اطبع هذه الصفحة


الشريعة الغراء والأنظمة الوضعية

د. عبد الله بن معيوف الجعيد
مكة المكرمة


بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم


أثارت مطالبات بعض النظاميين بضرورة إعمال القوانين الوضعية، وكمعادل موضوعي بتقليص دور الشريعة، وخصوصًا في المملكة العربية السعودية، البلد الأوحد -ربما- الباقي عاملا بالشريعة ومطبقا لها أثارت عدة تساؤلات؛ حول ما إذا كان ثم قصور في الشريعة، وحول أهمية القانون الوضعي وخطره ومضار العمل به على حساب الشريعة.

كما أثارت هذه الدعوات عاصفةً من الرفض بين علماء الشريعة وعامة الناس؛ الذين يرون في هذا الادعاءات مغالطات واضحة يرفضها الوحي والواقع والعقل؛ من حيث إن المسلمين مطبقون على أن الشريعة كاملة أصولا وفروعا، لا تحتاج إلى شيءٍ من خارجها، ومن حيث إنها صالحة لكل زمان ومكان، ومن حيث إن من يقول بـ«قصور الشريعة» لديه عقيدة خاطئة ومضللة، أساسها الجهل بأحكام الشريعة الإسلامية.

ويرَى علماء الشريعة والمدافعون عنها أن السبب الحق في تأخر المسلمين لم يكن بسبب العمل بالشريعة؛ بل إنه بالأحرى بسبب عدم العمل بها، أو إنما هو بسبب إعمال بعض نصوصها دون بعض.
ويذهب هؤلاء إلى أن قواعد الشريعة ثابتة ليست مرتعًا للتغير أو التبديل؛ لكنها برغم ذلك بها من المرونة والاستيعاب ما يجعلها تتسع لحاجات البشر مهما طال بها الزمان، وتطورت وتعددت الحاجات، وهو اجتهاد العلماء فيما يسمونه بــ«فقه النوازل».

إن القضية تشبه تمامًا رجلا دخل بيتك؛ فأراد أن تغير نظامه الذي وضعته عن طول خبرة ودراسة ومعرفة شاملة ومتكاملة بشئون البيت، ومن منطلق حِرْصك الكامل على مصلحة زوجك وأبنائك؛ فهو نظام مُحْكَم، مطبَّق لسنين طوال، ويؤتي ثمارا مدهشة في شتى النواحي، وكل الأخطاء التي صدرت منك أو من أبنائك قليلة وصغيرة، لا تعدو الهفوات، وليس سببها نظام تسيير البيت؛ لكنه مخالفة هذا النظام.

ولله المثل الأعلى، فهذا الكون بكل ذراته له مدبِّرٌ واحد، هو الله عز وجل، خالقه ومالكه، ومدبر جميع أموره، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

ونحن البشر إذا صنعنا شيئًا بأيدينا لا نقبل أبدًا إلا أن نضع له النظام الذي يناسبه، فالحاسوب له نظام، وضعه صانعه، وكذا التلفاز، وجميع الآلات المادية، كذا لا يُقبل عقلًا ألا يكون للحاسوب أو التلفاز نظامٌ أصلًا. هذا في أشيائنا الصغيرة، فما بالنا بكون لا حدود له؟! هل يعقل ألا يكون له نظام ومدبر؟!
أسماعنا وأبصارنا وعلمنا الحديث خير شهود على خلاف ذلك، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40]. وكذا الكون كله محكم إحكام تعاقب الشمس والقمر.

والإنسان ما هو إلا جرمٌ صغير في هذا الكون الفسيح، عجزه وضعفه ونقصه لا حدود له، (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]. ومن أسباب ضعفه أهواؤه، وتسلط الشيطان عليه؛ فكيف يضع نظامًا كاملاً لنفسه؟!
النظام الكامل وضعه الله تعالى لنا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، وضعه سبحانه وتعالى؛ رحمة بنا، وإشفاقًا علينا من أن نهلك، وهذا ما نشاهده في الغرب، ضياعًا وانتحارًا، ومفاسد لا حدود لها، وجرائم لا نسمع بها في بلاد المسلمين، لا سيما هذا البلد الطيب المبارك بلاد الحرمين الشريفين.

لكن أن يضع نظامًا جزئيًّا في حدود ما شرعه الله تعالى، دون أدنى مخالفة لشريعة الله، هذا لا بأس به. وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون، من الذي جمع القرآن؟ من الذي دون الدواوين، وأنشأ الوزارات والهيئات بمصطلحنا الحديث. جمع القرآن أبو بكر، ثم عثمان بن عفان، ودون الدواوين عمر، لكن هل خالفوا شريعة الله؟!
إنه إذا كان ثمة مخالفة حتى على سبيل الافتراض؛ ينزل القرآن ويتوعد (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73-75].

إن مخالفة أحكام الشريعة تقدح في إيمان المخالفين، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]؛ فكيف بتبديلها؟ كيف بإلغائها وإحلال القانون الوضعي محلها؟!!
كان أول قاضٍ في الإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى الخلفاء الراشدون، والصحابة، والتابعون، جميعهم بما أنزل الله، وأنت أيها القانوني بمَ تحكمُ لو وُلِّيت القضاء؟ تحكم بالقانون الوضعي الذي خرَّب ديارَ المسلمين وأخلاقَهم ودينَهم؟ وما بلاد المسلمين التي تحكم بالقوانين الوضعية منكم ببعيد، وما عذاب الله تعالى لأهلها بالفتن التي تموج موج البحر عنكم بغائب.

يقول ابن قيم الجوزية –رحمه الله- في الكافية الشافية ط الفوائد (ص: 1040):

والله مـا خــوفي الذنوبَ فــإنــها --- لــعــلى طريــقِ العفوِ والغفرانِ
لكنما أخشى انسلاخَ القلبِ من --- تحكــيمِ هذا الــوحيِ والقــرآنِ
ورضا بآراءِ الرجـــالِ وخرصِـهَـا --- لا كان ذاك بـــمــنَّـةِ الرحـــمنِ
فبــأي وجـــه ألتـقي ربــي إذا --- أعرضت عن ذا الوحي طول زمان


على الرغم من أحقاد كارهي شريعة الإسلام لها؛ فإن على المسلمين ألا يلتفتوا إليهم، وأن يمضوا بعيدًا عن دعاواهم الباطلة، وأن يستمسكوا استمساكا صادقا بشريعة ربهم؛ فإن فيها عزهم وشرفهم، وإن عليهم البراءة من القوانين الوضعية أيًّا كان مصدرها. وأن يعوا للمتربصين بمجتمعنا، وأن يتوقفوا عن دعوات التغريب والعلمنة.
فقد بانت عَمالة العملاء، وانكشفت أكاذيب الكذبة، حتى على بسطاء الناس، فهل يكف هؤلاء مغرض الدعاوى.

 

مقالات الفوائد