اطبع هذه الصفحة


هذا اجتهادي عقيدة أم عقدة

إبراهيم بن محمد السعوي


إن مما يعتقده الإنسان في جنانه أنه متى ما بذل جهده ، واستفرغ طاقته في مواطن الاجتهاد ، واستعمل ما أتيح له من الطرق للتوصل إلى الحق المنشود ـ وهذا هو بغيته ـ ؛ فإن أصاب فله أجران ، وإن مال عنه فله أجر واحد ؛ لبذله وحرصه للوصول إلى الصواب مع العقد الجازم أنه متى ما تبين له الحق جنح إليه بلا تردد وتأخير مع انشراح صدره وبهجته لتوفيق الله له .
وكلمة " هذا اجتهادي " أو ما يشابهها في بابها لها ثقلها ومكانتها في الشريعة الغراء ؛ حيث لا يحق لأحد أن ينطق بها أو يدخل تحت لوائها إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد الموضحة في مظانها التي تدل على أنه يصعب توفرها في كثير ممن يدعي الاجتهاد لنوع من الشدة فيها ؛ لتبرهن على عظم الاجتهاد في ديننا الحنيف .

ومع هذه المكانة لهذه الكلمة وما تحتويها ، وثقلها في الشريعة ؛ إلا ونقرأ أو نسمع أو نشاهد من دخل تحت لوائها ، أو اندس في صفوفها ، أو يزعم أنه من أهلها ؛ مع عدم توفر أسهل وأقل شروط الاتصاف بها لا سيما في هذا العصر الذي اتصف بالتطوير حتى في علوم الشريعة ؛ بحجة أنه ليس في ديننا رجال دين أو كهنوت ! . وأنه ليس هناك مرجعية بعد رسول  صلى الله عليه وسلم  ......! وأن مسائل الاجتهاد ليست حكر على أحد ....
وأن هذا فيه إثراء الساحة الإسلامية بالطرح والرأي ....حتى تكلم في مسائل العلم كل ما هب ودب ...... وليس لهم من العلم سوى " القلم والدواة " ......
وتكلم طبيب الأبدان باختصاص طبيب القلوب .... !
وظهرت الزيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمرو ، ونون الإلحاق .....
وشُوهد من لا يعرف كوعه من كرسوعه يُنازل الجهبذ من العلماء ....

قال ابن حزم : " لا آفة على العلوم وأهلها ، أضر من الدخلاء فيها ، وهم من غير أهلها ؛ فإنهم يجهلون ، ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ويُقَدِّرُون أنهم يُصلَحُون " .
وانبرأ البعض لمسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر .......وانتشر في أوساط المثقفين من تَزَبَّبَ قبل أن يتحصرم ....

وابتُلي العالم الإسلامي بالخنفشاريين .......
وظهر جلياً في الساحة اجتهاد " ابن الرومي " ...... وباسم الاجتهاد له في كل فن مضرب ...... وبكل طرح مشاركة ...... ولإدلاء بدلوه في كل فكرة ...... ونال العلم شرفاً بطرحه ........وعليه تحقق قول ابن حجر : من تكلم في غير فنه ؛ أتى بالعجائب " ......
والتَّذَبذُب والانفصام ، والتبدد والانقسام .....وتُذكرنا هذه المنادات ببعض الشعارات لتحقيق بعض الأمنيات .......

ومن أجل تطوير باب الاجتهاد أقحم فيه ثوابت ومبادئ ليس فيها حظ للاجتهاد ...... وأبرزت أراء وأفكار ومناهج ..... محفوفة مكرمة تناهض وتخالف قول الحق بحجة عدم الانحياز والميل إلى أحد ......ومن باب سماع الرأي الأخر.....والاتصاف بالانحياد ؟! .
أولم يعلموا أن الميل والجنوح إلى قول الحق هو ملة إبراهيم عليه السلام حنيفاً .....؟!.

وعلى إثر هذه المكانة لكلمة " هذا اجتهادي " أو " هذا الذي أدين الله به " أو ..... يطرب لها قلب كل من ولجت إليه ، وعليه يتعين على كل من رأى أنه من أهل هذه الكلمة أن يعرف متى وأين ينطق بها !. قال الشافعي : " فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا ، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به ، وأقرب من السلامة له إن شاء الله " .
وقال الغزالي : " لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف "!.....
ويُتمعن في قول سفيان الثوري : " إذا كثر الملاّحون غَِِرقت السفينة "......
وإلى الله المشتكى في زمن كثر فيه " المتعالمون " حتى سامو باعة البُقُوْل عَدَداً ...

إلا أن هذه العقيدة تحولت ـ أيضاً ـ عند البعض منا إلى عُقدة شعرنا بهذا أم لم نشعر . ولهذا كثيراً ما تُسمع عندما يُراجع أو يكاشف قائلها عن رأي ٍ ما ، أو فكرة طُرحت محاولاً تغيير وجهة طرحه أو رأيه مع تبين أسباب هذا التغير من حجة وبرهان ...وما أن تُبْذل هذه الأسباب للوصول إلى الحق الذي هو أمنية الجميع ؛ إلا ويلج إلى مسامعك كلمة الفصل في هذا المضمار " هذا اجتهادي " أو " هذا هو نتيجة بذل وسعي " أو ما شابه ذلك .

وعلى إثر هذه الكلمة ينتهي هذا الفصام بكل بساطة وسهولة على نتيجة لم تُفصل بعد لضعف الحجة والبرهان ، والاتصاف بالإفلاس ؛ التي تجعل الطرف الآخر لا يرضى بهذه النتيجة بلا شك ولا ريب .
وهذه العقيدة إذا صارت عُقدة فهي تشابه أختها إلى حد كبير التي في أوساط العوام وهي" ولو " بجامع أن كلا الكلمتين يراد منهما إنهاء النقاش مع عدم رضى وقبول الوجه الآخر .
وهذا المنهج في إنهاء الحوار الهادئ غير مرضي لدى أوساط العقلاء ، ولا يُجتنى منه أي ثمرة .

ولهذا نناشد من هو أهلٌ لهذه الكلمة أن يعرف متى وأين يتلفظ بها علمياً وعملياً ، وأن يستعملها في حيزها ، وأن يعلم علم اليقين أنه لا يلزم من هذا الوسام الذي شَرُف به وهو الدخول تحت لواء هذا الكلمة عدم قبول آراء الآخرين إذا كان لها حظ من الصواب . .... أو عدم الإصغاء إلى وجهة نظر الآخرين ...... وكذلك ليس من لوازم هذا الوسام وحده فقط أن يضفي على رأيه أو طرحه الصبغة الشرعية .
ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه .....
فهذه كلمات من مكنون الفوائد بعضها آخذ برقاب بعض ، بقوالب متعاضدة ، أشكالها محيطة بمعانيها ، عسى أن تكون علاجاً لهذه الظاهرة ، سالمة من الفهوم المتعددة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


كتبه
إبراهيم بن محمد السعوي
القصيم ـ بريدة

 

مقالات الفوائد