اطبع هذه الصفحة


الخَيْرُ الوَفِيرُ فِي بَعْضِ مَا يَكْرَهُهُ أُنَاسٌ كَثِيرُون

بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ
adrrem@yahoo.com


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


تَمُرُّ على الإنسان خلال حياته مواقِفُ كثيرة، يتعرَّض في بعضها للأذى والضيق، وفي بعضها للرّفعة والسَّعة، وقد يتخذ في بعضها القرارات التي يعتقد أنها صائبة، فيفرح بتحصيل شيء، ويحزن على ضياع شيء، وهو لا يعلم الخير والشر على وجه الحقيقة، فقد يجلب لنفسه شرًّا وهو لا يعلم، وقد يُبعد عن نفسه خيرًا وهو لا يعلم، وهذا من جراء حُكمه على المواقف والأحداث بالظاهر، ومن قلة علمه بالغيب والباطن، فالله هو المستأثر بعلم الغيب ولو علمه أحد من البشر لاستكثر من الخير وأبعد عن نفسه الشر؛ قال تعالى على لسان نبيه: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف188].
وقد علَّم الله تعالى المسلمين ألا يحزنوا على ما فاتهم من متاع الدنيا الزائل وألا يفرحوا بجلب هذا المتاع وذلك في قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد23]، وهذا لا يعني أن الإنسان لا يسعى، بل السعي في تحقيق المطالب المباحة للنفس مطلوب، فهو لا يعلم في أي شيء يكون الخير، وفي أي شيء يكون الشر، وبخاصة الابتلاءات والأمور القدرية التي ليس للإنسان دخل فيها.
وكم من أناس رزقهم الله المال فأودى بهم إلى الكبر، وكان سببًا في نقمة الله عليهم؛ لأنهم لم يُراعوا حق الله فيه، فالعبرة ها هنا أن الإنسان قد يحب الشيء ويكون فيه هلاكه، وقد يكره الشيء ويكون فيه صحته وعافيته، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة216] فالإنسان بطبعه يحب الزوجة والأولاد والتمتع بنعم الله في الحياة، ويكره الحرب والدمار والموت، ولكنه –أي: الجهاد- يكون خيرًا في بعض الأحيان للحفاظ على الزوجة والأولاد وبلاد المسلمين من الضياع، وقال أيضًا مؤكدًا لهذا المعنى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء19]
ثم أكده تعالى بحادثة من واقع حياة الناس، فهؤلاء نفرٌ من بني إسرائيل خرجوا هروبًا وخوفًا من الطاعون وكرهوا نزوله بأرضهم، فخرجوا منها على خلاف الهدي النبوي فأمر الله بموتهم، فماتوا جميعًا من فورهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}[البقرة243] قال ابن عباس: «كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون وقالوا: نأتي أرضًا ليس بها موت، فأماتهم الله تعالى؛ فمر بهم نبي فدعا الله تعالى فأحياهم»([1]).
لذا؛ قال صلى الله عليه وسلم عن الطاعون: «إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا، وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنَّهُ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا»([2]).
وعلى النقيض من هؤلاء القوم، فقد فرح قوم هود بسحاب رأوه في السماء ظانين أنه غيث، فكان عذابًا من الله تعالى القائل: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف24-25]
وأيضًا فقد التقط فرعون وآله موسى -عليه السلام- رجاء أن يكون لهم قُرَّة عين فكان كما قال تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}[القصص8] فاللام في قوله تعالى: (ليكون لهم عدوًا وحزنًا) يسميها العلماء لام الصيرورة أو لام العاقبة، والمعنى: التقطه آل فرعون وهم فرحون؛ ليكون لهم ابنًا بارًّا وسندًا وعونًا، فكان بتقدير الله عدوًا وحزنًا.
وهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ينزل الابتلاء به وبزوجته سارة فكان في ظاهره الشرّ والكراهة ولكن في طيّات المحنة منحة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ مَنْ هَذِهِ مَعَكَ قَالَ أُخْتِي قَالَ أَرْسِلْ بِهَا، قَالَ فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ وَقَالَ لَهَا لَا تُكَذِّبِي قَوْلِي فَإِنِّي قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ قَالَ فَلَمَّا دَخَلَتْ إِلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا قَالَ فَأَقْبَلَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ قَالَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَتْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ قَالَ فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ قَالَ فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ قَالَ قَالَتْ اللَّهُمَّ إِنَّهُ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ قَالَ فَأُرْسِلَ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ قَالَ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ كَيْدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً»([3]).
وهكذا عادت سارة إلى إبراهيم بغنيمة باردة وأخدمها الله هذه الجارية، ثم كان من أمر الجارية هاجر ما كان من ولادة إسماعيل عليه السلام، وكان من نسله محمد صلى الله عليه وسلم، فكل هذه الأحداث ظاهرها الشر والمحنة ولكنها تنطوي بقدر الله على عطاءات ربانية ما كان لها أن تكون لولا هذه الأسباب والأحداث الجسام.
وقد تعلم سلفنا الصالح أن الشر قد ينطوي على الخير، وأن الخير قد يظهر من ورائه الشر، فلا يعلم هذا وذاك إلا الله تعالى، وقد نزلت آيات عدة في أكثر من موضع في القرآن الكريم تنبههم إلى ذلك، ففي الأحداث التي أحاطت بغزوة بدر أن الصحابة أرادوا أن يُغِيْرُوا على تجارة قريش الآتية من الشام مرورًا بمحاذاة المدينة بصحبة أبي سفيان ليعوضوا شيئًا مما تركوه في مكة لكفار قريش، ولم يريدوا أبدًا الدخول مع قريش في مواجهة، ولكنَّ الله تعالى أراد الحرب؛ ليستأصل شوكة قريش ويظهر الإسلام ويزداد رفعة، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال7] أي: تريدون التجارة لا الحرب، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال8] وكان الخير فيما أراده الله، وكانت غزوة بدر الكبرى الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين حتى سمَّى الله يومها (يوم الفرقان) الذي فرَّق فيه بين الحق والباطل.
وفي صلح الحديبية بين المسلمين ومشركي قريش كان ظاهر شروط الصلح أنها مجحفة بالمسلمين، وخاصة الشرط القائل بأن من جاء من قريش مسلمًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاده صلى الله عليه وسلم إلى قريش، ومن جاء من المسلمين إلى قريش لم يعيدوه. فاغتاظ الصحابة وقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟! قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا".
وجاء عمر بن الخطاب وراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشرط وهَمَّ أن يعلن عدم قَبُولِهِ لولا رحمة ربه، ولكن بعد حين خرج النفر الذين أسلموا من مكة وتجمعوا بساحل البحر ينهبون قوافل قريش الذاهبة إلى الشام، فاستغاثت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم؛ ليكونوا بجواره في المدينة وأن يسقطوا هذا الشرط، فلما ظهرت هذه الحقائق للصحابة قَالَ الصحابي الجليل أَبُو وَائِلٍ لأتباعه: «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الحُديبية وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ لَرَدَدْتُ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ وَمَا وَضَعْنَا أَسْيَافَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا لِأَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ قَبْلَ هَذَا الأَمْرِ»([4])
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالاً-أي: مكفرات عن مراجعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أدرى منه وأطوع لربه تبارك وتعالى.
وما زال الصحابة يتعلمون منه صلى الله عليه وسلم ومن مواقفه، وما زال القرآن ينزل ليصحح الأفهام، ويُرَقِى العقول ويعلمهم ألا يكرهوا أمرًا ظاهره الشر والذي سرعان ما ينجلي وينزاح تاركًا الخير واضحًا جليًّا، فهذه بركة عائشة رضي الله عنها تتجلى في هذا الموقف حيث قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ ذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَمَا مَنَعَنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِي فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ قَطُّ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ لَكِ مِنْهُ مَخْرَجًا وَجَعَلَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ بَرَكَةً»([5])
هذا، وقد أوضح الله لها من قبل هذا المعنى في الحادث الجلل، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}[النور11]
وهذه جويرية بنت الحارث أم المؤمنين، سُبيت يوم غزوة المريسيع في السنة الخامسة، وكان أبوها سيِّدًا مطاعًا في قومه، ولكنهم اليوم أسرى حرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا السبي لا شك يكرهه الناس أجمعين فهو الذي يجعل الحر عبدًا والعزيز ذليلاً والقوي ضعيفًا والشامخ منكسًا، فأصابها وقومها الهم والغم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تطلب منه إعانة في فكاك نفسها، فقال: "أو خير من ذلك؟ أتزوجك" فأسلمت، وتزوج بها; وأطلق لها الأسارى من قومها.
فكان الخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله في هذا السبي وفي هذه الحرب، وزاد الخير وفاض على جويرية فأصبحت -بفضل من الله- أُمَّ المؤمنين.
وهذه أم المؤمنين أم سَلَمَةَ نزل بها من البلاء ما نزل، حيث توفي زوجها فأظلمت الدنيا في وجهها وأحست أن نهاية الحياة قد اقتربت، ولكنها لما رضيت بقضاء الله وقدره، وامتثلت لشرع نبيها صلى الله عليه وسلم وجدت الخير فيما خبأه الله لها، وأحست بالخير يلفه الشر الظاهر المتمثل في موت زوجها وعصب حياتها، فقالت رضي الله عنها: «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ اسْتَرْجَعْتُ وَقُلْتُ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْنِي خَيْرًا مِنْهُ ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي قُلْتُ مِنْ أَيْنَ لِي خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي فَخَطَبَنِي صلى الله عليه وسلم إِلَى نَفْسِي. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَقَدْ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِأَبِي سَلَمَةَ خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم»([6]).
وعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قال صلى الله عليه وسلم: «قال رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى سَارِقٍ وَعَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ تُقُبِّلَتْ أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهِ مِنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهِ عَنْ سَرِقَتِهِ وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»([7])
قال العلماء: قول الرجل (اللهم لك الحمد) لأن صدقتي وقعت بيد من لا يستحقها في ظاهر الأمر وفي حكمي وتقديري، فلك الحمد حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي, فقد سلَّمت وفوَّضت ورضيت بقضائك؛ فأنت وحدك المحمود على جميع الحال, لا يحمد على المكروه سواك.
وقد تعجب الصحابة من هذا الرجل كيف قُبل منه هذا العمل, ولكنها بركة التسليم والرضا, وعدم التسرع في الأحكام وإن كان ظاهرها عدم الرضا أو القبول، لذا قال بعض السلف: لا تقطع الخدمة ولو ظهر لك عدم القبول.
«وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- تمكن منه أعداؤه وعلى رأسهم نصر المنبجي، فنفوه وسجنوه وعذبوه، فلم تَلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، وما زاد ذلك الناس إلا محبَّة فيه وقربًا منه وانتفاعًَا به واشتغالاً عليه، وحنُوًّا وكرامة له.
وقد ظن أعداؤه أن ذلك يؤدي إلى هلاكه فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه، وأصبحوا وأمسوا وما زالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه، يتقطعون الحسرات ندمًا على ما فعلوا، وقد نزل بهم وبكبيرهم نصر المنبجي من الخوف والذل ما لا يعبر عنه.
وما زال في كل وقت ينشر من علم شيخ الإسلام ابن تيمية ما تقر به أعين المؤمنين، واستقر عند عامة المؤمنين محبة الشيخ وتعظيمه وقبول كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه»([8]).
من فهم هذه الأمور العظام، وهذه الفوائد البديعة، كانت بعض مواقفه وبعض تعاملاته مع الأحداث موافقة لفعل الشيخ أبو محمد بن أبي زيد الذي كان من العلم والدين في المنزلة والمعرفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها؛ فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله عليَّ النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها»([9]).

وأخيرًا، قال ابن عمر: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له، فيسخط على ربه -عز وجل- فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا؛ إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.

--------------------------
([1]) كما في القرطبي على تفسيره للآية.
([2]) رواه البخاري 3473، مسلم 2218، الترمذي 1065.
([3]) رواه البخاري 2217، مسلم 2371، أبو داود 2212، الترمذي 3166.
([4]) رواه البخاري 4189، مسلم 1785.
([5]) رواه البخاري 334، مسلم 367، أبو داود 317، النسائي 310، ابن ماجة 568.
([6]) رواه مسلم 913، أبو داود 3115، الترمذي 3511، ابن ماجة 1598.      
([7]) رواه البخاري 1421، مسلم 1022، النسائي 2522.
([8]) البداية 14/51 بتصرف شديد.
([9]) تفسير القرطبي على الآية 19 من سورة النساء.


 

مقالات الفوائد