اطبع هذه الصفحة


دعوى إجماع السلف على عدم الإعذار بالجهل وتكفير العاذر
نقضٌ وتفنيدٌ وكشفٌ للأوهام

عبد الله بن غلاب المطيري


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

بسم الله والحمد لله،

وصلى الله وسلم على النبيء الأعظم وعلى آله وصحبه...

وبعدُ :

" سبب كتابة المقالة "


فقد اتصل بي ذات يوم رجلٌ يطلبُ المناظرةَ في مسألة تكفير العاذر، فقبلتُ على مضض،

وبدأت المناظرة، فنظرنا طويلا في أدلة الكتاب والسنة،

ثم إلى أقوال الأئمة النظّار الفحول..

وما إن وصلنا إلى أقوال الأئمة حتى أتت "حقائب التكفير" للأئمة الكبار كالإمام مالك وابن تيمية وأئمة نجد، بل وتكفير من شك في كفرهم.!

ثم زعم أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر.!!

بعيدا عن هذا الانحراف والتعليق عليه والكلام على أسبابه،

شدني ادّعاؤه أن السلف مجمعون وعلى وفاق في تكفير العاذر.!

وأن ابن تيمية هو أول من أحدث هذه البدعة.!

فأحببت أن أكتب مقالة أبيّن فيها كذب هذا الادّعاء وبُعده عن مسالك الفهم وقصور المعرفة بآراء السلف والإنتقائية في اختيار الأقوال.!

" تحرير محلّ النزاع "


أولا لا خلاف ولا نزاع في أن السلف قالوا بتكفير الجهمية،

وعلى تكفير القول بخلق القرآن وقائله،

ولكن النزاع في تفسير هذا التكفير،

هل هو تكفير للأوصاف أم للأعيان.؟!

وهل هو كفر أصغر أم أكبر.؟!

وهل هم مجمعون على عدم العذر بالجهل أم لا.؟!

وفي هذا يقول السجزي (ت 444) كما في رسالته إلى أهل زبيد ص (62) :


واتفق المنتمون إلى السنّة بأجمعهم على :

أنه غير مخلوق؛ وأن القائل بخلقه؛ كافر،

فأكثرهم يقول :
هو كافر كفرا ينقل عن الملة،

ومنهم من قال :
هو كافر بقول غير الحق في هذه المسألة. انتهى كلام السجزي.

فهنا يحكي السجزي الخلاف في معنى تكفير السلف للجهمية،

هل هو كفر أكبر أم أصغر.؟!

وهذا ما قاله ابن تيمية في تعليقه على كلام السجزي،

فقد نقل هذا النص وقال إن السجزي ممن يحكي الخلاف في تفسير تكفير السلف لمن قال بخلق القرآن هل هو أصغر أم أكبر.؟

ولسنا بصدد ترجيح قول الجمهور في أن كفر من قال بخلق القرآن هو كفر أكبر ناقل عن الملة،

وإنما في بيان كذب ادعاء دعوى الإجماع على عدم العذر بالجهل، بله تكفير العاذر.!

بل إن ابن أبي عاصم ( ت 287) في مقدمة السنّة ينصُّ نصا صريحا في أن من قال بخلق القرأن وهو "جاهل" لا يكفر.!

فقال رحمه الله :


والقرآن كلام الله تبارك وتعالى، تكلم به ليس بمخلوق،

ومن قال (مخلوقٌ) ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم الحجة عليه فلا شيء عليه. انتهى

وهذا صريح في الإعذار، وهو أحد أئمة السلف،

ومن المعاصرين للإمام أحمد .!

وهذا عون بن يوسف الخزاعي ( ت239) أحد أئمة السلف المالكية المشهورين،

بينما هو جالس إذ جاءه ثلاثة رجال فأخبروه أن رجلا مات عندهم يقول بخلق القرآن.!

ودعوه للصلاة عليه فأبى عليهم وقال :

إن وجدتم من يكفيكم مؤونته فلا تقربوه،

فقالوا لا نجد.!

قال: اذهبوا فواروه من أجل التوحيد " ١ "

قال ناقل الخبر:


يريد: تغسلونه وتكفنونه وتصلون عليه وتدفنونه "٢"

فلاحظ أنه قال من أجل التوحيد.!

إذن، هو لا يكفره وإنما لم يصلّ عليه عقوبةً وزجرا،

ولمّا لم يكن هناك من يصلي عليه أمرهم بتغسيله ودفنه والصلاة عليه.!

ومن أعجب الاستدلالات والمغالطات أن يُستدل على أن السلف لا يعذرون بالجهل لتكفيرهم بعض أعيان المبتدعة.!

وهذا جهل وانتكاسة فهم.!

وبيان هذا :


أننا إن وجدنا أحد أئمة السلف قد كفر رجلا ما،

فهذا لا يعني أنه لا يعذر بالجهل، بل غاية مايعني أنه قد ثبت عند هذا الإمام أن هذا المعين قد أقيمت عليه الحجة.!

وهذا الخلل في الفهم قد دخل على كثير ممن خاض في هذه المسألة.!

فأين دعوى الإجماع الذي تدّعونه وهؤلاء من كبار أئمة السلف هم بين عاذر وبين حاك للخلاف.؟!

إن القول بتكفير العاذر يلزم قائله إلزاما لا محيد له عنه أن يكفّر هؤلاء، وإلا فقد اضطرب وفرّق بين المتماثلات.

وحسبك من بيان فساد القول اضطرابه...

ونصوص أئمة السلف في الإعذار كثيرة جدا،

ولكني اقتصرت على هذه تعمدا ؛ خشية التطويل،

وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

وأحب أن أنبه على أمرٍ مهم وهو :

أن حجية قول السلف إنما هو في جنسه وإجماعه،

وليس في آحاده..

فليس قول أحدهم واجتهاده واجب الاتباع إذا لم يصحبه دليل من الكتاب والسنة أو إجماع.!

وعلى الله قصد السبيل،

والحمد لله ربِّ العالمين.
 

كتبه :
عبد الله بن غلاب المطيري
 

--------------------------------------------
1- ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (2/627)
2- رياض النفوس ( 386/ 1).
 

مقالات الفوائد