اطبع هذه الصفحة


الشعب يريد ....اسقاط التجهيل

هشام محمد سعيد قربان


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


أتاك الربيع الطَّلق يَختال ثائرًا:
الشعب يريد، ويريد، ويريد، وما أكثر ما يريد الشعب بعد أن أفاق من غَفلته التي طالَت! خصوصًا بعد أن اكتَشَف أن لَدَيه ما يُخيف به جَحافل الظلم والشبيحة والبلطجية؛ لسان يتحرَّك، وكلمات حقٍّ يسيرة تَغلب الجيوش، وتهزُّ العروش.

تعدَّدت المطالب في ميادين التحرير،
وساحات الاستقلال والتغيير، ولكنَّ جوهرها - مع تنوُّعها - واحد، وتدور حول محور واحدٍ، وإنِ اختَلَفت مسمَّياتها، فما هو؟ أهو العدل؟ أم الحرية؟ أم المساواة؟ أم رَفْع الظلم؟ أم فَضْح الفساد ودَرْؤُه، ومعاقبة رموزه كائنًا مَن كانوا؟ أم إنشاء دولة المؤسَّسات والقانون؟

دعوني أزيدكم شوقًا بتأخير الإجابة قليلاً، ولنَستمع إلى قصة واقعيَّة فيها الكثير من الدروس والعِبَر، تدور هذه القصة حول موقف لمُفكر إسلامي مشهور، أظنُّه مالكَ بن نبي - رحمه الله رحمة واسعة - أو لعلَّه عالِم آخر، ولقد فاجَأ هذا العالِم - برأيه المُعارض ومنظوره المخالف - عددًا كبيرًا من المحاضرين والحضور في مؤتمر ضخمٍ.

يا لَجُرْأته حين يُخالف - جهارًا نهارًا - ما أجْمَعَت عليه مؤتمرات وأبحاث ونقاشات، بأن قضيَّة احتلال المسجد الأقصى وفلسطين، هي أهم وأخطر قضيَّة تواجه الإسلام وأهله، لا تَقلقوا، فقد تصدَّى له بعض العلماء والمُفكِّرين؛ ليُناقشوه، ويُحاجُّوه، ويُفحموه.

ثم زادَت المفاجأة واشتدَّت الدهشة في ذلك الجمع، حين سأله بعضُ مَن تصدَّوا له سؤالاً يجمع بين الأدب والكِياسة، ولعلَّه انطَلَق من أسلوب: مِن فمك أُدينك، سأله: إن لَم تكن قضيَّة الأقصى المبارك - بتاريخها، وبشُهدائها، ودمائها، وآلامها - قضيَّة الإسلام الأولى، فهلاَّ أخْبَرتنا:
ما هي قضيَّتنا الأولى؟

فأجاب مالك بن نبي بهدوءٍ وثقة عجيبَيْن: قضيَّة الإسلام والمسلمين الأولى هي الجهل!

ليس لديَّ تفاصيل هذه الواقعة، وأعْتَرف أني عرَضتها هنا وأخْرَجتها إخراجًا مسرحيًّا؛ للتشويق والإثارة، لكنَّ جوهر القصة واحد، ولعلي أتخيَّل الأثَر البليغ الذي أحْدَثه جوابُ مالك بن نبي، ولعلَّ تكبيرات القوم
النابعة من الإعجاب والقَبول والدهشة، أيْقَظت بعض النِّيام وهم يتساءَلون: هل أتى العيد قبل حينه بأشهر؟

صدَق والله مالك بن نبي، فإن قضيَّة العالَم الإسلامي الأولى والكبرى هي: الجهل، وهي العَقبة الكَؤُود في تحقيق معنى الاستخلاف، وإيقاظ الشعوب من سُباتها، وبناء المجتمع المسلم الواعي، ودعوة الخَلْق بدليل الفِعل والمثال الحي، والثمرة الطيِّبة.

حين تكون الأُمَّة جاهلة ومُجَهَّلة، وغارقة في جَهْلها، فلا غرابة أن يُحتلَّ الأقصى وتَطول غُربته، ولا عَجَب أن تُؤخَّر أمة الشهادة إلى ذَيْل القافلة، ولا عجَبَ أن تُستباح حُرُمات الأُمة، وتَضيع حقوقها، وتُسرق مُقدَّراتها.

ألا ما أسهلَ استعباد أمَّة جاهلة، فضَعْفها كامنٌ في جهلها، ويَزداد ضَعْف الجاهل، ويطول أَمَدُ رِقَّه وذِله، حين يُنكر الجاهل جهلَه، ويُخيَّل إليه، فيظنُّه  صوابا وحقًّا، ويُصِر على دَرْبه.

لقد أدرَك الطواغيت والفراعنة على مرِّ التاريخ، أن ضمان جهل الأُمم أيسرُ طريق لاستعبادها، وكلما أتى معلِّم أو مُصلح - يذكِّر الناس بجَهْلهم - ذُعِر النظام المُنتفع بدوام الجهل، وصاحَت ذيوله وأبواقه، وأقلامه المأجورة: شعبنا العزيز، إننا نخاف أن يُبدِّل هذا الخارج المارق دينَكم، وأن يظهر في الأرض الفساد.

إنَّ قضيَّة أمة الإسلام الكبرى هي الجهل، وللأسف فلقد أفاد من جهلِ الأمة وتجهيلها - المقصود والمُمنهج - الكثير والكثير من خارج الأمة، ومن بني جِلدتنا، وما زالوا يواصلون سَعْيهم المشؤوم في تجهيل الأمة لاستعبادها، ودوام تسلُّطهم عليها، وتَجهيلها المُمنهج وتخديرها؛ لكيلا يستيقظَ العملاق النائم.

ما وصَل حال أُمَّتنا إلى ما وصَل إليه، إلاَّ حين جَهِلت كينونتَها، وعَمِيتْ عن هُويَّتها، فأصبَحت لا تَقرأ ماضيها، ولا تثمّن اصطفاءَها وخيريَّتَها، ولا تُقَدِّر شرف سَندها المُتصل بالسماء، وتَنسى تاريخها وأمجادها وانتصاراتها، ولا تعرف معنى
"اقرَأْ"، وتتعامى عن أسرار القوة والعزة والكرامة الكامنة في عروقها، وتَشعر بالهزيمة الرُّوحية، فتتحاقَر ما بيديها من جواهر الحق الأصيل، وتتطلَّع إلى ما في أيدي الآخرين من فكرٍ مَشوَّه، وزبالة أفكار، ولَعِب أطفال، ووَهْم شيطان، وزَيْف وتَحريف.

أترى جاهلاً يُدافع عن حقوقه المسلوبة وهو لا يَعرفها؟
أم هل ترى شعبًا مُستعبَدًا، يَنهض للتخلُّص من قيود الذل وهو مقيَّد بقيود الجهل، مُعتقدًا بضَعْفه، وجاهلاً بأسرار قوَّته؟
وهل ترى ضعيفًا مُستذلاً، يَنتفض من أَسْره وهَوَانه وهو يَجهل حقَّه الإلهي في الحرية والعزة والكرامة؟


إنَّ الربيع العربي لن يُؤتي أُكُله، ولن تَيْنَع ثمرته إلاَّ إذا نفَضَت الشعوب المسلمة غبار الجهل عنها، و طلبت العلم من مصادره واهله الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وتعلَّمت حقيقة ومعاني ما تطلب، وسألَتْ أنفسها:
ما هي الحرية والعدالة والمساواة؟ وما هو الفساد؟ ومَن هو المفسد؟ وما هو الإصلاح الذي تَرجوه؟ وما مَسلكه؟

إنَّ لهذه المصطلحات معانيَ عدَّة،
فأيُّ معنًى نريد؟ وما هي المرجعيَّة في الفَهم والفكر والسلوك؟

فإن رَضِينا لبشر مثلنا أن يُعَرِّفَ لنا هذه المطالب ويحرفها وَفْق هواه، رَضِينا بعصر جهلٍ وتجهيل جديدٍ، وإنْ رَدَدْنا الأمر لله وللرسول، نِلْنا أعلى مراتب العلم والعزة والحرية.

إن ما تقدم شرحه ليس بدعا من القول، بل هو من قواعد دين الاسلام واصوله العظام، واسأل الله ان يرحم الامام البخاري رحمة عظيمة تتنامى وتتضاعف الى يوم الدين، فهو الذي عقد في  بداية مصنفه الصحيح في كتاب العلم بابا  تحت عنوان بليغ يلخص كل ماتقدم شرحه:   
باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى :( فاعلم أنه لا اله الله واستغفر لذنبك) فبدأ بالعلم، ونقل الامام ابن حجر العسقلاني في مؤلفه فتح الباري شرح صحيح البخاري عن العلامة ابن المنير تعليقه على هذا العنوان الذى وفق له الامام البخاري:  " أراد به ان العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران الا به، فهو متقدم عليهما لأنه مصحح للنية المصححة للعمل". 

أتمنَّى أن تصلَ نصيحتي المتواضعة - وأنا الطاعم الآمن الكاسي - إلى تلك الجموع المجاهدة المباركة، المعتصمة في ميادين الاستقلال وساحات التغيير، ألاَّ تَنسى في خِضَم الشعارات المختلفة أنَّ عدوَّ الأمة المسلمة الأول هو الجهل والتجهيل، وبالعلم عن الله ورسوله نهزم الجهل، و نفضح التجهيل الممنهج لإمتنا، وندحر اهله ونبطل كيدهم.


ألا فارفعوا يا أبطالنا شعارنا الأهم، ومطلبنا الأوحد: الشعب يريد إسقاط التجهيل، الشعب يريد دولة القرآن، الشعب المسلم المتعلم يعرف ما يريد.

 

مقالات الفوائد