اطبع هذه الصفحة


العملُ والبذلُ في الزمن الصعب

مصعب بن خالد المرزوقي


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


يقولون : ( إذا أقبلت العاصفة فاخفض رأسك حتى تخلّفها خلفك أو تخلّفك خلفها ! ) .

لعل أيامنا هذه وما سنقبل عليه سيكون لها حظها من عاصفة ..

أعتقد والله أعلم أن خفض الرأس لا يعني وقف العمل، بل إن الشدائد إذا وقعت صاحبها الخللُ، وتخلّف البعض، ولم يستطع آخرون أن يصمدوا، وكُف أفراد قسراً ..، والواجبات باقية، بل إن ثغوراً كثيرة تصبح مكشوفة،
وعليه؛
فيكون آكد على من يستطيع حمل الهمّ والعمل أن يبادر لسد الثغور ما استطاع، وربما تنتقل أمور في حق البعض إلى دائرة أضيق: من الكفاية إلى العين!

نعلق أعمالنا بالنتائج في مشاريعنا، وهو أمر حسن، لكن إدمان هذا واستصحابه يوقعنا في خلل تجاه الحركة والبذل، بل إن من المصائب أن ترتبط قرارات العمل كلها بالنتائج!
نعم،
لا بد من فقهٍ للنتائج والمآلات، لكن الإفراط في هذا الباب أوقع العاملين في الرجم بالغيب.
والمطلوب:
الموازنة بين الأمور، وتذكير النفس أن العمل وبذل السبب هما الموصلان للمراد، ويوم القيامة يأتي النبي ومعه الرجلان والنبي ومعه الرجل والنبي وليس معه أحد!
وحاشا نبي الله أن يكون قد قصّر في دعوته، بل إن الله -الذي يعلم الغيب وما كان وما هو كائن- هو من بعثه، وفي علمه سبحانه أنه لن يؤمن له أحد!
وهذا أمر يدعو لاستخلاص العبرة.

عندما تريد أن تطعم محتاجاً، هل يأتي بخلدك: وماذا ستنفعه هذه اللقمة؟! فإنه إن لم يجع الآن جاع بعد انقضاء هذا الطعام الذي سأعطيه؛ فلماذا إذاً؟!
هذا منطق غير سوي، ولا أحد يقبله، فإنك لا تستطيع كفايته دائماً، ولذا فلتقم بما في وسعك وطوقك، وإن لم تستطع سد حاجته مطلقاً فلا أقل من البذل والعمل.
هل نصدق أننا نتعامل مع كثير من أبواب الخير والدعوة والعلم بهذا المنطق؟!

لا بد أن يعمل العاملون، وخاصة إذا اشتد الأمر؛ لأنهم مطالبون بالعمل، ولأنه بالعمل تكون المدافعة، بل وبها يتنزل النصر، ومن جميل الفقه الذي لا ينقضي منه العجب كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فقد حكى ما كان في عهده من ابتلاء للمسلمين بالمغول والترك والفرس وغيرهم، وكان قازان وجنوده في "الشام"، وذكر رحمه الله أنه اجتمع في ذلك الوقت بالسلطان في "مصر" وبأمراء المسلمين، وأن الله ألقى في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه ..، فكان ذلك سبباً لصرف قازان وجنوده عن "الشام"!
ثم قال رحمه الله تعالى: ( فلما ثبّت اللهُ قلوب المسلمين صرف العدو؛ جزاء منه، وبياناً: أن "النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر اللهُ بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار!" ) .
(مجموع الفتاوى 28/ 463)

" النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر اللهُ بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار! "
هذه كلمة عظيمة، وددت لو علّقها كل عامل في مكان حيث يراها دائماً ليتذكر معناها ويعمل بها ..
نريد هذه الروح، وهذا الفكر والمنطلق والميزان ..

إذا نزلت الشدائد يظهر تقاعسٌ وتخاذلٌ، وتصاب الأمة في أبواب شتى، لكن من أخطر ما تصاب به هو: "فقد بوصلة الأولويات، واختفاء القدوات والمقدَّمين الذين يسلكون ويوجهون العاملين للعمل الأوجب والأهم".

الأمة بحاجة بل في ضرورة إلى طاقات جميع أبنائها، فالعمل العمل، بحسب المستطاع، وما نُصرت الأمة في تاريخها بكثرتها، ولا بذكاء أبنائها، ولا بعتادها، ولا بشيء سوى ميزان الإيمان الصادق الذي يدعو للعمل، وببذل السبب وفق القدرة، وعندها يتنزل النصر، ونكون أمة قد تحقق فيها شرط قيادة الأمم وتطويعها لعبادة ربها.

الشدائد تستحث الأحرار وأصحاب الهمم لمضاعفة الجهد، يشعرون بالتبعة والأمانة وثقلها، فيبذلون ويعملون، ولا ينقطعون، فالفراغ كبير، وما أغلق العبادُ باباً إلا وفتح الله الأبواب ..

ومما يسلي ومن المقرر : أن أجر العامل في وقت غفلة الناس أعظم، ودونكم استنباط دقيق للإمام ابن رجب رحمه الله، أنقله بطوله، قال رحمه الله: ( تستحب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: "هي ساعة غفلة".
ولذلك؛ فُضّل القيام في وسط الليل؛ لمشمول الغفلةِ لأكثر الناس فيه عن الذكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن".
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علّل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس.
ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء، قال لهم: "ما ينتظرها أحدٌ من أهل الأرض غيركم"،
وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له!).
(لطائف المعارف - ص 235 )

فكيف بالباذل والعامل في وقت الشدائد وضيق الفرص؟!
ووقتنا هذا وقت غفلة وإعراض، وشدة وتضييق، والله المستعان .

"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ؛
قد قضى الله -وقضاؤه الحق- بغلبة أمره وظهوره ،
فهل نحن من القليل الذين يؤمنون بهذا ويُرى في عملهم ؟
وهل نحن أهل ليستعملنا الله في غلبة أمره ؟؟

اللهم سخر لنا من فضلك، واستعملنا في أحب الأعمال إليك وأصلحها وأنفعها إلينا ومنا ..

مصعب بن خالد المرزوقي
٢٧ شوال ١٤٣٨

 

مقالات الفوائد