اطبع هذه الصفحة


رويداً بالثقة

أ / إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي


تعامل المجتمع على نطاق أفراده له أنماط وأشكال ، حقيقة واصطناع ، فكثير من العلاقات المتبادلة بين أطياف المجتمع وأفراده فيها تكلف واصطناع وتزلف ، وبحث عن مصالح سيما الفردية ، فما نشاهده من كثير من الاحترام والتقدير والودّ سرعان ما تتلاشى فخيوط تواصلها لا تستطيع تحمل نائبات الدهر ، فهي أهون من بيت العنكبوت ، هذا إذا سلمت من الانقلاب إلى الضد لأنه يشوبها عدم الصدق والقناعة فهي مابين بحث عن طمع من أطماع الدنيا ، أو من باب سياسة " اذكرني عند ربك " أو خوفاً من لغة النار والحديد .

فأفضل وسائل التعامل والاتصال مع الآخرين سواءً كان على نطاق المجتمع أو الفرد في أمور دينية أو دنيوية الثقة المتبادلة بينهم التي قوامها التقوى والأمانة ، والقوة فيهما ، قال الله تعالى : ( إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) ، وعلامتها الوفاء بالعهد قال الله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ، والتنزه عن الغدر والخيانة التي لا يتصف بها إلا أهل الخسة والدناءة قال  صلى الله عليه وسلم  : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، و إذا وعد أخلف ، وإذا أتمئن خان " . بدءاً بأعظم مسؤولية في المجتمع ـ الولاية العامة ـ ، ومررواً بالأفراد المحيطين بالمرء من أب وابن وزوج .... وانتهاء بأدنى مسؤولية في المجتمع .
فثقة الناس بالمرء من الأمانة التي قال الله فيها : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .

فلأجل الثقة يسمع المرء ويطيع للغير ديانة ، وبها يُولّى الإنسان دماء آخرين .
ولأجل الثقة يعتمد أناس على آخرين لحفظ أغلى ما يملكون من شرف وعرض .
أصون عرضي بمال لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
ولثقة القوم بأمانة آحاد الناس يسندون إليه إدارة عصب حياتهم " المال " .
ودافع الثقة والارتياح بأصحاب التربية والتوجيه فتح الناس لهم عقولهم ، وعقول من تحت أيديهم قبل مسامعهم .
ولقوة الثقة بآحاد الناس يسرّ إليه بأمور عظام ما بين عامة وخاصة .
ومتى ما قويت الثقة والارتياح نتج عنه قوة في الاعتماد والاتكال ، بل قد يتعدى إلى أبعد من ذلك وهو الدعاء والثناء الحسن ، وإرشاد الآخرين إلى من اتصف بهذه الثقة ؛ لقلة ذلك وندرته .
فالمرء الذي تثق فيه ، وترتاح إليه ، ويكون عند حسن ظنك به ، ويتصف بالوفاء والعهد ، وتأمن منه جانب الغدر والخيانة أندر من الكبريت الأحمر، فعض عليه بالنواجذ.
فهذا الشاعر المخضرم لبيد ببن ربيعة الذي يقطر قلبه دماً وحسرة لذهاب منهم أهلاً ليكونوا محل ثقة وعتزاز حيث صور ذلك بقوله :

ذهب الذين يُعاش في أكنافِهِم * وبقيت في خلف كجلدِ الأجربِ
يتآكلون خيانة ومذمَّة * ويعابُ قائلهم وإن لم يشغبِِ

ثم تقول أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنها يرحم الله لبيداً كيف لو أدرك زماننا ! .
ولقلة من يتصف بالوفاء والعهد ويكون عند حسن ظن الآخرين به في زمن مضى في العهد الذي عاش فيه محمد بن المرزبان المتوفى سنة 309هـ ، الذي يُعد هذا العهد من خيرة العهود حملته معاملة أهل زمانه إلى تسطير كتاب فيه شيء من الغرابة ليثبت أن بعض الحيوانات التي فُضل عليها بنو آدم خير من كثير من البشر ، فعنوان كتابه يدل على مضمونه " فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب " . فحشد فيه من الأبيات الشعرية والقصص القديمة والمعاصرة له لدناءة بعض الناس وخسته ، وغدره ومراوغته التي قد يظنها القارئ أنها من أساطير من اتصف بروح التشائم .
ولضعف بعض النفوس فقد يستغل من وثق فيه وأحسن الظن فيه من صديق ، أوقريب ، أومَنْ أسند إليه مهمة وأمانته ....
أوصى بعضهم بقوله : ذهب زمن الأنس ، فاحتفظ من صديقك كما تحتفظ من عدوك ، وقدم الحزم في كل الأمور ، وإياك أن تكاشفه بسرك فيجاهرك به في وقت الشر .

وأنشد زيد بن علي :
احذر مودة ماذق خلط المرارة بالحلاوة
يحصي الذنوب عليك أيام الصداقة للعداوة

وسئل بعض الحكماء : أي الناس أحق أن يتقى ؟ قال : عدو قوي ، وسلطان غشوم ، وصديق مخادع .
قال ابن حزم : طريق من اُمتحن أن يخالط الناس وعرة المسالك ، شاقة المتكلف ؛ يحتاج سالكها إلى أن يكون أهدى من القطا ، واحذر من العَقْعَق *.
وغدر وخيانة من هو محل ثقة وارتياح أشد ملامة وخسة ممن لم يُوثق فيه أصلاً فهو في مأمن من جانب الحيطة والحذر ، فخيانة الجار لجاره دناءة وبعد عن شيم الرجال في حكم الدين ، وعند الناس ، وأكثر ملامة ممن هو من الأباعد .
فعن النبي  صلى الله عليه وسلم  أنه قال : " لا يدخل الجنة مَنْ لا يأمن جاره بوائقه ".
ويصور  صلى الله عليه وسلم  صورة مَنْ يؤمن جانبه أكثر من غيره إذا أُطلق له الحبل على الغارب بالموت ، فقد قال : " إياكم والدخل على النساء ، فقال رجل من الأنصار : أفرأيت الحمو ؟ قال : الحمو الموت " .
ومن أعظم المصائب التي يصاب بها المجتمع ، وتكون مانعاً قوياً من موانع التقدم في جميع المجالات ، بل ينتج عنه انتشار التخلف بجميع صوره وأشكاله ؛ ندرة الأكفاء ، ومن هو أهلٌ لأن يكون محل ثقة ومسؤولية ، ومن يكون الاتصاف بالوفاء بالعهد والميثاق ديدنه ، ومن يبتعد عن الأنانية ، ومن يكون الاهتمام بالدين شعاره .
ومع ندرة هذه العينات نجد عند إسناد مسؤولية من مسؤوليات المجتمع لا ينظر إلى هذه العينات ، وإنما ينظر إلى عوامل أخرى من المحسوبيات فتصير للكع بن لكع ، ومنهم أسافل الناس الذي على إثره تُعدم الثقة ، وتضيع الأمانة ، وتنتشر الخيانة ؛ مصداقاً لقول النبي  صلى الله عليه وسلم  : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " ، قيل : كيف أضاعتها يا رسول الله ؟ قال : " إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " . مما يبرهن على عدم اكتراث الناس بدينهم سيما من بيده الحل والعقد .
فتَحِلُ السنوات الخداعة التي أخبر عنها المصطفى  صلى الله عليه وسلم  التي تنعكس فيها الأمور : يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين .
فهذه السنوات ليست بعيدة عن زماننا هذا ، والله المستعان .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 

أخوكم
إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
ams2041@naseej.com
 

ـــــــــــــــ
* ـ القطا : طائر كالحمام ، و العَقْعَق : طائر على شكل الغراب ، يوصف بالحذر .
 

مقالات الفوائد