المقاومة السلبية ...هل تنجح ؟

نجاح غير عادي أن يدرك حلفاء اليهود أن دعمهم لإسرائيل يكلفهم الكثير ، وأن صبر العرب والمسلمين إزاء انحيازهم المكشوف لليهود آخذ في النفاد .

البارحة ( ليلة الأربعاء 3 رمضان 1421هـ) أعلنت إذاعة ( b b c) البريطانية أن شبكة مطاعم ( ماكدونالدز) تبرعت بريال من قيمة كل وجبة لمستشفيات الأطفال الفلسطينية ، وذلك بسبب الخسائر التي منيت بها بعد الانتفاضة .

إن أبرز ميزة في هذه الأمة ، في هذا الظرف ، هي كثرتها العددية ، وقلة فاعليتها ، وحتى هذه يمكن استثمارها وتوظيفها في الأدوار السهلة ، التي تحتاج إلى أعداد كبيرة ، ولا تتطلب جهدا متميزا ، ولا وقتا طويلا ، وعملية الهجوم على المواقع اليهودية في الإنترنت وتدميرها نموذج لهذا الاستثمار .

كما أن المقاطعة للبضائع اليهودية والأمريكية هي نموذج آخر .

ففي صيف 1997م ، وبعد حملة دامت أربعة أشهر قدمت شركة نايكي ( nike ) اعتذارا للمسلمين في العالم ، وأوقفت مبيعات أحذية ظهر فيها ما يبدو أنه لفظ الجلالة ، وتم سحبها من الأسواق .

كما أن الشركة وافقت على إعداد وتمويل دورات تدريبية لموظفيها حول آداب التعامل مع المسلمين ، على أن يتم ذلك بالتشاور مع ممثلين للجالية الإسلامية في الولايات المتحدة . كما وعدت الشركة بإقامة ملاعب للأطفال المسلمين في عدة مدن أمريكية ، وقد تم بناء أحد هذه الملاعب .

وفي أغسطس 1999م وبعد ضغط من عدة منظمات إسلامية ودول عربية أعلنت شركة برجر كنج ( BURGER KING ) إلغاءها لمشروع المطعم الذي قررت تدشينه في الضفة الغربية .

وقد قاد الحملة ضد الشركة منظمة ( A M J ) ( المسلمون الأمريكان للقدس) بالتعاون مع منظمة كير ( CAIR ) وطلبوا من الشركة إلغاء المطعم ؛ لأنه في أراض محتلة ، فخضعت الشركة للضغوط الإسلامية لكنها لم توف بوعدها ، فجددت المقاطعة لها مرة أخرى . وما زالت .

إن سلاح المقاطعة الاقتصادية من الأسلحة الفعالة ، والمستخدمة منذ عصر حصار الشعب إلى العصر الحديث ، حيث تتعاظم قيمة الاقتصاد .

ولذلك استماتت الولايات المتحدة في تدمير المقاطعة العربية والإسلامية للشركات والبضائع اليهودية ، وللشركات المتعاملة مع اليهود .

وبالفعل ، فقد تهتكت المقاطعة ، وصارت أثرا بعد عين ، ويبدو أنه من المستبعد حدوث مقاطعة رسمية شبيهة في ظل العولمة الاقتصادية التي تسعى إلى محو الحدود التجارية بين الدول ، بما لا يسمح لأي دولة أن تتصرف وفق مصالحها الوطنية والقومية .

لكن الشيء الذي يمكن أن يحدث هو المقاطعة الشعبية حين ترتفع وتيرة الوعي لدى الشعوب المسلمة ، بحيث يختار المشتري البضائع والسلع والشركات العربية والإسلامية ، أو حتى أيّ بضاعة أخرى ليست أمريكية ولا إسرائيلية .

ولا أحد يستطيع أن يجبر المواطن العادي على شراء سلعة بعينها ، أو التعاون مع شركة بعينها ، أو عرض منتجات هذا المصنع أو ذاك .

وهذا ما فعله غاندي (1869-1948) بمقاومته السلبية ، ومقاطعته للعادات والمنتجات الأوربية ، وحمله الهنود على هذا الأسلوب رغم تخلفهم ، وعدم وجود قرار يدعمهم .. حتى آتت تلك الجهود أكلها وأعلنت بريطانيا سحب آخر جندي إنجليزي من الهند سنة 1947م .

وإذا كان من السذاجة أن نتصور أن المقاطعة ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي أو اليهودي ، فإننا يمكن أن نجزم بأن أرباح الكثير من الشركات والمؤسسات ستتراجع قليلا أو كثيرا ، وهذا سيحدوهم إلى إعادة النظر في مواقفهم ، وسيضطرهم إلى البحث عن الأسباب ومعالجتها وفق مصالحهم المادية , لا سيما إذا علمنا أن أصحاب رؤس الأموال في هذه الدول لهم نفوذ سياسي قوي .

لقد ألحقت المقاطعة العربية بإسرائيل خسائر تقدر بـ 48 مليار دولار منذ قامت المقاطعة .

وبالأمس نشرت جريدة الحياة ، (28 /شعبان /1421هـ ) في صفحتها الاقتصادية أن خسائر شركات التكنولوجيا اليهودية في الولايات المتحدة بلغت منذ بداية الانتفاضة المباركة عشرين مليار دولار ، نعم أؤكد أن الرقم صحيح :عشرين مليار دولار .

نعم قد يكون هناك انخفاض عام في هذا القطاع ، وقد تؤثر تجاذبات الانتخابات الرئاسية ، لكن لا يمكن التهوين من أثر الانتفاضة بحال .

وأصدق إخواني القول : لقد كنت أداري ابتسامة ساخرة على شفتي وأنا أقرأ سؤالا ورد إلي من بعض الإخوة في مصر قبل أسابيع يتخوف فيه من أثار المقاطعة على المسلمين العاملين في تلك الشركات ، وإمكانية فقدانهم أعمالهم .. وقد قلت في نفسي :

أبشر بطول سلامة يا مربع ‍

ثم أردفت : يبدو أن الأخ الكريم أخذ الأمر بجدية كبيرة ، وأنه مفرط في التفاؤل .

وما هي إلا أيام حتى أعلنت شركة سانسيبري أنها لا تساند اليهود ، وأكدت مصادر إعلامية أن بعض هذه الشركات قد انخفضت مبيعاتها في مصر

إلى 80 % ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ، ونشر في بعض الصحف صرخة باسم الموظفين العاملين في تلك الشركات بأنهم سيواجهون التشريد بسبب هذه المقاطعة .

إن أمريكا تمارس سياسة المقاطعة ، أو ما تسميه هي بالعقوبات الاقتصادية ضد شعوب بأكملها مما جعلها تعاني من الموت والدمار دون أن يستدر ذلك عطف الأمريكان أو شفقتهم ، ولم تتحرك في ضمائرهم أية لوعة من أجل صور الأطفال الجياع البائسين .

وما بين عامي 1993- 1996م استخدمت الإدارة الأمريكية سلاح المقاطعة الاقتصادية ستين مرة ضد 35 بلداً ، وأحيانا بحجج واهية نفخت فيها المصالح السياسية ، ويقدم كتاب " العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الأمريكية " من تأليف : ريتشارد هاس معلومات مهمة حول أهداف العقوبات ونتائجها.

فلماذا يتردد المسلمون في استخدام سلاح المقاطعة السلبية ، ليؤدي بعض النتائج ، أو ليشعر المسلم على الأقل بأن ثمت دورا ولو محدودا يستطيع أن يقوم به ؟

إنه جزء من الإنكار القلبي أو العملي السهل الذي لا يخسر فيه المرء أكثر من أن يختار بضاعة عربية أو إسلامية أو يابانية ، أو حتى أوربية عند الحاجة وربما تكون بالميزات نفسها ، وبالسعر نفسه .

وفي قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة عبرة ، فقد قرر ألا يصل إلى كفار مكة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( البخاري 4024- ومسلم 003310) فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الميرة بعدما اشتكوا إليه الجوع والمسغبة .

وهذا كما أنه دليل على مشروعية استخدام هذا الأسلوب ، إلا أنه دليل على الروح الإنسانية الصادقة التي تميز بها الإسلام ، وحكم بها العالم ردحا من

الزمان ،،،

ملكنا فكان الصفح منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

ولا عجب هذا التفاوت بيننـا *** فكل إناء بالذي فيه ينضـح

وفي سبيل تفعيل هذه المقاطعة لا بد من :

أولا ًً : تعدد اللجان والمواقع الساهرة على إحيائها وتنظيمها ومواصلتها ، وتواصل المسلمين مع جميع القنوات ومنها المواقع الإلكترونية ،و اللجان الشعبية والفتاوى والتصريحات والأخبار للتعرف على الجديد ، والتوثق من المعلومات ، ولا بد من الإشادة بالمبادرات السباقة في هذا الإطار ،كالمؤتمرات واللجان المختصة في الأردن والسودان ولبنان والخليج وغيرها

ثانيا : الوعي الشعبي الشامل ، بحيث لا تكون هذه أفكار شريحة خاصة ، أو نخبة معينة ، وجمهور الناس بمعزل عنها ، هذه تبعات يسيرة يجب أن يتحملها الطفل الصغير ، كما يتحملها الشيخ الطاعن ، والعجوز الفانية ، ويتحملها المثقف كما يتحملها البقال ، وما لم يتم توسيع رقعة هذا الوعي وتلك القناعة ، فلن يكون ثمت مقاطعة حقيقية .

وجدير بالاهتمام أن نشر الفتاوى الشرعية يدعم هذا التوجه ، وقد صدر عدة فتاوى عن شيوخ أجلة ، وحبذا أن يصدر شيء كهذا عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية ولجان الفتوى في العالم الإسلامي ، وذلك حتى يفهم الناس أن المقاطعة هي مطلب شرعي إلى جانب كونها ضرورة وطنية .

ثالثا : المرحلية ، إذ إن الاستغناء عن جميع تلك السلع يعتبر أمرا غير واقعي بالنظر إلى جماهير الناس ، وسرعة ركونهم إلى الرخاء والرفاهية ، وتأثرهم بالدعاية المضادة ، وبالنظر إلى تداخل العالم وتواصله وصعوبة الإبحار ضد التيار لدى العامة فلا بد من تركيز الجهد على :

أ –مقاطعة الشركات والسلع اليهودية ، خصوصا في الدول التي تتعامل اقتصاديا مع إسرائيل ، وفي البلدان غير الإسلامية . ويجب التعرف على هذه الشركات بصورة جيدة ، والاستفادة في هذا من قوائم اللجان المسؤولة عن المقاطعة العربية السابقة لإسرائيل ، ومن الكتب المتخصصة ، ومنها : كتاب " اللوبي اليهودي في العالم "من تأليف : نديم عبدة ، مع مراعاة التحديث ، وعدم الاكتفاء بالمعلومات التاريخية .

ب – مقاطعة الشركات الأمريكية الداعمة لإسرائيل ، أو المتعاطفة مع اليهود ، خصوصا الشركات الكبرى ، والتي يوجد لها بدائل جدية كشركات السيارات ، والأغذية ، والملابس ، والأثاث ، والتجميل ، والمصارف ، والإعلام ، والتكنولوجيا …

يجب أن نضع المسلم العادي أمام مسئوليته المتواضعة ، ونساعده على أدائها ، ونهتف بصدق للنجاح الذي يحققه ، ومن هذا الإنجاز الفردي القليل سيحفر نهر التحرير مجراه ، وتتحرك دوافع الإيجابية و المشاركة في ضمير الأمة، وبهذا تتحول ( الصيحات الغامضة ) إلى برنامج علمي واقعي معقول …

فهل بدأنا .. ؟
أشك ، وأتمنى .

أما التمني … فشاهده في قلب كل مسلم .

أما الشك فشاهده شاعر النيل الصوفي المتألق :
( محمود حسن إسماعيل ) (1327-1397هـ)في صرخته :
(( طريق الضياء )) معبراً عن مأساة النازحين :
بدأنا نمزق ثوب العدم *** ونلطم بالحق وجه السُّدُم
بدأنا كما بدأ الهالكون *** إذا الصور في جانبيهم ألم ّْ
بدأنا كما بدأ التائهون *** رمى الفجرَ في ناظريهم علم
بدأنا كما انتبه الضائعون *** على صيحة من هدير القمم
بدأنا كما انتفض اليائسون ***على ثورة النور في ليلهم
بدأنا وفينا الأسى والهوان *** وفينا العذاب ، وفينا السقم
وفينا .. وفينا
وفينا المظالم والظالمون *** وحوش ، وبيد ، ومرعى غنم
وفينا الكرامة مهجورة ***  كمحصنة لوثتها التهم
وفينا المذلة للغاشمين ***  كأنا ولولم يشاءوا خدم
وفينا الدسيسة قدِّيسةٌ ***  تدس الردى في عبير وسمّْ...
ودقت علينا طبول السماء  ***  فقمنا لها من رفات الحُُلُم
صحونا وكنا الرماد الهشيم ***  فعدنا اللظى الصارخ المحتدم
تباركت يارب ..هذا الجحيم *** من الرق ما كابدته أُمم
بدأنا ندمر طاغوته ***  وطغيانه الزاخر المرتطم

بدأنا نشق طريق الحياة *** لفانين شابوا بوادي العدم..

كتبه / سلمان بن فهد العودة
4 /9 /1421 هـ