اطبع هذه الصفحة


قبل أن يُقال: اذكروا مآسن موتاكم!

د.محمود عبد الجليل روزن


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


على خُطى التلميذ صاحب الجَمَلِ يمضي بعض مثقفينا، ولو وضع الجمل رحله فإني أشكُّ أن يضعوا رحالهم ليُريحوا ويستريحوا.
والتلميذ صاحب الجَمل يا صاحِ؛ تلميذٌ فريدٌ في عشقه للجَمَل، يأتيه سؤال التعبير عن الربيع فيكتب مُجيبًا: «الربيع فصلٌ بديعٌ، يكثر فيه العشب الأخضر والمرعى الخصيب، فترعى الحيوانات والماشية، كما ترعى الجِمال، والجَمَلُ حيوانٌ أليفٌ، يُضرب به المثل في الصبر ويسمونه سفينة الصحراء، له سنامٌ كبير، يُخزِّن فيه الدهن...».

ويمضي التلميذ العاشق في وصلة العشق الجَمَلية إلى أبعد مدىً ، ناسيًا أنَّ موضوع التعبير عن الربيع!
ويأتيه سؤال آخر عن الكمبيوتر فيجيب: «الكمبيوتر وسيلة الاتصال الأولى في هذا العصر، على عكس العصور السابقة التي كان الناس فيها لا يعرفون الاتصالات، وإنما كانوا يتنقلون في أسفارهم بالجمل، والجمل حيوانٌ أليف، يُضرب به المثل في الصبر، ويُسمُّونه سفينة الصحراء....»..إلخ!
وحين يأتيه سؤالٌ عن الثورة يقول: «الثورة قامت في الخامس والعشرين ،وواجهت التحدي الأعظم يوم موقعة الجمل، والجمل حيوان أليف..»...إلخ.

فلمَّا رسب عاشق الجمل اشتكى لكل مسئول حتى رفع شكواه إلى السيد وزير التعليم قائلًا: «..بعد التحية فإني يا سيادة الوزير مُضطهد من المدرسين الذين يتعنتون في تصحيح ورقة إجابتي، ورغم ذلك فأنا صابرٌ مثل الجمل، والجمل -كما تعلم يا سيادة الوزير - حيوان أليف يُضرب به المثل في الصبر ويُسمونه سفينة الصحراء...إلخ...»..

وهكذا مثقفونا؛ من الحداثيين وما بعد الحداثيين، لابد أن يُقحموا الإسلاميين في كلِّ موضوعٍ، ويذمُّوهم بمناسبة وبغير مناسبة، مُستخدمين الألفاظ المعتادة الظلامية وأخواتها من الرجعية والتخلفية إلى آخر القائمة العريضة. بما يؤكد أنَّ كثيرًا من المثقفين المختلفين فكريًا مع الإسلاميين لا يحملون أيَّ قدر من المرونة والرغبة في التقريب والبحث عن المشترك، وإنما يريدون أن يبقوا في عزلة فكريةٍ يصورون لأنفسهم أنَّهم محتكرو الثقافة والإبداع، وأنَّ الآخرين ما هم إلا مجموعةٌ من (آكلي عقول البشر)، حتى وإن كان الآخرون هم كلّ أبناء الوطن.

وقد جاءت وفاة الراحل (حلمي سالم) لتؤكد هذا المعنى، فبدلًا من التركيز على نعيِ الرجل والدعاء له بالمغفرة؛ يتحرَّى الكثير اجترار خصومته مع الإسلاميين، ذاهبينَ في التنديد بهم كلَّ مذهبٍ، حتَّى أنِّي خشيتُ أن يقول أحدهم: إنَّ سرطان الرئة الذي مات به الراحل مرضٌ إسلاميّ إرهابيّ!!
الرجل أفضى إلى ما قدَّم، ونسأل الله له المغفرة والجنان، ونرجو أن يكون قد خُتم له بالخير في هذا الشهر الكريمِ، ولكن أخشى ما أخشاه على هؤلاء المثقفين أن تتحوَّل كل طاقاتهم – مع الوقت – لتصبَّ في مستنقعٍ آسنٍ من الشتائم والاتهامات التي لا تليق بمن يتزيَّا بزي الثقافة، تمامًا كما استهلك الراحل (حلمي سالم) طاقاته الإبداعية التي كان يمكن أن تُخرج لنا أفضل من ليلى مراد وشُرفتها التي تردَّى إليها من سماءٍ كانت أدواته تؤهله لأن يرتقيها، ولكنه أبى إلا أن يسير على درب شائكٍ لا يضيفُ فِكرًا ولا يُنير طريقًا؛ في تحدٍّ ليس له هدفٌ إلا التحرُّش الفكري وإثارة المعارك الأيدلوجية.

هل من الجميل أن يسأل سائل عن سبب العداوة التي يجترُّ البعض الآن ذكراها بين الإسلاميين و(حلمي سالم) فيقال:
«الرب ليس شرطيًّا حتى يمسك الجناة من قفاهم،إنما هو قروىٌّ يزغط البط،ويجس ضرع البقرة بأصابعه صائحا:وافرٌ هذا اللبن!!الجناة أحرار لأنهم امتحاننا الذى يضعه الرب آخر كلّ فصلٍ قبل أن يؤلف سورة البقرة»؟!

دعك من أنَّ هذا ليس شعرًا، ولكنَّ حداثيينا يُصرُّون على أنَّه شعرٌ، ولسان حالهم: (عنزةٌ وإن طارت)، ودعكَ من (كومة النهود ) التي يمتلئ بها النصّ فيما لم أذكره، ودعكَ من التناصِّ مع (عُكشة) في مسألة تزغيط البطّ؛ دعكَ من كلِّ هذا العكِّ: هل يرضى أحدهم أن يُكتبَ هذا النصُّ على شاهد قبر الراحل؟ أم ستبادرون بالقول: اذكروا محاسن موتاكم؟!

القضيَّةُ برمَّتها تستدعي مُجدَّدًا أزمة الفكر اليساري والليبرالي الذي سيطر لحقبةٍ طويلةٍ على المشهد الثقافي المصري، وآنَ له أن يُراجِع أداءه، وإلا فعصا سليمان التي يتكئُ عليها موشكةٌ على الاهتراء، لا بسببِ عداوة الإسلاميين وتضييقهم، ولكن لأنَّ الزَّبدَ يذهبُ جُفاءً ولابدّ.


 

مقالات الفوائد