أنفعهم لخلقه ، ومن المؤلم حقا أن ترى من ثار بالأمس على الظلم والظلمة, ورأت فيه الشعوب المظلومة والمقهورة بالأمس أملها ومنقذها ينسى اليوم وعود ثورته المجيدة, ويجحد دروسها المرة فى دوامة و أسر تمجيده لذاته الصغيرة الذي يجعله يظن أنه بمفرده هو الشعب بأكمله والوطن بمجموعه, ويالها من هلوسة مخيفة وجنون قاتل يهدد الملايين .

لقد كشفت الأحداث الأخيرة أوراق التوت عن كثير من السوءات ، وزالت الأقنعة الوطنية والثورية عن بعض الوجوه فإذا خلفها ذئاب تختطف شعوباً بأسرها, وتقول لها حينما تتململ من سجنها مقولة محذرة : إحمدوا الله على نعمة الحياة الأمنة وأنني لم أعضكم بأنيابي الحادة وأكلكم كما أكل الذئب الأخر الخراف الأمنة فى المزرعة المجاورة ، ويالها من مساومة غير أخلاقية بين الذئب والخراف حينما يبتزهم ويعرض عليهم خيارين الغبن ظاهر فى كليهما : 1) إما الحياة والامن المزعوم داخل أسوار مزرعتي العالية و لكم المزيد من البرسيم الطري والعلف اللذيذ أو 2) وضع رقابكم تحت أنيابي اللامعة ومخالبي القاطعة, خياران لئيمان لاثالث لهما: احكمكم بظلم او اقتلكم بلا رحمة, ويستعين الذئب كعادته بعدد من النعاج السمينة لتزين لهم الخيار الأول وتخيفهم من الثاني, وتحاول اقناعهم بكذب وسوء نية من يحدثهم عن المروج الخضراء الفسيحة والحياة الحرة الكريمة خارج أسوار المزرعة واسلاكها الشائكة، وكعادتها تصدق الخراف البريئة الذئب الذي يكرم ولائها بالمزيد من البرسيم الاخضروالحلو والعلف المستورد الطري فتشتغل بجمعه وأكله عن أحلام الحرية وندائها, ولكن الأمر الذي لم يفطن له الذئب فى خضم جنون عظمته أن للبرسيم تاريخ وأجل تنتهي فيه صلاحيته, ويضعف مفعوله وتأثيره المخدر, فتستيقظ الخراف يقظة لا نومة بعدها, وتشم عندئذ عبق الحرية الذي لا يعدله كل برسيم الأرض وعلفها حتى لو كان مستوردا .


 

مقالات الفوائد