اطبع هذه الصفحة


حكاية مصطفى البارزاني كما يرويها مسعود

داود العتيبي
dawood2002


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


اعتدت أن أكتب انطباعا وتقريرا عاما عن الكتاب الذي أقرأه وكتابنا اليوم هو \"البارزاني والحركة التحررية الكردية\" لمسعود البرزاني بن ملا مصطفى البارزاني وإتماما للفائدة لنا وقفة ثانية مع كتاب \"لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية\" للمؤرخ الشيوعي حامد الحمداني وهو الذي حاول أن يكون منصفا وحكما ، ثم وقفة ثالثة عن ما كتبه الأديب البعثي نعمان الكنعاني وهو الذي يمثل رأي الحكومة ، وقد يطول المقال لكنه اختصار لما يزيد عن ألف صفحة ، فكتاب البرزاني يزيد عن 800 صفحة صافية ، وكتاب الحمداني يقارب المئتين ، وأما كتاب الكنعاني فلا يزيد عن الثمانين .

بداية : نتج عن استبداد وتخلف الدولة العثمانية في ءاخر عهدها شعور مستدام بالحرية والانفصال ومزاحمة الدول المتقدمة وغذّى هذا الشعور ونمّاه الفخاخ التي قدمها المستعمر الغربي للطامحين في الانفصال والوعود بالملك والسؤدد والكرامة التي لم يصدق منها إلا القليل الكاذب فكما وعُد الشريف حسين وكُذب عليه وخدع .. كذلك وُعد الأكراد وخُدعوا فلا دولة أقاموا ولا رضى في نفوسهم قد استقر ، كذلك تقسيم الدول وسياكس بيكو لم تجئ عبثا بل عمدت إلى زرع الصراع وفصل الأمة الواحدة والطائفة الواحدة حتى تبقى المنقطة بؤرة صراعات تفتقر إلى الدعم الخارجي وتبذل الوصال لكل من يخلص من جيرانها وقصة الأكراد لا تختلف كثيرا عن قصة العرب بل وعن قصة المسلمين الطامحين بحكم إسلامي .

والصراع الكردي مع العراق وتركيا وإيران جزء لا يتجزأ من صراع الشرق الأوسط ، فلا شرق أوسط آمن وسعيد من غير حل لهذا الصراع .

الوقفة الأولى :


لا يمكن أن تُذكر كردستان من غير ذكر برزان بل لا يمكن ذكر الكرد من غير أن يلتفت الخاطر إلى برزان فهي مفجرة الثورات الكردية وزعيمة حركات التحرر .
وما كان لقرى برزان أن تنهض لولا نشوء زعامات فيها ابتدأت بمحمود الحفيد وظهرت بمصطفى البرزاني ويتزعمها الآن ابنه مسعود .

وحيث أطلقنا \"البارزاني\" فالمراد ملا مصطفى زعيم البارزانيين ووالد مسعود .

ابتدأت مطالبات الإصلاح في عهد الحكم العثماني فكان رد العثمانيين قاسيا وقاهرا ثم تجددت في الاحتلال البريطاني فكان نوع تفاهم حيث صرف البريطان لمحمود الحفيد راتبا على أن لا يتحرش بها ويعطى حكما مستقلا لإقليمه غير أن العلاقة توتّرت بعد فطُورد ونفي إلى الهند ثم أرجعوه .

كانت معاهدة سيفر /1920 التي وقع عليها العثمانيون تمنح الأكراد وتوعدهم وتعطيهم أملا في الحكم الذاتي غير أن معاهدة لوزان /1923 كانت مخيبة لهذه الآمال .

ثم صعد عبد السلام البرزاني والد مصطفى فلما قتل الأول قام الشيخ أحمد البرزاني أخوه بالمهمة ولما دخل عام 1930 كان صيت مصطفى البرزاني قد علا لما تحلى به من شجاعة وزعامة .

استلم مصطفى الزعامة مع وجود الشيخ أحمد وظل كالمستشار والأب حتى وفاته 1961

وجرّاء الضربات والنكبات التي مُني بها البريطانيون من الأكراد والعرب جلبوا الحكم الملكي الهاشمي إلى العراق ليضبطوا الأمر مع ضباط هاشميين ووزارة نوري السعيد .

كان العهد الملكي أيضا عهد مناوشات واضطرابات وكان الانطباع السيء متبادل بين الأكراد والوزارة التابعة للوصي .

نشب قتال مستعر بين البارزانيين ومن انضم إليهم من الأكراد مع الحكومة الملكية من 1943 حتى عام 1945 حيث تخلت بعض القبائل عن البارزانيين مما اضطرهم هم وعوائلهم إلى اللجوء إلى أكراد إيران التي كانت ترزح تحت الحكم السوفييتي والبريطاني ، وفّر السوفييت للبارزانيين والأذربيجانيين قوة ومالا فنشأت الجمهورية الكردستانية والأذربيجانية جنبا إلى جنب حتى خروج السوفييت من إيران فانقض الإيرانيون بزعامة الشاه ونكلوا بالأذربيجان والكرد فلم تبق قوة غير مجموعة صغيرة من البارزانيين في الجبال ، لم تتقدم الحكومة ولم يتقدم البارزانييون فكان كل منهما يحسب للآخر حسابا ، وجرى التفاوض إما أن يسلموا سلاحهم ويعيشوا في إيران أو يرجعوا من حيث أتوا ، وفي الحالة الأخيرة كان عليهم أن يسلموا سلاحهم ويحاكَم بعضُهم في العراق ، رجع الشيخ أحمد البارزاني والعوائل إلى العراق ووُضعوا في معسكر وأُعدم الضباطُ الأكرادُ الذين انتموا إلى الحركة ورجع كثير منهم إلى قراهم وحياتهم الطبيعية .

بقي البارزاني ومعه 500 مسلح صامدين وقال لهم البارزاني أنا ذاهب إلى المجهول فمن أراد أن يسلم سلاحه ويرجع فليفعل ومن أراد أن يبقى معي فليبقى ، فبقي معه عدد كثير .
عزم على الذهاب إلى السوفييت ، تسلل بين المناطق الكردية في تركيا وإيران واستُقبل في بعضها حتى عبر نهر آراس الذي يفصل بين إيران وأراضي الاتحاد السوفيتي وجرت عدت محاولات للحكومة الإيرانية لسحقه غير أنها باءت بالفشل .

في البداية أهين ووضع في معسكرات لا تليق باللاجئين ثم أكرم لما ذهب إلى باكو في أذربيجان ووضع له معسكر لائق غير أن باقروف فرض عليه بعض الأمور فأبى البارزاني فكاد له باقروف ونفاه وفرّق شمل البارزانيين حيث جعل كل مجموعة في قطار وصار يفصلهم مقطورة مقطورة ، جرت اضطرابات وطالبوا بزعيهم وكان هذا في عرف الجمهوريات السوفييتية جريمة عقابها الإعدام غير أنهم راعوا محنتهم .

بعث البارزاني عدة رسائل إلى الكرملين غير أنها أهملت حتى هلاك ستالين/1953 واستلام خروتشوف الذي كان معاديا للاستالينية فأفرج عنهم وحوكم باقروف ، واجتمع شمل البارزانيين بعد انقطاع مرير ووُضعوا في بيوت لائقة ودخل بعضهم الجامعات وتزوج ءاخرون من تلك البلاد وكانوا حينها في أوزبكستان ، ثم سافر البارزاني إلى الكرملين وعرض عليهم قصته فحققوا معه وأوصلوه إلى خروتشوف فذاعت قصته وقدم له خروتشوف دعما كاملا .

في العراق حصل انفراج جزئي وترخص بإنشاء الأحزاب باستثناء بعضها كان الحزب الشيوعي أحدها لأنه ينتمي إلى المعسكر الروسي، أيضا الحزب الديمقراطي الكردستاني ، غير أن العمل السري قائم بين الحزبين فتشكلت جبهة الاتحاد الوطني من عدة أحزاب وتشكلت اللجنة العليا للضباط الأحرار حتى قيام ثورة 14 تموز / 1958 .

أيّد جمال عبد الناصر ومعه السوفييت هذه الثورة وجرى قلق في الدولة المجاورة كتركيا وإيران فعمدت روسيا إلى إجراء مناورات على حدودها مع إيران حتى تحول دون أي تدخل عسكري .

ترأس جمهورية العراق عبد الكريم قاسم وأصدر عفوا عاما وأخرج الشيخ أحمد – بعد أن وعده نوري السعيد سابقا بالإفراج إذا استرحم الوصي غير أنه أبى – وراسله البارزاني على العودة غير أن عبد السلام عارف كان يُخفي مراسلاته حتى مضى شهر كامل ثم تبادل البارزاني وقاسم التحايا وطلب منه الأخير العودة إلى العراق .

رجع البارزاني ومعه صحابته واستُقبل استقبال الأبطال وأنزله عبد الكريم قاسم في قصر نوري السعيد وأعطاه راتب وزير وعوّض المتضررين وأُسَر المقتولين ، ومع اتفاق الشيوعيين والأكراد لاحقا أن قاسم وطني ونظيف إلا أن العلاقة ساءت فيما بعد ، ويبدو أن بعض الضباط كانت لهم مصلحة في ذلك خاصة القوميين العرب التابعين لحزب البعث ، وكانت السلطة يتنازع القرار فيها رأسان : عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف حتى وصفهما الوزير محمد صديق شنشل قائلا : لدينا نصف عاقل ونصف مجنون .

قام الشوّاف بانقلاب على قاسم غير أنه مُني بالفشل وقتُل هو ومعه معاونوه وهرب ءاخرون ومنهم صدام حسين، وكان الشواف قد نكّل بالشيوعيين في محاولته وقتل الكثير منهم ، ولما فشل أمره كان انتقام المقاومة الشعبية التابعة للحزب الشيوعي أشد وأقوى ، وكان لقوة المقاومة الشعبية إضافة إلى صمود الأكراد في وجه الانقلابين أثر كبير في فشل هذه المحاولة .

لم يدم صفو الوداد .. فإجراءات قاسم كانت تسير نحو القلق حيث جرّد المقاومة الشعبية من سلاحها وألحق قانونُ الإصلاح الزراعي ضررا كبيرا بالإقطاعيين، أيضا بطؤه في تلبية رغبات الأكراد بل صعود اللغة الحادة بين الطرفين حيث تصرف بعض الأكراد وكأنهم دولة داخل دولة إضافة إلى الدعوة التي تلقّاه البارزاني من موسكو لحضور احتفالات اكتوبر واستقبال خروتشوف له .

بدأت نذر الحرب بين الطرفين وأخذ كل منهما يشتري سلاحه ويأخذ احتياطه وفي 11 أيلول / 1961 اندلعت ثورة الأكراد وبقيت مشتعلة حتى نكستها عام 1975 .

كانت ثورة أيلول يسميها الأكراد \"أم الثورات\"

فأرسل قاسم طائراته وتحرك البيشمركة لمناوئته وكانت الغلبة للقوات البيشمركية التي قاده أولئك البارزانيون الذين تلقوا تدريبهم في الاتحاد السوفييتي ، ويذكر مسعود البارزاني تفاصيل بعض المعارك حتى إنك لتعجب من عدد قتلى قوات النظام في مقابل قتلى البيشمركة فمثلا في معركة \"زاويته\" تعرض الثوار لرتل فقُتل من الجيش : 600 ، وأسِر من الشرطة : 500 إضافة إلى العتاد والذخيرة ، وكان نصرا حاسما .

في المقابل تجد قتلى البيشمركة يقل كثيرا وربما بنسبة عشر بالمئة من قتلى النظام .

ويعزو مسعود البارزاني هذا إلى إيمان البارزانيين ومن قام معهم بعدالة قضيتهم ، أما قوات النظام فلم تكن بالإيمان نفسه ، إضافة إلى طبيعة المناطق تلك الجغرافية الجبلية والتي هي عادة ما تكون لصالح العصابات لا القوات النظامية .

أما حصيلة القتلى خلال عام فهي :

1225 قتيل من الجيش و\"الجاش\" والشرطة ، و 1450 جريح ، و 1326 أسير .
أما البيشمركة :
40 قتيلا و 78 جريح !

استمر الدعم الروسي للأكراد على شكل أموال حيث كان نقل السلاح عسيرا، وكان عام 1962 عام نصر للأكراد كما يقول مسعود ، مما اضطر قاسم للمفاوضة ، وهو العام نفسه الذي التحق فيه مسعود بالثورة وكان عمره آنذاك 15 فصار يروي ما تشاهده عينه ، لا ما يذكره أبوه ومن عاصره وما تذكره المصادر .

أصبحت القضية الكردية مشهورة تتناولها الأخبار العالمية حيث تم تهريب صحفيين غربيين إلى الداخل لينقلوا الأخبار ، وأشهر من كتب في ذلك دانا آدمز شميدت وسمى كتابه \"رحلة إلى رجال شجعان\" وحظي بقبول كبير لدى الأمريكيين .

كان البارزانييون يسمون الأكراد الملتحقين بالنظام \"الجاش\" أو \"الجحوش\" ولم يكن الأكراد على قلب رجل واحد فكثير من العشائر كالزيباريين والبرادوستيين وقد أفاض في ذكر أسمائهم نعمان الكنعاني في كتابه \"ضوء على شمال العراق\"

وكان الاحتراب الداخلي هذا واقتتال الطائفة الواحدة سببا رئيسا لنزوح البارزاني إلى إيران عام 1945 .

مهد تدهور الأوضاع إلى انقلاب البعثيين كما سيأتي ، وقد حاول عبد السلام عارف اغتيال قاسم مرة غير أنه فشل فعفا عنه قاسم وبعثه سفيرا إلى الهند ثم حاول الانقلاب عليه فحُكم عليه بالإعدام فعفا قاسم عنه ثانية وأرسله لأداء الحج لعله يتوب .

نظرا لسوء الأحوال وعد البعثيون البارزاني إن وقف بالانقلاب معهم أن يعطوه حكما ذاتيا ويناولوه حقه ، وبما أن معظم الجيش في كردستان فقد نجح الانقلاب البعثي في الثامن من شباط عام / 1963 وقتُل قاسم ومن معه شرّ قِتلة .

ويذكر المؤرخ حامد الحمداني أسباب هذا الانقلاب :

1-نهج عبد الكريم قاسم سياسة عفا الله عما سلف حيث عفا عن عبد السلام مرتين وعن بعض من حاول اغتياله كرشيد الكيلاني ومن معه .

2-سحب السلاح من المقاومة الشعبية والتي كانت حرزا له ، ولو كانت عند الانقلاب الأخير لصمدت في وجه البعثيين .

3-قانون الإصلاح الزراعي الذي أضرّ بالإقطاعيين .

4-صراعه مع شركات النفط الأمريكية والبريطانية وتأميمها مما أوغل صدرها وساهمت في إسقاطه .

5- استخدامه القوة في وجه الأكراد حتى اصطفوا مع البعث .

6- اعتماده على جهاز أمن النظام الملكي السابق .

7- إطالة الفترة الانتقالية .. إلى غير ذلك مع أنه لا يشك في نزاهة ووطنية عبد الكريم قاسم .

نكّل البعثيون بالشيوعيين شرّ تنكيل وتتبعوهم وطاردوهم ، فلجأوا إلى كردستان مما وفّر لهم نوع حماية ، ثم شكّل البعثيون جهازين الأول : الحرس القومي \"الإجرامي\" والثاني مكتب التحقيق \"الإجرامي\" .

كانت مطالب الأكراد عالية : حكم ذاتي ونسبة الأفراد في الجيش على قدر نسبتهم سكانيا ، ولا يقل عن ثلثي الواردات النفطية التي في كردستان ، أما الحدود الجغرافية فهي : تركيا شمالا وإيران شرقا وسوريا غربا وسلسلة جبال حمرين جنوبا .

لم تطل المدّة حتى أُعلنت الحرب عليهم وبعثت سوريا لواء اليرموك بقيادة فهد الشاعر أحد أقطاب البعث السوري .

وكان المدد الذي ينزل على العراق من كل مكان سوفييت وبريطان وإسبان وباكستان وتركيا وإيران .

احتدم القتال وكانت الغلبة للجيش حتى معركة جبل \"متين\" المصيرية فقد احتلها الجيش بعد 45 يوما من القتال غير أن الأكراد تعاهدوا على استردادها ولو قُتلوا جميعا فكان ذلك ، وظهر الشرخ بين ضباط الجيش بزعامة عبد السلام والحرس القومي بزعامة أحمد حسن البكر .

انتهز عبد السلام صراع بعث اليمين بقيادة أحمد حسن البكر وبعث اليسار بقيادة علي صالح السعدي لينقلب في 18 من تشرين الثاني / 1963 على الحكم بمعاونة قائد القوة الجوية حردان عبد الغفار التكريتي .

في 1964 توصل الطرفان إلى اتفاق وعلى تعويض الخسائر من جانب الحكومة .

حصل شقاق داخل الصف الكردي : العسكر بقيادة البارزاني .. والمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة إبراهيم أحمد وجلال الطالباني ، وكانت إيران ترعى إبراهيم وتسيّسه، ثم طردوا إلى إيران إلى أن عفا البارزاني عنهم في 1965 ، وفي العام نفسه حدثت معركة \"ستفين\" مع الجيش .

1966 هلك عبد السلام عارف وخلفه أخوه وكان يجنح إلى السلم غير أن الضباط أقنعوه بالقيام بخطة \"توكلت على الله\" وحفزهم على ذلك انضمام المكتب السياسي الكردي للحكومة العراقية وقتاله إلى جانبها ، فكان البارزانيون يسمونهم \"جاش66\"

فشلت الخطة واستمر النزاع بين البارزان وجاش66 . وتم إنشاء جهاز استخبارات الثورة المسمى \"الباراستن\" وأنيطت مهماته بعد إلى مسعود البارزاني عام 1969 .

في حرب 1967 طلب المصريون الدعم والمساندة من العراقيين غير أنهم اعتذروا بصراعهم مع الكرد ، أيضا طلبوا من الكرد الانضمام إلى قتال إسرائيل فاعتذروا لأن أحد العمداء العراقيين خاطب السوريين قائلا : أنتم جئتمونا للقضاء على إسرائيل الثانية – يقصد كردستان حين جاء لواء اليرموك السوري- وها نحن نرد الدين للقضاء على إسرائيل الأولى .

في عام 1968 عرض على البارزاني ضباط إيرانيون وإسرائيليون المساعدة ولم يُبد منعا بل تم فتح علاقة ودّية ولا يرى الأكراد بهذه العلاقة مع إسرائيل بأسا ولا حرجا ! .

في عام 1969 توفي الشيخ أحمد البارزاني وحدثت مجزرة \"دكان\" الرهيبة حيث أحرق الجيش الكهف الذي لجأ إليه الأطفال والنساء ومن خرج منه رُمي بالرصاص .. ثم حصل انقلاب 17 تموز وصعد صدام حسين إلى الواجهة .

كان صدام حسين نائب أمين سر قيادة القطر ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة وله الكلمة الأخيرة وكان أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية .

أبدى صدام تراخيا وجرت بينه وبين البرزاني رسائل ومحادثات عدة كان ختامها اتفاق 11 آذار / 1970 الذي يراه الأكراد اتفاقا تاريخيا ، حاول جاهدا شاه إيران أن يغري البارزاني بالمال والسلاح والدعم الأمريكي اللامتناهي حتى لا يتم هذا الوفاق ويدوم الوئام لأن نفع هذا الوفاق يعود إلى السوفييت حيث أرسى صدام علائق الود وفتح الباب في وجه النفوذ السوفييتي في العراق وانحدرت من العراق تلك الامبريالية الغربية الأوربية .

لم يدم الاتفاق وبدأ القلق حين طُرد الأكراد الفيليون ونُهبت أموالهم وممتلكاتهم ولم يعطوا الجنسية العراقية بحجة أن أصلهم ليس عراقيا بل إيرانيا ، وكان هؤلاء الأكراد من أرباب التجارة والمال وتسلموا كل أعمال اليهود التجارية في الخمسينات عندما نزح اليهود .
وجرى تعريب كركوك وما حولها على قدم وساق واللعب في الإحصاءات حتى يضعوا ما استطاعوا من حواجز في طريق الحكم الذاتي لكردستان .

أيضا كان صدام يضمر الشر للأكراد حيث جرت محاولات اغتيال في حق البارزاني وابنه إدريس في قصة تنم عن دناءة صاحبها حيث جاء وفد مكوّن من شيوخ سنة وشيعة إلى البارزاني وطلبوا منه أن يعظوا الناس ويعلموهم فقبل ذلك ثم ضرب لهم موعدا اجتمع فيه معهم وبينما هم يتحدثون انفجر جهاز التسجيل قاتلا الوفد كله غير أن البارزاني نجا منه إذا حال صاحب الشاي بينه وبين التفجير ، فلما رأى السائقان ذلك رموه بالقنابل وكانت السيارتان ملغمتان غير أن المحاولة فشلت وأبدى النظام أسفه على محاولة اغتياله، وكان المجرم السفاح \"ناظم كزار\" هو المخطط والمدبر لكثير من هذه الأمور ، حيث تم فضحه لاحقا عند محاولته الفاشلة للانقلاب على البكر وفتح كثير من ملفاته التي ألصقوها بها بينما تنصل البعث منها .

دخل الملك حسين في الخط ويبدو أنه أقنع الرئيس نيكسون بضرورة دعم البارزاني فكان حسين إضافة إلى الشاه حلقة وصل بين البارزاني وأمريكا .

تصاعد الدعم السوفييتي بعد أن فتَر إثر صعود البعث والتنكيل بالشيوعيين غير أن صدام عرض على السوفييت صفقات عدة من التنقيب عن النفط واستخدام الموانئ ، فردّ السوفييت على هذا الجميل بأن أصدروا أوامرهم للشيوعيين بالاندماج في البعث كذلك أمروا الأكراد ، فقدّم الشيوعيون تنازلات عدة مما أثر على علاقة القادة بالقواعد .

في حرب اكتوبر 1974 طلب السادات من البكر التعاون فاعتذر بالكرد فأخذ السادات وعدا من الأكراد أن لا يهاجموا الجيش العراقي فوعدوه ، غير أن العروض الأمريكية والإسرائيلية انهالت كالسيل على الأكراد لزجهم وحثهم على دك معاقل الجيش العراقي ، غير أن هنري كيسنجر ذكر في كتابه \"سنوات التجديد\" أن البارزاني استنصحه في الهجوم فلم ينصحه لأن القوة التي يملكها البارزاني لا تصلح للمهاجمة بل سيباد فالأرض التي يتمركز بها الجيش منبسطة تعرضهم للإبادة.

في 1974 رجعت الحرب على أشدها بسلاح سوفييتي فعال وقدمت إيران بطاريتي صواريخ وسلاح مدفعية للبارزانيين غير أن الحرب غير متكافئة إلى أن حدث اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام 1975 .
وعدت إسرائيل بالدعم المتواصل حتى لو توقف الإيرانيون .

يذكر كيسنجر في كتابه : أننا أوصينا إسرائيل بإعطاء الكرد السلاح السوفييتي الذي غنمته في مقابل أن تعطى سلاحا أمريكيا .

ويقول كيسنجر أيضا فكان مجموع ما أعطيناه للأكراد : 20 مليون دولار – على فترات- ، و 1250 طن من الذخائر .
غير أن طبيعة الحال جمّدت يد أمريكا وإسرائيل ، فالوسيط الإيراني أخذ حصته من شط العرب إثر اتفاق الجزائر وأمريكا حصلت على وعد من صدام أن يتجه صوبها ونُسيت قضية الأكراد ووُضعت في الدرج .

أيضا من المؤسف أن يصرح البارزاني بقوله: نحن على استعداد لأن نصبح الولاية الحادي والخمسين في حال انتصار قضيتنا .

مرض البارزاني وصارعه الكبر ونزح إلى إيران ثم سافر إلى الولايات المتحدة حيث أصيب بورم سلطاني في الرئة ، وطافت رسائل صدام على البارزانيين النازحيين في إيران ليرجعوا ويتخلوا عن قائدهم فلم يقبل كثير منهم ذلك .

في الرابع عشر من شهر آذار 1979 توفي البرزاني وصلي عليه في إيران وكان نظام الشاه قد سقط وجاء الكرد من كل حدب وصوب للصلاة على البارزاني وكان يوما مشهودا . وفي 16 من تموزاستلم صدام حسين الحكم واستقال أحمد حسين البكر .

بهذا تنتهي وقفتنا الأولى مع ما خطه مسعود البرزاني .

الوقفة الثانية  :

نذكر فيها ما كتبه حامد الحمداني عن تاريخ صدام لنكمل تاريخ الثورة الكردية باقتضاب حتى تكون الصورة مكتملة بعض الشيء .

يذكر المؤرخ حامد أن أمريكا أرادت ضرب الشيوعيين والأصوليين الإيرانيين والوقوف في وجه الخميني فكان صدام البطل الذي حقق لها أمانيها ففي عام 1978شن البعثيون حملات اعتقال وقتل في حق الشيوعيين وتم الكشف عن مقابرهم الجماعية عام 2003 .

أيضا شرّد آلاف الكرد الفيليين وقيل إنه جرب عليهم أسلحته البيولوجية والكيماوية وقد أظهرت آثارَهم واختفاءَ الآلاف منهم القبورُ الجماعية في ما بعد .

في 22 أيلول 1980 شنت 150 طائرة عراقية هجوما مباغتا على إيران ثم 100 طائرة أخرى ، ورد الطيران الإيراني الضعيف بهجوم ءاخر على بغداد غير أن الصواريخ العراقية كانت في انتظارها .. كان النصر حليف صدام حتى زلت قدمه فخطى خطوات في العمق الإيراني عابرا نهر الطاهري فالتف عليه الإيرانيون ودكوا جيشه بل دخلوا العراق ، فخشيت أمريكا على حليفها فأمدته بأسلحة كيماوية فتوازنت القوى ثم أمدت إيران أيضا بالأسلحة حتى تطيل أمد الحرب وكانت هذه سياستها كما ذكر كيسنجر في مذكراته ، وطال أمد الحرب حتى عام 1988 .

كانت الحرب على كردستان قائمة عند الحرب على إيران غير أنه تفرغ لها بعد إيران ففي عام 1988 قاد علي حسن المجيد (علي الكيماوي) حرب الأنفال فهدم 2000 قرية كردية واستخدم غاز السارين والخردل ولما دخل الإيرانيون حلبجة الكردية ضربها علي بالكيماوي فراح ضحيتها 5000 قتيل في لحظات .

بعد الحرب الإيرانية خرج صدام بانهيار اقتصادي وديون تجاوزت 90 مليار مع جيش مدرّع ومسلح لا يقاومه جيش عربي ءاخر فاحتل الكويت 1990 متذرعا بانشقاق ضباط شبان طلبوا منه المساعدة كاذبا .

ثم ظهرت عنترياته مهددا أمريكا ، وكان احتلال الكويت من غير مشورة السوفييت فانضمت السوفييت إلى الدول التي طالبته بالخروج فلما رأى ذلك طالب أن تخرج إسرائيل من فلسطين وسوريا من لبنان ، وكانت النتيجة أن ضُرب جيشه وقتل منه الآلاف فأحرَق بذلك قلوب العراقيين حيث خاض معركة ليس بأهل لها ودمر جيشه وخرج من صراع ليدخل صراعا ءاخر متفردا في حكمه وسلطانه فلما دخل الجيش البصرة دكت دبابة راية لصدام ثم حصلت انتفاضة 1 آذار 1991 وحصلت انشقاقات في الجيش ..

وانضمت كردستان وانضم الشيعة إلى الثورة ورفعوا شعارات طائفية فسيطر الكرد على كردستان ولم يواصلوا زحفهم نحو الموصل وبغداد مما أمكن النظام أن يستعيد قوته ، أيضا كان الشيعة ينحرون ويذبحون كل بعثي وهذا حال بينهم وبين أن ينخرطوا في الثورة ، ولم تكن قيادة حكيمة ديمقراطية تمثل الشعب العراقي بل دخل الحرس الجمهوري الإيراني وقوات بدر التابعة لمحمد باقر الحكيم ، فخشيت السعودية والخليج وخشيت أمريكا من نجاح هذه الثورة التي يتزعمها هؤلاء الطائفيون فساندوا النظام العراقي مجددا ليقضي عليها فكان الجنوب أول ما حرره وقتل منه أكثر 30 ألف ثم كردستان فدكها بالصواريخ والمدافع ونحر 100 طفل واقتيد 15 ألف من الأبرياء كرهينة ، فتشرّد 2 مليون جراء هذا الهجوم المعاكس وفي نهاية المطاف والصراع فشلت الانتفاضة .

غير أن استغاثات البارزاني والطالباني بالأمريكان من بطش النظام لقيت صدى فأعلنت أمريكا وبريطانيا عن عملية \"بروفايد كومفورت\" فصارت كردستان تحت الحماية الأمريكية والبريطانية وفرضت على صدام حظرا جويا على إقليم كردستان .

جرى تنظيم إداري جديد لكردستان وجرت مفاوضات مع النظام على أساس حكم ذاتي ووجود طرف ثالث فلم يقبل النظام .

ثم اقتسم سلطة هذا الإقليم الحزب الديمقراطي الكردستاني (مسعود البارزاني) والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الطالباني .

في 1994 قرر مجلس الأمن تقديم الدعم لهم جرّاء الحصار المفروض عليهم من النظام ، ثم اقتتل الحزبان واحتل الطالباني أربيل فتدخل النظام –بضوء أخضر من أمريكا- ليستردها ويسلمها لمسعود .

الوقفة الثالثة :


وجهة نظر الحكومة التي عبّر عنها الكاتب والشاعر والضابط نعمان ماهر الكنعاني في كتابه \"ضوء على شمال العراق\" حيث ندد بمطامع البارزانيين مؤكدا أن البارزاني لا يمثل كل الأكراد بل ذكر كثيرا من القبائل التي كانت تقف في وجهه مما يدلل على صحة ما فعلته الحكومة، أضف إلى ذلك أن الحكم الذاتي قد ينتج عنه أضرار جسيمة لأنه يفتح شهية أكراد إيران وتركيا مما يسبب إزعاجا لهذه الدول وهذا يعني حصارها من جديد ، ذكر أيضا أن أكراد العراق ما كان لهم أن يقوموا بثوراتهم هذه لولا تمتعهم بنوع من الحرية والأفضلية عن أكراد إيران وتركيا فهم في العراق كسائر العراقيين بل هم أحسن حالا من العراقيين في الجنوب الذين لا يجدون شيئا ، ولهم الحرية في التعليم واللباس والتنقل فماذا يريدون أكثر من ذلك ، وقد جرّوا على فلاحيهم وممتلكاتهم ويلات عديدة من الثورات المفتعلة، وهذا الذي حدا بكثير من القبائل إلى الانضمام إلى النظام لما مُنوا به من خسائر .

أيضا خروقات القوات البرزانية وخروجها عن القانون وفرضها إتوات على الناس وخلق دولة داخل دولة واعتمادهم على قوى الخارج واستماتتهم في الدعم الخارجي جعل من قضتهم قضية مشبوهة .

البارزاني نفسه يوصى الأكراد في تركيا وإيران بأن يصبروا ولا يقوموا بشيء مع أنهم يتعرضون للاضهاد والنسيان ، ولا يحق لهم أن يمتازوا عن الوطن الذي يعيشون فيه ، فأكراد إيران تعتبرهم إيران \"فرسا\" وأكراد تركيا تعتبرهم تركيا \"أتراك الجبل\" .

ختاما :


القصة البارزانية تستحق القراءة والدراسة للخروج منها بالعبر والفوائد ، وسواء اختلفنا أم اتفقنا على صحة مطالبهم أو على صحة أسلوبهم لن نتردد في إبداء إعجاب بهذا الصمود والطموح الذي لم يهتز لدى البرزان في مقارعة الدول القوية المحيطة بهم إحاطة السوار بالمعصم وربما كان لعناد الطبيعة الجبلية التي سكنوا فيها أثر كبير حتى صاروا عيدانا صلبة لا يسهل كسرها .

وعند المقارنة بين المصالح والمفاسد نجد أن مفاسد الصراع غلبت فكم من طفل وامرأة ورجل قتل وكم من فتنة وتدخل خارجي حصل بلا مقابل وبلا نتيجة لا تستأهل كل هذه التضحية وكل هذا الخراب خاصة وأن النتيجة حكم قومي شيوعي لا يستند إلى شريعة إسلامية ولا قانون إلاهي بل حرص الكرد على قراءة أفكار لينين وستالين وتبنّوها وصاغوا منها قانونهم وفكرهم متخلّين عن الذي رفعهم الله به ألا وهو التشريع الرباني والنظام المحمّدي .

وقد ذكر مسعود أن البارزاني كان يصلي وذكر بعضا من صفاته الحسنة غير أن ذلك لم يكن عاما في أتباعه فحصل تجاوز واختراق مما يؤكد على ضعف المنهاج الذي أسسه ورباهم عليه البارزاني ، نعم ماذا جنينا من الشيوعية غير الخراب والتعب؟ ثم ما فائدة الحكم الذاتي والاستقلال إذا علمنا أنه جاء بدعم أمريكي وعلاقة ودية مع إسرائيل وهؤلاء لا يدفعون شيئا بلا مقابل بل يأخذون أضعاف ما يدفعون، لقد خسر البارزانيون شأنهم شأن العرب بطلبهم النصر من غير الله والاستجداء للخارج للخلوص من قهر الداخل ، وفُتنوا كما فتن العرب بالقومية الجاهلية وقاتلوا عليها قتال الأبطال.

نعم هذا حصاد ضياع الخلافة وحصاد الاستعمار الأثيم وحصاد القوميات الجاهلية العربية والكردية التي أضاعت العرب والكرد فوق ضياعهم .

ولنا عودة إن شاء الله مع كتاب آخر وقضية أخرى .

داود العتيبي
2013/9/19
dawood2002
https://www.facebook.com/syedalkwtirdawoodlotaibi
 

مقالات الفوائد