اطبع هذه الصفحة


ثلاثة عقود في المكر للإسلام

عَبدَالله آل معَدِّي


بسم الله الرحمن الرحيم


على الرغم من كثرة الحروب الإسلامية الصليبية إلا أن المواجهة رجلاً لرجل أو ربما رجلاً لعشرة رجال غالباً ما تكون في صالح المسلمين: " لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر " . ولذلك طالما اتخذ الأعداء مؤخراً وسائل أقل تكلفة وأرخص ثمناً وأخفى مكراً. مثلما فعل ( ليون روش) الذي تسمى بـ ( عمر بن عبدالله ) أثناء استعمار فرنسا للجزائر – كما ستقرأ أدناه-.

واعلم – وهذا بيت القصيد – أنه كما كانوا يمكرون في حروبهم المادية بالأمس فكذلك هم أشد مكراً في حروبهم المعنوية اليوم، وما استغلالهم لمنصات التواصل، وشرائهم ذمم بعض المشاهير، ودعمهم لهم، إلا دليل على ذلك، فإن كان ( ليون روش) قد كان يبذل لخبثه مثل هذا الدهاء قبل قرابة مئتي سنة فما الظن بـ (روش اليوم ) الذي يلبس لبوسه عدة أشخاص تابعين لأكثر من ديانة يسعون لهدف واحد هو تجفيف منابع الإسلام!

نشأة ( ليون (روش) ) وتعلمه العربية:

ولد ليون (روش) في فرنسا عام 1224هـ، ولما شب دعاه والده الملتحق بالجيش الفرنسي المحتل للجزائر للعمل معه في مزرعته، فقدم (روش) للجزائر، وساعد والده، ومع مرور الوقت رأى أن يتعلم العربية وهذا ما حصل فعلاً على يد معلم جزائري وذلك ليتمكن من التحدث مع الأجراء الجزائريين الذين كانوا يعملون في مزرعة والده، ولأهداف أخرى شخصية.

ارتباطه بالجيش الفرنسي:

وكان (روش) يخرج مع بعض الضباط الفرنسيين الذين تعرف عليهم للصيد، وشيئاً فشيئاً حتى قدمه والده للالتحاق بالجيش الفرنسي وهذا ما حصل، ثم أصبح مترجماً في الإدارة الفرنسية.

وأصبح سكرتير الأمير عبدالقادر:

ومع مرور الزمن ونتيجة لدهائه أظهر (روش) إسلامه الكاذب وبدأ تعلم الصلاة وأصول الإسلام، وهل كان ذلك بإيعاز من المستعمر الفرنسي أم رغبة شخصية منه هناك خلاف في ذلك، المهم أنه تظاهر بالإسلام وبدأ مغامرته وأبدى كذباً وخداعاً رغبته بالالتحاق بجيش الأمير عبدالقادر الجزائري -المناوئ للاستعمار آنذاك- ففرح الناس بإسلامه، وبالغوا ووثقوا فيه حتى إنه تمكن من الزواج بإحدى المسلمات، وبعد التحاقه بالجيش ولما رأى ثقتهم هذه استغلها بالمكر الكبار وبدأ بجمع المعلومات اللازمة عن الأمير عبدالقادر تهيئة للتجسس عليه، وسعى (روش) لمقابلة الأمير عبدالقادر عن طريق أحد المقربين منه وفعلاً حصل ما أراد، ولما قابله أبلغه بإسلامه واسمه الجديد: (عمر بن عبدالله) فسُرّ به كثيراً.

وقد شك فيه بعض الجزائريين، واعتبره أحد قادة عبدالقادر جاسوساً وكاد أن يعدمه لولا أن (روش) رد عليه  بأنه لا يجوز له ذلك في الإسلام إلا بإذن الأمير -وهذا يدل على اطلاعه على بعض أحكام الإسلام وتمكنه من ذلك- ، ثم مضى (روش) للأمير وأبلغه بما حصل وهو يتظاهر بالبكاء، وبالغ في ذلك فرقّ له الأمير ووعده بأن يدنيه منه، وهكذا ترقّى (روش) حتى أصبح سكرتيره الخاص!! وأمِن المسلمون جانبه بعد ذلك نتيجة تأمين الأمير له، وصفا الجو لـ(روش) حتى إنه كان يحضر مجالس الأمير السرية! التي لا يحضرها إلا كبار القادة والمقربين جداً من الأمير، حتى اطلع أكثر وأكثر ثم شرع في كتابة التقارير وإرسالها للفرنسيين سراً، يعرّفهم بأحوال الأمير عبدالقادر السياسية والعسكرية والمالية وغيرها.

أعماله التخريبية:

واستغل ثقة الأمير به وتولية الأمير له بعض الشأن، فكان يخطط ليوقِع بين القوى الجزائرية وبين عبدالقادر ليصرف الجميع عن قتال الفرنسيين إلى قتالهم بينهم، وبذكائه ساهم في تغيير بعض آراء الأمير العسكرية، وتبذير ذخيرته، وتخريب مصانعه الحربية البدائية، واطّلع على مصادر قوة المسلمين وأسرارهم، كل ذلك وهو بثوب الناصح الأمين!

هروبه من عبدالقادر:

ولما أعلن الأمير الجهاد مرة ضد المستعمر الفرنسي رفض (روش) هذه الفكرة، وانفجر غاضباً معلناً أنه نصراني، فظن الأمير أن (روش) كان منفعلاً لأمر ما فلم يؤاخذه على قوله، ثم نصحه وتركه حتى يهدأ ولم يخبر بذلك أحداً، وسافر الأمير إلى مدينة (تلمسان) لإعداد جيوشه للجهاد، وترك (روش) دون أن يأمره بشيء!
فانتهز (روش) الفرصة فقام بسرقة بعض الوثائق كخريطة الجزائر وجهازَ البوصلة وخاتَمه، وأخذ عدداً من الرسائل لخداع من يعترض طريقه بأنه في مهمة للأمير، ثم زعم لخاصة الأمير أن الأمير أوفده إلى مدينة أخرى وذلك ليجتنب متابعتهم! ثم هرب!
كان ذلك (1837م-1839م)

عودته للجيش الفرنسي:

وعاد (روش) للجيش الفرنسي (1839م-1844م ) فكُلِّف بكتابة كل ما يعرفه عن الأمير والقبائل والرجال، وكذا أسماء الموالين لفرنسا، ثم كرمته فرنسا وقلدته منصباً عسكرياً مهماً.
وقام (روش) كذلك بالشروع في جمع فتوى من علماء المسلمين تحرم قتال الفرنسيين، وذلك لأن (روش) رأى حين كان متظاهراً بالإسلام أن مصدر قوة المسلمين هو تمسكهم بدينهم فأراد أن يأتيهم منه!
فبدأ بمراسلة رؤساء الصوفية لأنه يعلم أنهم ينقمون على الأمير عبدالقادر جهاده للفرنسيين[1]، ففرح الصوفية بذلك، ثم اصطحبهم معه للسفر إلى تونس لإصدار الفتوى من علماء القيروان.

ولما وصلوا هناك كان (روش) يرتدي لباسا إسلامياً زيادةً في التمويه على الناس، وفعلاً نال الفتوى من العلماء هناك بمساعدة الصوفية، ثم رأى تعزيز الفتوى فاتجه للأزهر وفعلاً صادقها علماؤه، ثم سافر للحجاز فصادقها أيضاً شريفُ مكة وعلماؤها، ثم بعث بنصّها لحاكم فرنسا على الجزائر الجنرال (بيجو) فرأى الأخير أن يختم تحتها لخداع العامة قوله تعالى: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين) وقيل إن الذي أشار له بذلك هو (روش نفسه)! وقاموا بتوزيعها على بعض القبائل الذين فرحوا بها طلباً للراحة، ونظراً لضعف المقاومة..

وجدير بالذكر أن (روش) كاد أن يُقبض عليه في رحلته للحجاز، وذلك لما عرفه بعض الحجاج الجزائريين في عرفة، لكن رجال شريف مكة الذين كانوا يتابعونه من بعيد بأمر منه تداركوه واحتملوه، ونقلوه سريعاً على دابة بعيداً عن المشاعر إلى جدة؛ فنجى...

بقي أن تعلم أن (روش) هذا عاش 32 سنة من عمره متظاهراً بالإسلام لأجل نصرانيته وبلاده[2]. [3]

وبعد هذه السيرة العجيبة لهذا الماكر الخبيث:

أنا وأنت حيال أمرين لا ثالث لهما: إما العمل للحق كما عمل (روش) لباطله، وذلك بفكرة أو مشروع أو برنامج شخصي أو جماعي؛ فأولئك سيرى الله عملهم ورسوله والمؤمنون وسيرون خيراً لا من أعمالهم فقط بل من مثاقيل الذر من أعمالهم.
أو الرضى بالقعود مع القاعدين الذين قد يكونوا كره الله انبعاثهم فثبطهم، والذين لاتجد منهم إلا التعجب منها فقط وقضاء باقي النهار في روايتها وأولئك ليتذكروا قوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)!

-------------------------------------
[1]  مع التحفظ على عقيدة الأمير عبدالقادر حيث دار حولها لغط كبير لما نسب له بعض الكتب التي فيها حيدة عن العقيدة السليمة، وأنكر بعضهم نسبته له، والله أعلم.
[2]  يدور حول مذكرات (روش) تساؤلات كثيرة وشكوك منها ما يدور حول حقيقة هذه المذكرات وتشابهها مع مذكرات رحالة آخرين خاصة فيما يتعلق بوصفه للحجاز! ومنها غرابة تأخر تدوينها، حيث لم ينشر هذه المذكرات إلا بعد سنوات طوال!
[3] انظر المصادر: [اثنتان وثلاثون سنة في رحاب الإسلام، ليون (روش)، نقلها للعربية محمود خير البقاعي] و [مهمة ليون (روش) في الجزائر والمغرب، يوسف مناصرية].