اطبع هذه الصفحة


لماذا "نكرههم"؟

أحمد دعدوش


سؤال محير طرق رؤوس الغرب منذ الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001، وما زال معلقا يبحث عن جواب. الكل هناك يسعى لحل هذا اللغز، ولكلٍ طريقته في البحث وزاويته في النظر.
"توماس فريدمان" الكاتب الأمريكي الذي تخصص في قضايا الشرق الأوسط، قام بإعداد برنامج وثائقي من ثلاثة أجزاء في "البحث عن الجذور" سعى من خلالها لتسليط الضوء على جذور الكراهية القابعة في عقول الشباب المسلم والتي قادت تسعة عشر شابا منهم إلى التضحية بأرواحهم في ما سمي بـ "غزوة مانهاتن"، وهي نفسها التي تهدد الغرب كله بالمزيد من الإرهاب والقتل العشوائي في حملة لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل.
لم يقصّر فريدمان في تقصي أسباب هذه الكراهية عبر رحلاته الكثيفة إلى أنحاء العالم الإسلامي، كما لم يتوان عن لقاء العديد من رجال الفكر والسياسة والإعلام في مختلف الدول التي قصدها، بل إنه وُفّق أيضا للالتقاء بجمع من الشباب المسلم في إندونيسيا عبر حوار مفتوح ظن فيه أنه قد تمكن من الولوج إلى عقول الشباب المسلم، وفتح أرتاجه المستعصية بعصاه السحرية، ولم يلبث بعدها أن قدم لنا عمله الوثائقي الصحفي في ثلاثة أمسيات على قناة أبو ظبي، وذلك في الذكرى الثانية لأحداث سبتمبر، وتبع هذا العرض لقاء جماهيري موسع جمع كلا من فريدمان والمحلل السياسي لقناة أبو ظبي مع مجموعة مختارة من الشباب العربي المقيم في الإمارات ونخبة من المثقفين والمهتمين، فماذا كانت النتيجة يا ترى؟ وكيف أجاب هذا الصحفي المحنك عن السؤال اللغز؟

لا شك في أن الرجل لم يتجاهل الغضب العربي والإسلامي الحانق على جرائم الصهاينة وأعوانهم في حقهم، وقد ذكر ذلك في جرأة عندما حاول أن يقدم الإجابة الأولى للسؤال المحير قائلا بأن هناك الكثير من المسلمين الذين يبررون كراهيتهم لأمريكا بانحيازها لإسرائيل، ولكنه لم يلبث أن فنّد على الفور هذا الرأي بالمقولة الشهيرة: "إنها الديمقراطية".. وسرعان ما أدار عدسة التصوير نحو القادة العرب والمسلمين، وبدأ في عرض مطول يتقصى أخبار الديمقراطية في هذا المكان من العالم وعلى الطريقة الأمريكية، لتتحول مشكلة البرنامج من التساؤل عن أسباب الكراهية التي تقض مضاجهم إلى التأكد من أن التطبيق الشرق الأوسطي للديمقراطية الأمريكية يسير في الطريق الصحيح. وقد أقنع الرجل نفسه بهذه النظرية، ولم يقف مرة أخرى عند الإجابة الأولى التي نقلها عن العرب والمسلمين أنفسهم حول تبرير هذه الكراهية بالظلم الجائر الذي ترزح تحته تلك الشعوب، بل جاء إليهم ليخبرهم بأن المرض ينبع من داخلهم فقط، وأن العلاج لن يكون إلا من الداخل أيضا، وبمساعدة أمريكية على وجه الخصوص.

لم يتأثر الرجل بكل ما قيل في حواره مع حضور الندوة في أبو ظبي الذين حاولوا يائسين للفت انتباهه إلى الجانب الآخر، فقد بقي مصرا على أن أصل الداء في المسلمين أنفسهم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك. وقدّم نظريته تلك إلى الإدارة الأمريكية مشكورا ليبرر بها جرائم اليمين المتطرف، وهو يدرك أن هذا الأخير لا باع له في السياسة ولا في الكياسة، وأن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة العصا بدون جزرة، وقد بلورها هذا الرجل بشكل صحفي نزيه، قد يساعد مصاصي الدماء والنفط العراقيين في مهمتهم الإنسانية دون أي شعور بوخز الضمير.

ولكن هل يعقل أن يصل العالم المتحضر الذي قطع ذلك الشوط الطويل من التراكم الحضاري والمعرفي إلى كل هذا الانحطاط؟ هل هذه هي نهاية الحضارة يا ترى؟ وهل بتنا على مقربة من اللحظات الأخيرة للزمن؟

ترى لماذا يصم العالم أذنيه عن الحقيقة؟ ولماذا يصر الظالم على أن يقنع عقله بما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء؟ أتراه يبحث بذلك عما يسكت به إلحاح بقايا الضمير في البحث عن مبرر لجرائمه؟ أم أنه يقدم محاولة هزيلة لخداع مظلوميه بأنه على الحق وأنهم وحدهم على الباطل، فيلقي باللائمة عليه ويخلص نفسه كالشعرة من العجين؟

إن لم يكن الأمر كذلك فبأي منطق آخر يمكن أن نفهم كيف تحولت "ماما أمريكا" في عيون المسلمين من أصل البلاء إلى بلسم للشفاء؟ وكيف يمكن أن نقنع أنفسنا بأننا لم نستسلم مرة أخرى في الاستجابة لمطالبهم التي لا تزال تنهال على رؤوسنا مطالبة بالإصلاح، ومن طرفنا فقط دون أي شيء آخر؟

على أي حال فإني ما زلت أجد نفسي حائرا تجاه سؤال فلسفي ساذج، إذ غالبا ما أتساءل فيما إذا كان الظالم يشعر بأنه قد خدع نفسه قبل أن يخدع المظلوم عندما يقدم له مبررات كهذه؟ أم أن حماقة هذا الأخير وجبنه عن قول الحقيقة كفيلان بتحويل هذه المبررات إلى حقائق قادرة على إقناع الجميع بأنها عين الصواب؟

أغلب الظن أن الإجابة التي حصل عليها فريدمان - والمطابقة تماما لكافة الأطروحات الإستراتيجية الأخرى- سوف تبقى على السطح لفترة طويلة ودون منازع، وستظل بمثابة المرجع الفكري لقادة الاحتلال والقتل، وهو أمر سمعناه بوضوح من وزير الخارجية البريطاني الذي قرر عدم ربط تفجيرات لندن الأخيرة باحتلال العراق، هكذا وبدون أي دليل سوى عدم رغبته في تحميل بلاده المسئولية.

أما العقدة المسئولة عن مركب النقص لأذيالهم في الجهة المقابلة، فلست أجد بين يدي أي مؤشر ينبئ بشيء من التغيير في حقها، لذا فإني أعتقد يا سيدي بأنه لن يردع الظالم عن ظلمه شيء، إلا يقظة المظلوم من رقدته، وخروجه للمطالبة بحقه، غير مبال بعضة من "رأس" أو ضربة من "ذيل".

 

مقالات الفوائد