اطبع هذه الصفحة


الغُلو اللُّغَوِي

نورة بنت عبد الله السبيعي


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


نشأت في السنين الأخيرة ظاهرةٌ من ظواهر الضعف والوهن الذي حلَّ بأمة الإسلام -كشف الله غمّته وقشع ظلمته- ، وهي ظاهرة العناية الفائقة باللغة الأجنبية والإنجليزية على التحديد، ففي كثير من الأسر العربية المسلمة يُرضع الطفلُ العربيُ عِرقاً العُجمةَ إرضاعاً، فتنمو لديه اللغة الأجنبية إلى حدّ الإتقان على حساب العربية التي يتساوى فيها مع الأعاجم في بعض الأحيان!
فمن المقرر لدى العلماء وعلى رأسهم العَلَم الفذّ: ابن خلدون ضرر الجمع بين لغتين أو علمين، إذ يقول: "ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم: أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً، فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منها لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة".

وهذا أمر يُعضّده الواقع، فالناشئ إذا أُشْغِل بلغتين مع التكافؤ بالاهتمام بهما لم يظفر بواحدة منهما في الغالب، وإذا أُشْغِل بلغة لإتقانها لم يحسن غيرها كما هو مشاهد مع الصغار الذين كَرّس والديهم جهودهم في تعليمهم اللغة الأجنبية، وكان إتقانه لها على حساب العربية، وفي ذات السياق يقول الندوي: "وإن الاهتمام الزائد باللغات الأجنبية، وإعطاءها أكثر من حقها يجعلها تنمو على حساب اللغة العربية، وإن تدريس عدة لغات في وقت ما قد أصبح موضع بحث عند خبراء التعليم خصوصاً في المراحل الابتدائية والمتوسطة".

ومع تلك الحقائق العلمية، فإن كثيراً من الآباء لا يعبأ بضعف ابنه في العربية ويعتقد أنه سيكتسبها مع الوقت من مجتمعه -وهو بالتأكيد يقصد العامية مَكْنَز اللحون!-، واعتقاده هذا بنظري ناتج عن ضعف تصوره لأهمية اللسان العربي لولده وَلِدِيْنِ وَلَدِه، فالعربية مفتاح الوحيين، والجسر الموصل للثقافة الإسلامية والتراث الإسلامي، وركن الحضارة، وجزء من الهوية الإسلامية، فإذا أجادها الناشئ فهم دينه، وكانت إجادته لها دافعاً للقراءة في الوحيين، وللقراءة في الثقافة الإسلامية التي تربيه على المبادئ القويمة والأخلاق المستقيمة، وأورثه ذلك اعتزازاً بأمته ولغته، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "واعلم أن اعتياد اللغة -أي: العربية- يؤثر في العقل والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".

أما إذا نشأ بعيداً عنها أورثه ذلك لصوقاً بثقافة الأمة التي أحسن لغتها، وولعاً بها وتبعية لها، فأكسبه ذلك مبادئها بجملتها ومنها المتنافية مع دينه، وهذا ما رسم له أعداء الدين منذ زمن قال الكاتب (جانسر)في كتابه (الإسلام المقاتل):
"إن انكلترا وفرنسا قد أجرتا بحوثاً عن أسباب قوة وصلابة الإنسان العربي، وتمكُّنِه من فتح البلاد المحيطة به من الهند إلى تخوم الصين.. فوجدتا أن السر في ذلك كان طريقة تعليم الطفل العربي، وكيف أنه بدأ قبل الخامسة بحفظ القرآن وختمه، وهو الكتاب الجامع لأفصح التراكيب اللغوية، وأجمل الصيغ البلاغية التي تنطبع في الذاكرة فلا تزول.. كما أن القرآن يعطيه طاقة نضالية وصلابة خلقية وزخماً إيمانياً وصلةً بالغيب لا تتخلى عنه طوال عُمُره، فهو يشعر دائماً أنه ليس وحده، وإنما يوقن أن الله معه".

وقال المستشرق (شانلي): "إن أردتم أن تغزوا الإسلام وتُخضِعوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة المسلمة، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم المعنوي وكتابهم القرآن".

وما ذكره الأخير يَتَأتّى بقوة من جهة الضعف اللغوي في العربية؛ فالضعف في العربية يعني ضعف الفهم للكتاب والسنة ثم ضعف التطبيق.

وفيما تقدّم إشارات كافية لأهمية العربية للناشئ، وخطر الغلو اللغوي في اللغة الأجنبية على حسابها.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق إلحاق كثير من الآباء ذراريهم بالمدارس العالمية ذات المناهج العلمانية لإتقان اللغة الأجنبية! فيُضِرّ بدين طفله في هذا الوقت الذهبي الذي قال فيه الغزالي: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له"؛ لأجل إتقان الإنجليزية! ولو كان ذلك على حساب دينه! وهذا من أقوى الدوافع التي جعلتني أَسِمُ المقال بالغلو اللغوي، ولا أحسب أني بالغت في ذلك!

فكانوا بفعلهم مطيةً سهلة لتحقيق مآرب الأعداء، يقول زويمر: "ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية، فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية، ونسهل التحاقهم بها، وهذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب".

وختاماً..
لا يظن ظان أني أدعو لنبذ اللغة الأجنبية ومقاطعتها، فإن لها حاجة لا تنكر، لكني أدعو للوسطية لا الغلو، فتعليم الناشئة اللغة الأجنبية إنما يكون في وقت لاحق في الثانوية أو المتوسطة ومتى دعت الحاجة، لا في السنوات الأولى من عمر الناشئ كما هو واقع، والمبالغة في ذلك؛ والتسبب في هزّ أمور جذرية تحدّثت عنها قريباً.

فليتأمل الراعي فيما بين يديه من الرعية وعلى أي الطرق يضعهم ؟! فتقدير أمانة النشء حتمٌ على كل راعٍ، لها متطلباتها من توسيع الأفق وطلب المعرفة وتعلم مسالك التربية القويمة لإخراج الجيل المأمول.

أقر الله عينَ الأمة بصلاح ذراريها، وكتب على أيديهم مجدها وتساميها .

نورة بنت عبد الله السبيعي

 

مقالات الفوائد