اطبع هذه الصفحة


مسلمات الأزمة السياسية المصرية

د. بشير موسى نافع


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


ليس ثمة شك أن مصر تعيش أزمة سياسية مستحكمة. ما يقال أحياناً حول أن المعارضة تفتقد إلى القاعدة الشعبية الواسعة، صحيح. ولكن المشكلة ليست في حجم القاعدة الشعبية، وحسب.
يتقاسم الفضاء السياسي العام عدد من القوى، اصطفت في أغلبها في معسكرين رئيسيين: جبهة الأنقاذ المعارضة، وتضم عدداً من الأحزاب التي تصف نفسها بالليبرالية أو المدنية أو اليسارية، بغض النظر عن دقة هذه الأوصاف،
وتحالف غير معلن للأحزاب والجماعات التي توصف بالإسلامية، بغض النظر عن التنوع الملموس في تصورها للعلاقة ما بين الإسلام والسياسة. أغلبية الشعب، بالتأكيد، وبالرغم من أن الثورة المصرية جذبت قطاعات واسعة من المصريين إلى المجال السياسي، ليست طرفاً في جدل وتدافع المعسكرين.

هذه، إذن، أزمة الطبقة السياسية بالدرجة الأولى، وأزمة القطاع المنخرط بصورة يومية وحثيثة في العمل السياسي. وهؤلاء، في النهاية، من يرسمون صورة البلاد السياسية، من يشكلون محاور الجدل، ويصنعون مراكز الثقل التي تلتف حولها القطاعات الشعبية الأوسع.

يمكن العودة بهذه الأزمة إلى آب/اغسطس الماضي. خلال الفترة بين نهاية حزيران/يونيو و12 آب/أغسطس،
لم تكن القوى السياسية المصرية، بكافة توجهاتها، تأخذ الرئيس محمد مرسي، القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين، مأخذ الجد. على نحو أو آخر، بدا أن الرئيس يتقاسم السلطة مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان سبق بإعلان دستوري يحد من سلطات الرئيس، على الأقل حتى الانتهاء من مسودة الدستور واكتمال بناء مؤسسات الدولة.
ولكن الرئيس، الذي أقلقته أوضاع القوات المسلحة والمخاطر، الاقتصادية والأمنية، التي تحيق بالبلاد، وضع حداً لازدواج السلطة، وأجرى تغييرات واسعة في قيادة القوات المسلحة؛ ومن ثم، بدأ عملاً جاداً لإصلاح أجهزة الدولة ومؤسساتها.

هنا، بدا واضحاً أن مرسي أصبح عنوان نظام الحكم الأول بعد الثورة المصرية، وأخذت القوى السياسية بالتالي في الاصطفاف. أولى التحركات لمواجهة الرئيس مرسي وحكمه تجلت في محاولة تنظيم مظاهرات معارضة عبر أنحاء مصر يوم الجمعة 24 آب/أغسطس؛ ولكن المحاولة أخفقت إلى حد كبير.
في 22 تشرين ثاني/نوفمبر، أصدر الرئيس إعلاناً دستورياً محكملاً، قصد به الإسراع بالعملية السياسية ووضع حد للمرحلة الانتقالية التي بدا أن لا نهاية لها.
ولكن صياغة بعض مواد الإعلان الدستوري كانت إشكالية بالتأكيد، مما وفر فرصة كبيرة للحشد ضد الرئيس. ومنذ الأسبوع الأخير لتشرين ثاني/نوفمبر، ومصر غارقة في خضم أزمة بالغة الحدة، لا يبدو أنها في طريقها للانفراج.

يصعب في أجواء الأزمات السياسية الحادة أن تتوقف أطراف الأزمة لتأمل مختلف جوانب الموقف، أو محاولة استشراف العواقب؛ إذ تتطلب مناخات التأزم عادة استجابات سريعة للتطورات، وتبني مقاربات تكتيكية، صغيرة، للوقائع، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.

هذه محاولة لتحديد المعطيات الرئيسية للأزمة المصرية السياسية:


أولاً-
ثمة عدد من المطالب تثيرها المعارضة، تتغير من وقت إلى آخر، وتشترط تلبيتها قبل أن تقوم بدورها في تخفيف حالة الاحتقان والتأزم.
في صيغتها الأخيرة، تتناول هذه المطالب مسائل مثل تعديل الدستور، إقالة حكومة قنديل وتشكيل حكومة إئتلاف وطني، وغيرها.
بعض هذه المطالب يمكن تحقيقها بالفعل، وبعضها، مثل مطالبة الرئيس بتحمل مسؤولية العنف الذي شهدته البلاد منذ 25 كانون ثاني/يناير، ليس سوى إنذارات انقلابية.
خلف هذه المطالب، على أية حال، ثمة تصميم من قبل المعارضة، أو عدد من قياداتها، على إطاحة الرئيس؛ وهذا ما تدركه جماعات المناصرين لهذه الزعامات وما تدركه الجماعات المؤيدة للرئيس.

ثانياً-
أن كل محاولات الحوار لإيجاد مخرج من الأزمة لم تفلح حتى الآن، لا مسار الحوار الذي يرعاه الرئيس، ولا تلك التي اقترحتها زعامات سياسية، مثل عبد المنعم أبو الفتوح، أو تعهدها الأزهر، حيث التقت القوى السياسية المختلفة للإعلان عن نبذ العنف قبل أسبوع ونيف. في ظاهره،

يعود هذا الفشل في انطلاق حوار جاد وعقلاني إلى فقدان الثقة المتبادل بين الطرفين؛ ولكن السبب الحقيقي يتعلق بسعي المعارضة إلى إسقاط الرئيس. ما لم تتخل المعارضة عن هدفها هذا، وتقبل بتطبيع الحياة السياسية وأن تمضي مصر نحو نهاية المرحلة الانتقالية، واستقرار نظام حكم ديمقرطي، تعددي، فلا طائل يرجى من محاولات الحوار ومقترحاته.

ثالثاً-
بغض النظر عن أحاديث المؤامرة الشائعة في الشارع السياسي المصري، فإن سعي المعارضة الحثيث لإسقاط الرئيس، ونزعتها المستمرة لادعاء فقدانه الشرعية كلما وقع خلاف ما حول السياسات أو الإجراءات التي يتبعها، أو حتى ارتكاب أجهزة الدولة لأخطاء ما، لا يعبر عن طموحات بعض قادة المعارضة الجامحة وحسب، بل يعكس ميراثاً ثقافياً عميق الجذور في بنية الدولة المصرية وفي صفوف النخب المصرية السياسية، الحزبية وغير الحزبية. بعض قيادات المعارضة لم يتحرر بعد من اعتقاده بأحقية تولي رئاسة الجمهورية، ولكن المسألة أكبر من هذا.
وضعت أسس الدولة المصرية منذ مائتي عام على أساس النموذج الغربي، ونموذج الدولة الفرنسية بصورة خاصة: الدولة المركزية، ذات السيادة، المسيطرة على الأرض والشعب والفضاء العام، والتي تقبض على حق التشريع.

وبالرغم من أن الدولة المصرية الحديثة تجنبت الصدام الفج مع طبقة العلماء والانتماء الديني للمصريين، فقد شهدت مصر طوال القرن التاسع عشر ومطلع العشرين تهميشاً مستمراً للقوى والمؤسسات التي استند إليها الميراث الإسلامي، وتوتراً متفاوتاً بين الدولة وهذه القوى. وقد عبر بروز التيار الإسلامي السياسي في النصف الأول للقرن العشرين عن انقسام ملموس وحقيقي في الخارطة الاجتماعية، سيما في أوساط القوى الاجتماعية الحديثة، بين أولئك الذين تصوروا الإسلام مرجعية للسياسة والحكم، وأولئك الذين رأوا ضرورة تحرير الدولة والسياسة من المرجعية الإسلامية.
عاشت القوى والتيارات الإسلامية على هامش الدولة والحكم، وأحياناً في معسكر خصوم وأعداء الدولة الحكم، منذ ثلاثينات القرن الماضي.
انتقال القوى الإسلامية من الهامش إلى المتن، من معسكر الخصوم إلى مواقع قيادة نظام الحكم، هو تطور هائل في التاريخ المصري وفي تاريخ المشرق العربي الإسلامي، لم يكن ممكناً بدون حركة الثورة العربية؛ ولا يبدو أن من اليسير تقبله في أوساط النخب والقوى الاجتماعية التي نشأت في ظل الثقافة السائدة للدولة المصرية الحديثة. عدد من قادة المعارضة لم يتصور أصلاً، وغير قابل للتعايش مع، وجود رئيس بخلفية إسلامية سياسية للجمهورية المصرية، بغض النظر عن التحولات العميقة في تصور التيارات الإسلامية السياسية للدولة والحكم.

رابعاً-
يقع مثل هذا الانقسام في الطبقة السياسية لما بعد الثورة المصرية في أصل الأزمة، ليس في مصر وحسب، بل وكل الدول العربية التي تعيش عملية التغيير أو توشك أن تشهدها. الجماعات والأحزاب الإسلامية التي تقف إلى جانب المعارضة، أو الليبرالية التي تقف إلى جانب الرئيس، ليست إلا استثناء، ولدته سياسات انتهازية أحياناً، أو مقاربات طوباوية للسياسية. وهذا الاستثناء هو أقرب لتوكيد القاعدة منه إلى إسقاطها. وإن استمر مثل هذا الانقسام طويلاً، وأصرت أطرافه على التعبير عنه بوسائل العنف المختلفة، أو بحشد الشارع بسبب وبدون سبب، فإن عملية الانتقال للديمقراطية ودولة القانون والحريات، ستجهض بالتأكيد، إما لصالح المؤسسة العسكرية، أو بفعل تبني القوة الحاكمة لسياسات تحكمية؛ وذلك لسببين رئيسيين.
1- ان دول التغيير العربية كانت أصلاً، وقبل انطلاق الثورات، تعاني من أوضاع اقتصادية متفاقمة، وشبه انهيار في قطاعات الخدمات العامة، وتخل للدولة عن واجباتها. ثمة تراجع بالغ في مصر، كما في تونس والمغرب واليمن وسورية، في موارد الدولة، وعجز خطر في ميزانيتها؛ تماماً كما أنها تعيش تراجعاً فادحاً في أداء ومستوى قطاعات التعليم والصحة والنقل. وقد ألقت عملية التغيير والانتقال القلقة بأعباء مضاعفة على المالية العامة وعلى قطاعات الخدمات والإنتاج المختلفة. ليس في هذا من غريب، أو غير متوقع؛ ولكن استمرار هذه الأوضاع سيؤدي في النهاية إلى انهيار مالي واقتصادي. وليس ثمة ديمقراطية يمكن أن تنمو وتنتعش في ظل انهيار مالي واقتصادي. لا حدث من قبل ولا سيحدث.
2- تعتبر حالة التسييس واسعة النطاق، التي شهدتها مصر ودول التغيير الأخرى في المشرق العربي - الإسلامي، واحدة من أكبر إنجازات حركة الثورة العربية. ولكن مناخ الأزمة والتوتر والعنف، وما ينجم عنه من تدهور مالي واقتصادي، قد يؤدي، إن استمر طويلاً، ليس إلى حشد مزيد من الجماهير تحت راية القوى السياسية النشطة، بل إلى انفضاض الشعب عن السياسية والسياسيين. وعندما يتخلى الشعب عن واجباته السياسية، تتراجع وتيرة التنمية السياسية بمعناها الديمقراطي والحقوقي، سيما في مراحل التحول الديمقراطي المبكرة، ويفسح المجال للارتداد عن الحريات وبروز توجهات الاستبداد والتحكم.

خامساً-
ليس ثمة استقرار سياسي، سيما في ظل دولة ترفع قيم الحرية والعدل والحق، يمكن أن يتحقق على أرضية من انقسام بهذا الحجم حول مسائل الدولة والحكم وشرعية الدستور. تقوم الأنظمة الديمقراطية على قدر واسع من الإجماع، أو التوافق العقلاني، على أسس الدولة والحكم، ولا يتغير هذا الإجماع والتوافق إلا بصورة بطيئة وصغيرة وغير محسوسة في أغلب الأحيان. وينظم الحكم التعددي، الديمقراطي، الحر ما تبقى من مسائل، سواء في أجواء حراك سياسي نشط، أو التداول على السلطة.

سادساً- فما الحل إذن ؟

أحد الحلول هو الصبر؛ بمعنى محاولة احتواء مناخ التوتر والأزمة ومنع تفاقمه، ما استطاع الحكم إلى ذلك سبيلا، وانتظار يأس أحد الأطراف أو تبلور ميزان قوى مقنع، أو ضغوط شعبية، أو معجزة إلهية. مخاطر هذا الخيار، كما هو واضح، هو الانهيار المالي والاقتصادي وتعثر الانتقال الديمقراطي برمته.
الحل الثاني، أن تدرك الأطراف السياسية المختلفة عقم التأزم والتصعيد وخطره على مقدرات البلاد، وتذهب إلى حوار عقلاني جاد، يقوم على تقاليد المساومة والتنازلات المتبادلة، يجنب البلاد حافة الهاوية.
الخيار الثالث، أو الملجأ الأخير، هو أن يقوم الطرف الأكبر والأكثر قدرة بحسم الموقف، معتمداً على القوة الشعبية ومتجنباً العنف والدماء ما أمكن.

 

مقالات الفوائد